باب الخيار .
730 - ـ مسألة : ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما ) لما روى ابن عمر [ عن رسول الله A أنه قال : البيعان بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا أو يخير أحدهما الآخر فيتبايعا على ذلك فقد وجب البيع ] متفق عليه .
731 - ـ مسألة : ( فإن تفرقا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع ) والتفرق يكون بالأبدان فإن ابن عمر كان يمشي خطوات حتى يلزمه البيع إذا أراد لزومه ولا خلاف في لزومه بعد التفرق والمرجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم لأن الشارع علق عليه حكما ولم يبينه فدل على أنه أبقاه على ما يعرفه الناس كالقبض والإحراز فالتفرق العرفي هو التفرق بالأبدان كذلك فسره ابن عمر وتفسيره أولى لأنه راوي الحديث .
732 - ـ مسألة : ( إلا أن يشترط الخيار لهما أو لأحدهما مدة معلومة فيكونان على شرطهما وإن طالت المدة إلا أن يقطعاه ) لأنه حق يعتمد الشرط فجاز ذلك فيه كالأجل ولا يجوز مجهولا لأنها مدة ملحقة بالعقد فلم يصح مجهولا كالتأجيل وهل يفسد به العقد ؟ على روايتين : إحداهما لا يفسد لحديث بريدة والثانية يفسد لأنه عقد قارنه شرط فأفسد أشبه نكاح الشغار وعنه يصح مجهولا لقوله عليه السلام : [ المؤمنون على شروطهم ] رواه الترمذي وقال : حديث صحيح فعلى هذا إذا كان الخيار مطلقا مثل أن يقول : لك الخيار متى شئت أو إلى الأبد أو يقطعاه وإن قال إلى أن يقوم زيد أى ينزل المطر ثبت الخيار إلى زمن اشتراطه أو يقطعاه قبله .
733 - ـ مسألة : ( وإن وجد أحدهما بما اشترى عيبا لم يكن علمه فله رده أو أخذ أرش العيب ) والعيب كالمرض أو ذهاب جارحة أو سن وفي الرقيق من فعله كالزنا والسرقة والإباق فمن اشترى معيبا لم يعلمه فله الخيار بين الرد وأخذ الثمن لأنه بذل الثمن ليسلم له مبيع سليم ولم يسلم له فثبت له الرجوع في الثمن كما في المصراة وبين الإمساك وأخذ الأرش لأن الجزء الفائت بالعيب يقابله جزء من الثمن فإذا لم يسلم له كان له ما يقابله كما لو تلف في يده .
( فصل ) ومعنى الأرش أن ينظر ما بين قيمته سليما ومعيبا فيؤخذ قدره من الثمن فإذا نقصه العيب عشر قيمته فأرشه عشر ثمنه لأن ذلك هو المقابل للجزء الفائت مثاله : أن يكون قد اشترى منه سلعة بخمسة عشر فيظهر فيها عيب فتقوم صحيحة بعشرة ومعيبة بتسعة فقد نقصها العيب عشر قيمتها فيرجع المشتري على البائع بعشر الثمن دينار ونصف وحكمة ذلك أن المبيع مضمون على المشتري بالثمن ففوات جزء من المبيع يسقط عنه ضمان ما قابله من الثمن أيضا ولأننا لو ضمناه نقصان القيمة أفضى إلى أن يجمع المشتري الثمن والمثمن وهو أن تكون قيمة المبيع عشرة وقد اشتراه بخمسة ويكون العيب ينقصه نصف قيمته وذلك خمسة فيرجع بها فهذا ضمناه بما ذكرناه .
734 - ـ مسألة : ( وما كسبه المبيع أو حدث فيه من نماء منفصل قبل علمه بالعيب فهو له ) لما [ روت عائشة أن رجلا ابتاع غلاما فاستعمله ما شاء الله ثم وجد به عيبا فرده فقال : يا رسول الله إنه استعمل غلامي فقال رسول الله A : الخراج بالضمان ] رواه أبو داود وعنه ليس له رده دون نمائه لأنه تبع له أشبه النماء المتصل كالسمن واللبن والتعلم والحمل والثمرة قبل الظهور فإنه إذا أراد الرد رده بزيادته إجماعا لأنها لا تنفرد عن الأصل في الملك فلم يجز رده دونها .
735 - ـ مسألة : ( وإن تلفت السلعة أو أعتق العبد أو تعذر رده فله أرش العيب ) أما إذا أعتق العبد ثم ظهر على عيب قديم فله الأرش بغير خلاف نعلمه وإن تلف المبيع أو تعذر الرد وكذا إن باعه أو وهبه وهو غير عالم بعيبه نص عليه لأن البائع لم يوفه ما أوجبه له العقد فكان له الرجوع عليه كما لو أعتقه وإن فعل ذلك مع علمه بالعيب فلا أرش له لرضاه به معيبا حيث تصرف فيه مع علمه بعيبه ذكره القاضي وعنه في البيع والهبة له الأرش ولم يعتبر علمه وهو قياس المذهب لأننا جوزنا له إمساكه بالأرش وتصرفه فيه كإمساكه وذكر أبو الخطاب رواية فيمن باعه ليس له شئ لأنه استدرك ظلامته ببيعه فلم يكن له أرش كما لو زال العيب فإن رد عليه المبيع كان له حينئذ الرد أو الأرش كما لو لم يبعه أصلا .
736 - ـ مسألة : ( وقال النبي A : [ لا تصروا الإبل ] الحديث ) التصرية في اللغة : الجمع يقال صرى الماء في الحوض وصرى الطعام في فيه إذا جمعه وصرى الماء في ظهره إذا ترك الجماع وأنشد أبو عبيدة : .
( رأت غلاما قد صرى في فقرته ... ماء الشباب عنفوان شرته ) .
ويقال : المصراة المحفلة وهو من الجمع أيضا ومنه سميت مجامع الناس محافل والتصرية حرام إذا أراد بها التدليس لقوله عليه السلام : [ من غشنا فليس منا ] متفق عليه ( فمن اشترى مصراة وهو لا يعلم فهو بالخيار بين أن يقبلها وبين أن يردها وصاعا من تمر ) وهو قول جماعة من أصحاب رسول الله A أنه قال : [ لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعا من تمر ] متفق عليه ولأن هذا تدليس بما يختلف الثمن باختلافه فوجب به الرد كما لو كانت شمطاء فسود شعرها فإذا ردها رد بدل اللبن صاعا من تمر كما جاء في الحديث وفي لفظ : [ ردها ورد معها صاعا من تمر لا سمراء يعني لا يرد قمحا ] .
737 - ـ مسألة : ( فإن علم بتصريتها قبل حلبها ردها ولا شئ معها ) لأن الصاع إنما وجب عوضا عن اللبن ولذلك قال النبي A : [ من اشترى غنما مصراة فاحتلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر ] رواه البخاري وهذا لم يأخذ لها لبنا فلا يلزمه رد شئ قال ابن عبد البر : هذا ما لا اختلاف فيه .
738 - ـ مسألة : ( وكذلك كل مدلس لا يعلم بتدليسه له رده كجارية حمر وجهها أو سود شعرها أو جعده أو رحى ضم الماء وأرسله عليها عند عرضها على المشتري ) لأنه تدليس بما يختلف به الثمن فأثبت الخيار في الرد كالتصرية .
739 - ـ مسألة : ( وكذلك لو وصف المبيع بصفة يزيد بها في ثمنه فلم يجدها فيه كصناعة في العبد أو كتابة أو أن الدابة هملاجة أو الفهد صيود أو معلم أو أن الطير مصوت ونحو هذا ) فله الرد لذلك .
740 - ـ مسألة : ( ولو أخبره بثمن المبيع فزاد عليه رجع عليه بالزيادة وحظها من الربح إن كان مرابحة ) يثبت الخيار في بيع المرابحة للمشتري إذا أخبره البائع بزيادة في الثمن كاذبا كما لو أخبره بأنه كاتب أو صانع فاشتراه بثمن كثير وبان بخلافه فثبت للمشتري الخيار بين الرد والإمساك مع الحظ نص عليه لأنه لا يأمن الخيانة في الثمن أيضا وظاهر كلام الخرقي أنه لا خيار له لأنه لم يذكره مسألة : ولا بد من معرفة المشتري رأس المال لأن العلم بالثمن شرط ولا يحصل إلا بمعرفة رأس المال والمرابحة أن يخبر برأس المال ثم يبيعه بربح معلوم فيقول رأس مالي مائة بعتك بها وربح عشرة فهو جائز غير مكروه لأن الثمن معلوم ثم إذا بان ببينة أو إقرار أن رأس المال تسعون فالبيع صحيح لأنه زيادة في الثمن فلم يمنع صحة البيع كالمعيب وللمشتري أن يرجع على البائع بما زاد وهو عشرة وحظها من الربح وهو درهم فيبقى على المشتري تسعة وتسعون درهما .
741 - ـ مسألة : ( وإن بان أنه غلط على نفسه ) يعني البائع ( خير المشتري بين رده وإعطائه ما غلط له ) فإذا قال في المرابحة : رأس مالي فيه مائة والربح عشرة ثم عاد فقال : غلطت بل رأس مالي فيه مائة وعشرة لم يقبل قوله في الغلط إلا ببينة تشهد أن رأس ماله عليه ما قاله ذكره ابن المنذر عن الإمام أحمد C وذكر القاضي عن الإمام أحمد رواية يقبل قول البائع مع يمينه إذا كان معروفا بالصدق وإن لم يكن معروفا بالصدق فقد جاز البيع قال : لأنه لما دخل معه في المرابحة فقد ائتمنه والقول قول الأمين مع يمينه كالوكيل والمضارب وعنه رواية ثالثة أنه لا يقبل قول البائع وإن أقام بينه حتى يصدقه المشتري وهو قول الشافعي C لأنه أقر بالثمن وتعلق به حق الغير فلا يقبل رجوعه ولا بينة لإقراره بكذبه ولنا أنها بينة عادلة شهدت بها يحتمل الصدق فتقبل كما تقبل سائر البينات ولا يصح قولهم إنه أقر فإن الإقرار إنما يكون للغير وحالة إخباره لم يكن عليه حق لغيره فلم يكن إقرارا قال الخرقي : وله أن يحلفه أن وقت ما باعها لم يعلم أن وقت شراءها أكثر وهذا صحيح فإنه لو أخبر بذلك عالم بكذب نفسه لزمه البيع بما عقد عليه من الثمن لأنه تعاطى مسببه عالما بالضرر فلزمه كما لو اشترى معيبا عالما بعيبه وإذا كان البيع يلزمه فادعى عليه العلم لزمته اليمين فإن نكل قضى عليه وإن حلف خير المشتري بين قبوله بالثمن والزيادة التي غلط بها وحظها من الربح وبين فسخ العقد وإنما أثبتنا له الخيار لأنه إنما دخل على أن الثمن مائة وعشرة فإذا بان أكثر فعليه ضرر في التزامه فلم يلزمه كالمعيب إذا رضيه المشتري وإن اختار أخذها بمائة وعشرين لم يكن للبائع خيار لأنه زاده خيرا فهو كالمعيب إذا رضيه المشتري فل خيار أيضا لأنه قد بذلها بالثمن الذي وقع عليه العقد وتراضيا عليه .
742 - ـ مسألة : ( وإن بان أنه مؤجل ولم يخبره بتأجيله فله الخيار بين رده وإمساكه ) يعني أن المشتري يكون مخيرا بين الرد وبين الإمساك بالثمن حالا لأن البائع لم يرض بذمته وقد تكون ذمته دون ذمة البائع فلا يلزمه الرضاء بذلك وحكى ابن المنذر عن الإمام أحمد أنه إن كان المبيع قائما فهو مخير بين الفسخ وأخذه بالثمن مؤجلا لأنه الثمن الذي اشترى به البائع والتأجيل صفة له فأشبه المخير بزيادة في القدر فإن للمشتري أن يحط ما زاده ويأخذ بالباقي وإن علم ذلك بعد تلف المبيع حبس المال بقدر الأجل .
743 - ـ مسألة : ( وإن اختلف البيعان في قدر الثمن تحالفا ولكل واحد منهما الفسخ إلا أن يرضى بما قال صاحبه ) فمتى اختلفا في قدر الثمن والسلعة قائمة تحالفا فيبدأ بيمين البائع فيحلف ما بعته بعشرة وإنما بعته بخمسة عشر ثم يحلف المشتري ما اشتريته بخمسة عشر وإنما اشتريته بعشرة لما روى ابن مسعود [ عن النبي A أنه قال : إذا اختلف المتبايعان وليس بينهما بينة والمبيع قائم بعينه فالقول ما قال البائع أو يترادان البيع ] رواه ابن ماجه وفي لفظ : تحالفا ولأن البائع يدعي عقدا بثمن ينكره المشتري والمشتري يدعي عقدا ينكره البائع والقول قول المنكر مع يمينه ويبدأ بيمين البائع لأن النبي A جعل القول ما قال البائع وفي لفظ : [ إذا اختلف المتبايعان فالقول قول البائع والمشتري بالخيار ] رواه أحمد والشافعي معناه إن شاء أخذ وإن شاء حلف ولأن جنبة البائع أقوى لأنهما إذا تحالفا رجع المبيع إليه فكانت البداءة به أولا كصاحب اليد .
مسألة : فإذا تحالفا لم ينفسخ العقد بنفس التحالف لأنه عقد وقع صحيحا فتنازعهما وتعارضهما في الحجة لا يوجب الفسخ كما لو أقام كل واحد منهما بينة بما ادعاه لكن يقال للمشتري أترضى بما قال البائع ؟ فإن رضيه أجبر البائع على قبول ذلك لأنه حصل له ما ادعاه وإن لم يرضه قيل للبائع : أترضى بما قال المشتري ؟ فإن رضيه أجبر المشتري على قبول ذلك وإن لم يرضيا فسخ العقد وظاهر كلام أحمد أن لكل واحد منهما الفسخ لقوله عليه السلام : أو يتارادان البيع وظاهره استقلالهما كذلك وفي قصة ابن مسعود : باع الأشعت بن قيس رقيقا من رقيق الإمارة فاختلفا في الثمن فروى له عبد الله هذا الحديث قال : فإني أرى أن أرد البيع فرده ولا فسخ لاستدراك الظلامة أشبه الرد في العيب .
( فصل ) وإن كانت السلعة تالفة تحالفا ورجعا إلى قيمة مثلها كما لو كانت باقية وعنه القول قول المشتري مع يمينه اختارها أبو بكر لقوله عليه السلام : [ إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا ] فمفهومه أنه لا يشرع التحالف عند عدمها ولأنهما اتفقا على نقل السلعة إلى المشتري واختلفا في عدة زائدة يدعيها البائع والمشتري ينكرها والقول قول المنكر وتركنا هذا القياس حال قيام السلعة للحديث ففيما عداه تبقى على مقتضى القياس ووجه الأولى أن كل واحد منهما مدع ومنكر فتشرع اليمين لهما كحال قيام السلعة وقوله في حديثهم تحالفا لم يثبت في شئ من الأخبار وعلى أن التحالف إذا ثبت مع قيام السلعة مع أنه يمكن معرفة ثمنها لمعرفة قيمتها فإن الظاهر أن الثمن يكون بالقيمة فمع تعذر ذلك يكون أولى فإذا اختلفا جميعا فسخنا البيع كما نفسخه مع بقائها ويرد البائع الثمن والمشتري قيمة السلعة فإن اختلفا في قيمتها رجعا إلى قيمة مثلها موصوفا بصفاتها فإن اختلفا في صفاتها فالقول قول المشتري مع يمينه لأنه غارم والقول قول الغارم