قوله وجلت لي الأرض مسجدا وطهورا .
الثالث : قوله A [ وجعلت لي الأرض مسجدا ] المسجد : موضع السجود في الأصل ثم يطلق في العرف على المكان المبني للصلاة التي السجود منها وعلى هذا : فيمكن أن يجمل المسجد ههنا على الوضع اللغوي أي جعلت لي الأرض كلها مسجدا أعني موضع السجود أي لا يختص السجود منها بموضع دون غيره ويمكن أن تجعل مجازا عن المكان المبني للصلاة لأنه لما جازت الصلاة جميعها كانت كالمسجد في ذلك فإطلاق اسمه عليها من مجاز التشبيه والذي يقرب هذا التأويل : أن الظاهر أنه إنما أريد : أنها مواضع للصلاة بجملتها ولا للسجود فقط منها لأنه لم ينقل : أن الأمم الماضية كانت تخص السجود وحده بموضع دون موضع .
الرابع : قوله A [ طهورا ] استدل به على أمور .
أحدها : أن الطهور هو المطهر لغيره ووجه الدليل : أنه ذكر خصوصيته بكونها طهورا أي مطهرا ولو كان الطهور هو الطاهر : لم تثبت الخصوصية فإن في طهارة الأرض عامة في حق كل الأمم .
الأمر الثاني : استدل به من جوز التيمم بجميع أجزاء الأرض لعموم قوله [ جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ] والذين خصوا التيمم بالتراب : استدلوا بما جاء في الحديث الآخر [ وجعلت تربتها لنا طهورا ] وهذا خاص ينبغي أن يحمل عليه العام وتختص الطهورية بالتراب .
واعترض على هذا بوجوه منها : منع كون التربة مرادفة للتراب وادعى أن تربة كل مكان : ما فيه من تراب أو غيره مما يقاربه .
ومنها : أنه مفهوم لقب أعني تعليق الحكم بالتربة ومفهوم اللقب : ضعيف عند أرباب الأصول وقالوا : لم يقل به إلا الدقاق .
ويمكن أن يجاب عن هذا : بأن في الحديث قرينة زائدة عن مجرد تعليق الحكم بالتربة وهو الافتراق في اللفظ بين جعلها مسجدا وجعل ترتبها طهورا على ما في ذلك الحديث .
وهذا الافتراق في هذا السياق قد يدل على الافتراق في الحكم وإلا لعطف أحدهما على الآخر نسقا كما في الحديث الذي ذكره المصنف .
ومنها : أن الحديث المذكور الذي خصت فيه التربة بالطهورية لو سلم أن مفهومه معمول به لكان الحديث الآخر بمنطوقه يدل على طهورية بقية أجزاء الأرض أعني قوله A [ مسجدا وطهورا ] فإذا تعارض في غير التراب دلالة المفهوم الذي يقتضي عدم طهوريته ودلالة المنطوق الذي يقتضي طهوريته فالمنطوق مقدم على المفهوم .
وقد قالوا : إن المفهوم يخصص العموم فتمتنع هذه الأولوية إذا سلم المفهوم هنا وقد أشار بعضهم إلى خلاف هذه القاعدة أعني تخصيص العموم بالمفهوم ثم عليك - بعد هذا كله - بالنظر في معنى ما أسلفناه من حاجة التخصيص إلى التعارض بينه وبين العموم في محله .
الأمر الثالث : أخذ منه بعض المالكية : أن لفظة طهور تستعمل لا بالنسبة إلى الحدث ولا الخبث وقال : إن الصعيد قد يسمى طهور وليس عن حدث ولا عن خبث لان التيمم لا يرفع الحدث هذا أو معناه وجعل ذلك جوابا عن استدلال الشافعية على نجاسة فم الكلب لقوله A [ طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب : أن يغسله سبعا ] فقالوا طهور يستعمل إما عن حدث أو خبث ولا حدث على الإناء فيتعين أن يكون عن خبث .
فمنع هذا المجيب المالكي الحصر وقال : إن لفظة طهور تستعمل في إباحة الاستعمال كما في التراب إذا لا يرفع الحدث كما قلنا فيكون قوله [ طهور إناء أحدكم ] مستعملا في إباحة استعماله أعني الإناء كما في التيمم .
وفي هذا عندي نظر فإن التيمم - وإن قلنا : إنه لا يرفع الحدث - لكنه عن حدث أي الموجب لفعله حدث وفرق بين قولنا إنه عن حدث وبين قولنا إنه لا يرفع الحدث وربما تقدم هذا أو بعضه .
الخامس : قوله A [ فأيما رجل من أمتي أدركته لا صلاة فليصل ] مما يستدل به على عموم التيمم بأجزاء الأرض لأن قوله A [ أيما رجل ] صيغة عموم فيدخل تحته من لم يجد تراب ووجد غيره من أجزاء الأرض ومن خص التيمم بالتراب يحتاج أن يقيم دليلا يخص به هذا العموم أو يقول : دل الحديث على أنه يصلي وأنا أقول بذلك فمن لم يجد ماء ولا ترابا : صلى على حسب حاله فأقول بموجب الحديث إلا أنه قد جاء في رواية أخرى [ فعنده طهوره ومسجده ] والحديث إذا اجتمعت طرقه فسر بعضها بعضا .
السادس : قوله A [ وأحلت لي الغنائم ] يحتمل أن يراد به : جواز أن يتصرف فيها كيف شاء ويقسمها كما أراد كما في قوله D { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول } ويحتمل أ يراد به : لم يحل منها شيء لغيره وأمته وفي بعض الأحاديث ما يشعر ظاهره بذلك ويحتمل أن يراد بالغنائم بعضها وفي بعض الأحاديث [ وأحل لنا الخمس ] أو كما قال أخرجه ابن حبان - بكسر الحاء وبعدها باء موحدة - في صحيحه