باب السلم .
وهو نوع من البيع يصح بألفاظه وبلفظ السلم والسلف ويعتبر فيه شروط البيع ويزيد عليه بشروط : منها أن يكون مما يمكن ضبط صفاته التي يختلف الثمن باختلافها ظاهرا كالمكيل أو الموزون أو المذروع أو المعدود - لأنه بيع بصفة فيشترط للكل إمكان ضبطها - لما روي [ عن النبي A أنه قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث فقال : من أسلف فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم ] متفق عليه فثبت جواز السلم في ذلك بالخبر وقسنا عليه ما يضبط بالصفة لأنه في معناه فأما المعدود المختلف كالحيوان والفواكه والبقول والجلود والرءوس ونحوها ففي الحيوان روايتان : إحداهما لا يصح السلم فيه لما روى عن ابن عمر أنه قال : [ إن من الربا أبوابا لا تخفى وإن منها السلم في السن ] رواه الجوزجاني ولأن الحيوان يختلف اختلافا متباينا فلا يمكن ضبطه وإن استقصى صفاته التي يختلف فيها الثمن تعذر تسليمه مثل أزج الحاجبين أكحل العينين أقنى الأنف أشم العرنين أهدب الأشفار فأشبه السلم في الحوامل من الحيوان وعنه صحة السلم فيه وهو ظاهر المذهب لأن أبا رافع قال : [ استسلف النبي A من رجل بكرا ] رواه مسلم وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال : [ أمرني النبي A أن أبتاع له البعير بالبعيرين وبالأبعرة إلى مجئ الصدقة ] ولأنه ثبت في الذمة صداقا فثبت في السلم كالثياب وأما حديث ابن عمر فهو محمول على أنهم كانوا يشترطون من ضراب فحل بني فلان كذلك قال الشعبي : إنما كره ابن مسعود السلم في الحيوان لأنهم اشترطوا لقاح فحل معلوم رواه سعيد ولو أضافه إلى لقاح بني فلان لقبيلة كبيرة أو بلد كبير صح كما إذا أضاف إلى غلة بلد كبير أو قرية كبيرة وقد روى حديث علي أنه باع جملا له يدعى عصيفير بعشرين بعيرا إلى أجل وهو قول ابن مسعود وابن عباس وابن عمر .
( فصل ) وأما الفواكه والمعدودات كالجوز والبيض والبطيخ والرمان والبقول ونحوها ففيها روايتان : إحداهما لا يصح لما ذكرناه في الحيوان وأنه لا يمكن ضبطه بالصفات المقصودة التي يختلف بها الثمن والثانية يصح لأن التفاوت يسير ويمكن ضبطه : بعضه بالصغر والكبر وبعضه بالوزن فصح السلم فيه كالمذروع .
( فصل ) وفي الرءوس والأطراف والجلود مثل ذلك أما الرءوس ففيها روايتان أيضا : إحداهما لا يجوز السلم فيها لأن أكثرها عظام واللحم فيها قليل والثانية يصح لأنه لحم فيه عظم يجوز شراؤه فجاز السلم فيه كبقية اللحم وكثرة العظام لا تمنع بيعه فلا تمنع السلم فيه والجلود تختلف أيضا فالورك ثخين قوي والصدر ثخين رخو والبطن رقيق ضعيف والظهر قوي فيحتاج إلى وصف كل موضع فيه ولا يمكن ذرعه لاختلاف أطرافه فلا يجوز السلم فيه ووجه الجواز أن التفاوت فيه معلوم فلم يمنع صحة السلم فيه فكذلك هاهنا .
الشرط الثاني : أن يصفه بما يختلف به الثمن ظاهرا فيذكر جنسه ونوعه وقدره وبلده وحداثته وقدمه وجودته ورداءته لأن السلم عوض يثبت في الذمة فلا بد من كونه معلوما بالوصف كالثمن ولأن العلم شرط في البيع وطريقه إما الرؤية أو الوصف والرؤية ممتنعة في المسلم فيه فيتعين الوصف فيذكر الجنس والنوع والجودة والرداءة فهذه مجمع عليها وما سوى ذلك فيه خلاف وما لا يختلف به الثمن لا يحتاج إلى ذكره لأن العوض لا يختلف باختلافها ولا يضر جهالتها .
الشرط الثالث : أن يذكر قدره بالكيل في المكيل والوزن في الموزون والذرع في المذروع لحديث ابن عباس في أول الباب ولأنه عوض غير مشاهد ثبت في الذمة فاشترط معرفة قدره كالثمن فلو أسلم في المكيل وزنا أو في الموزون كيلا لم يصح لأنه مبيع اشترط معرفة قدره فلم يجز بغير ما هو مقدر به كالربويات وعنه ما يدل على الجواز لأنه يخرجه عن الجهالة وهو الغرض .
744 - ـ مسألة : ( فصل ) ولا بد أن يكون المكيال معلوما عند العامة فإن قدره بإناء أو صنجة بعينها غير معلومة لم يصح لأنه قد يهلك فيجهل قدره وهذا غرر لاحتياج العقد إليه .
الشرط الرابع : أن يشترط أجلا معلوما له وقع في الثمن كالشهر ونحوه فإن أسلم حالا لم يصح لحديث ابن عباس ولأن السلم إنما جاز رخصة للرفق ولا يحصل الرفق إلا بالأجل فلا يصح بدونه كالكتابة .
745 - ـ مسألة : ( فصل ) ولا بد أن يكون الأجل مقدرا بزمن معلوم للخبر فإن أسلم إلى الحصاد لم يجز لأن ابن عباس قال : لا تتبايعوا إلى الحصاد والدياس ولا تتبايعوا إلا إلى شهر معلوم ولأن ذلك يختلف فلم يجز أن يجعله أجلا كقدوم زيد وعنه أنه قال : أرجو أن لا يكون به بأس لأن عمر كان يبتاع إلى العطاء ولأنه لا يتفاوت تفاوتا كثيرا .
الشرط الخامس : أن يكون المسلم فيه عام الوجود في محله مأمون الانقطاع فيه لأن القدرة على التسليم شرط ولا تتحقق إلا بذلك فإن كان لا يوجد فيه لم يصح لذلك .
الشرط السادس : أن يقبض رأس مال السلم في مجلس العقد قبل تفرقهما لقوله E : من أسلف فليسلف في كيل معلوم والإسلاف التقديم سمي سلفا لما فيه من تقديم رأس المال فإذا تأخر لم يكن سلما فلم يصح ولأنه يصير بيع دين بدين فإن تفرقا قبل قبضه بطل وإن تفرقا قبل قبض بعضه بطل فيما لم يقبض وفي المقبوض وجهان بناء على تفريق الصفقة .
الشرط السابع : أن يسلم في الذمة فإن أسلم في عين لم يصح لأنه ربما تلف قبل وجوب تسليمه فلم يصح كما لو أسلم في مكيال معين غير معلوم القدر ولأنه يمكن بيعه في الحال فلا حاجة إلى السلم فيه .
746 - ـ مسألة : ( ويجوز السلم في شئ يقبضه أجزاء متفرقة في أوقات معلومة ) لأن كل بيع جاز في أجل واحد جاز في أجلين وآجال كبيوع الأعيان .
747 - ـ مسألة : ( وإن أسلم ثمنا واحدا في شيئين لم يجز حتى يبين ثمن كل جنس ) مثل أن يسلم دينارا في قفيز حنطة وقفيز شعير ولا يبين ثمن الحنطة من الدينار ولا ثمن الشعير لأن ما يقابل كل واحد من الجنسين مجهول فلم يصح كما لو عقد عليه عقدا مفردا بثمن مجهول ولأن فيه غررا لا نأمن الفسخ بتعذر أحدهما فلا يعرف ما يرجع به وهذا غرر يؤثر مثله في السلم .
748 - ـ مسألة : ( ومن أسلف في شئ لم يصرفه إلى غيره ) كمن أسلف في حنطة لا يجوز أن يأخذ شعيرا ومن أسلف في عسل لا يجوز أن يأخذ زيتا لقوله عليه السلام : [ من أسلف في شئ فلا يصرفه إلى غيره ] رواه أبو داود .
749 - ـ مسألة : ( ولا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه ) لأن النبي A [ نهى عن بيع الطعام قبل قبضه وعن ربح ما لم يضمن ] رواه الترمذي وقال : صحيح ولفظه لا يحل ولأنه مبيع لم يدخل في ضمانه فلم يجز بيعه كالطعام قبل قبضه .
750 - ـ مسألة : ( ولا يجوز الحوالة به ) لأنها إنما تجوز بدين مستقر والسلم يعرض للفسخ .
751 - ـ مسألة : ( وتجوز الإقالة فيه ) لأنها فسخ قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الإقالة في جميع ما أسلم فيه جائزة ولأن الإقالة فسخ للعقد ورفع له من أصله فلم يكن بيعا .
752 - ـ مسألة : ( وتجوز الإقالة في بعضه ) في إحدى الروايتين لأنها مندوب إليها وكل معروف جاز في الجميع جاز في البعض كالإبراء والإنظار وفي الأخرى لا يجوز لأن المثمن في الغالب نقل منه الثمن لأجل التأجيل فإذا أقاله في البعض بقي البعض بالباقي من الثمن وبمنفعة الجزء الذي حصلت الإقالة فيه فلم يجز كما لو اشترط ذلك في ابتداء العقد وخرج عليه الإبراء والإنظار لأنه لا يتعلق به شئ من ذلك