باب حكم كتاب القاضي .
1754 - ـ مسألة : ( يجوز الحكم على الغائب إذا كان للمدعي بينة ) فمتى ادعى حقا على غائب في بلد آخر وطلب من الحاكم سماع البينة والحكم بها عليه أجابه إلى ذلك وسمع بينته وحكم بها وكان شريح لا يرى القضاء على الغائب وهو قول أبي حنيفة إلا أنه قال : إذا كان له خصم حاضر من وكيل أو شفيع جاز الحكم عليه وعن أحمد مثله لأن النبي A قال لعلي : [ إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر فإنك لا تدري بما تقضي ] قال الترمذي : هذا حديث حسن ولأنه قضى لأحد الخصمين وحده فلم يجز كما لو كان الآخر في البلد ولأنه يجوز أن يكون للغائب ما يبطل البينة ويقدح فيها فلم يجز الحكم عليه قبل حضوره ولنا [ أن هندا قالت : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي فقال : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] فقضى لها عليه ولم يكن حاضرا ولأن أبا حنيفة وافقنا في سماع البينة فيقول هذه بينة عادلة مسموعة فجاز الحكم بها كما لو كان حاضرا وأما حديثهم فنقول به وأنه إذا تقاضى إليه رجلان لم يجز الحكم قبل سماع كلامهما معا وهذا يقتضي أن يكونا حاضرين ويفارق الحاضر الغائب فإنه لا تسمع البينة على حاضر والغائب بخلافه .
1755 - ـ مسألة : ( ومتى حكم على غائب ثم كتب بحكمه إلى قاضي بلد الغائب لزمه قبوله وأخذ المحكوم عليه به والأصل في كتاب القاضي إلى القاضي الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله سبحانه : { إني ألقي إلي كتاب كريم * إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم } 'سورة النمل : الآية 29' وأما السة فإن النبي A كتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي وملوك الأطراف وكان في كتابه إلى هرقل [ بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم أما بعد فأسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرا عظيما وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ] الآية وروى الضحاك بن سفيان قال : [ كتب إلى رسول الله A أن ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها ] وأجمعت الأمة على كتاب القاضي إلى القاضي ولأن الحاجة إلى قبوله داعية فإن من له حق في بلد غير بلده لا يمكنه إثباته والمطالبة به إلا بكتاب القاضي فوجب قبوله وأخذ المحكوم عليه به لأن ذلك هو المقصود منه .
1756 - ـ مسألة : ( ولا يثبت إلا بشاهدين عدلين يقولان قرأه علينا أو قرىء عليه بحضرتنا فقال : اشهدا على أن هذا كتابي إلى فلان أو إلى من يصل إليه من قضاة المسلمين وحكامهم ) فيعتبر في ثبوته ثلاثة شروط : أحدها أن يشهد به شاهدان عدلان وقيل يكفي معرفة خطه وختمه لأن ذلك تحصل به غلبة الظن فأشبه الشهادة ويتخرج لنا مثله بناء على ما إذا وجدت وصية الرجل مكتوبة عند رأسه بخطه عمل بها ولنا إن ما أمكن إثباته بالشهادة لم يجز الاقتصار فيه على الظاهر كإثبات العقود ولأن الخط يشبه الخط والختم يمكن التزوير عليه ويمكن الرجوع إلى الشهادة فلم يعول على الخط كالشاهد لا يعول على الخط الشرط الثاني أن يكتب القاضي من موضع ولايته فإن كتب القاضي من غير عمله كتابا لم يسغ قبوله لأنه لا يسوغ له في غير ولايته حكم فهو كالعامي الشرط الثالث أن يصل الكتاب إلى المكتوب إليه في موضع ولايته فإن وصل في غير موضع ولايته لم يكن له قبوله حتى يصل إلى موضع ولايته لما سبق .
1757 - ـ مسألة : ( فإن مات المكتوب إليه أو عزل فوصل إلى غيره عمل به ) وروي أن قاضي الكوفة كتب إلى إياس بن معاوية قاضي البصرة كتابا فوصل وقد عزل وولي الحسن فلما وصل الكتاب عمل به لأن المعول على شهادة الشاهدين بحكم الأول أو ثبوت الشهادة عنده ذلك ثبت فإذا شهدا بذلك عند الحاكم المتجدد وجب أن يقبل .
1758 - ـ مسألة : ( وإن مات الكاتب أو عزل بعد حكمه جاز قبول كتابه ) سواء مات أو عزل قبل خروج الكتاب من يده أو بعده لأن المعول في الكتاب على الشاهدين اللذين يشهدان على الحاكم وهما حيان فيجب أن يقبل كتابه كما لو لم يمت ولأن كتابه إنه كان بما حكم فحكمه لا يبطل بموته وعزله وإن كان فيما ثبت عنده بشهادة فهو أصل واللذان شهدا عليه فرع ولا تبطل شهادة الفرع بموت شاهدي الأصل .
1759 - ـ مسألة : ( ويقبل كتاب القاضي في كل حق إلا في الحدود والقصاص ) وقال الشافعي Bه : يقبل في كل حق لآدمي من الجراح وغيرها وفي الحدود التي لله تعالى على قوليه لأن كل حق يثبت بالشهادة فإنه يثبت بكتاب القاضي إلى القاضي لأنه بمنزلة الشهادة على الشهادة فيثبت بها كسائر الحقوق أو كالشهادة على الأموال ولنا أن حدود الله سبحانه مبنية على الستر والدرء بالشبهات والإسقاط بالرجوع عن الإقرار بها والشهادة على الشهادة لا تخلو من الشبهة ولذلك اشترطنا لقبولها تعذر شهادة الأصل ولم نقبلها إلا للحاجة ولا حاجة ها هنا ولأنه لا نص فيها ولا يصح قياسها على موضع الإجماع لما بينا من الفرق فيبطل إثباتها