فصل .
1694 - ـ مسألة : ( وتجوز مهادنة الكفار إذا رأى الإمام المصلحة فيها ) ومعناها أن يعقد لأهل الحرب عقدا على ترك القتال مدة بعوض وغير عوض ويسمى مهادنة وموادعة ومعاهدة وذلك جائز لقول الله سبحانه : { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين } 'سورة التوبة : الآية 1' وقال : { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } 'سورة الأنفال : الآية 61' وروى مروان ومسور بن مخرمة أن النبي A صالح سهيل بن عمرو بالحديبية على وضع القتال عشر سنين ولا يجوز إلا النظر للمسلمين إما أن يكون بالمسلمين ضعف عن قتالهم وإما أن يطمع في إسلامهم بهدنتهم أو في أدائهم الجزية والتزامهم أحكام الملة ولا تتقدر بمدة بل هي على ما يرى الإمام من المصلحة في قلتها وكثرتها قال القاضي : ظاهر كلام أحمد أنها لا تجوز أكثر من عشر سنين وهي اختيار أبي بكر ومذهب الشافعي لأن قوله سبحانه : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } ' سورة التوبة : الآية 5' عام خص منه مدة العشر بصلح النبي A أهل الحديبية على عشر ففي ما زاد عليها يبقى على مقتضى العموم ووجه الأول أنه عقد يجوز في العشر فجاز فيما زاد كمدة الإجازة والعام مخصوص في العشر لمعنى هو موجود فيما زاد عليها وهو أن المصلحة قد تكون في الصلح أكثر منها في الحرب فإن قلنا بجوازه في الزيادة لم يجز مطلقا من غير تقدير لأنه يفضي إلى ترك الجهاد بالكلية وإن قلنا يتقدر بالعشر فعقد على أكثر من ذلك فسد في الزيادة وكان في العشر على وجهين مبنيين على تفريق الصفقة .
1695 - ـ مسألة : ( ولا يجوز عقدها إلا من الإمام أو نائبه ) لأن ذلك يتعلق بنظر الإمام وما يراه من المصلحة على ما قدمنا ولأن عقد الهدنة يكون مع جملة من الكفار وليس لأحد من المسلمين إعطاء الأمان لأكثر من القافلة لأن في تجويز ذلك افتئاتا على الإمام أو نائبه في تلك الناحية وتعطيل الجهاد بالكلية فإن هادنهم غير الإمام أو نائبه لم يصح فإن دخل بعض الكفار الذين هادنهم دار الإسلام كان آمنا لأنه دخل معتقدا أنه دخل بأمان ويرد إلى دار الحرب ولا يقر في دار الإسلام لأن الأمان لم يصح .
1696 - ـ مسألة : ( وعليه حمايتهم من المسلمين دون أهل الحرب ) لأنه أمنهم ممن هو في قبضته وتحت يده ومن أتلف من المسلمين أو أهل الذمة عليهم شيئا أو قتل منهم أحدا فعليه ضمانه ولا يلزم الإمام حمايتهم من أهل الحرب ولا حماية بعضهم من بعض لأن الهدنة التزام الكف عنهم فقط .
1697 - ـ مسألة : ( وإن خاف نقض العهد منهم جاز أن ينبذ إليهم عهدهم ) لقوله تعالى : { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين } 'سورة الأنفال : الآية 58' يعني أعلمهم حتى تصير أنت وهم سواء في العلم ولا يكفي أن يقع في قلبه خوف منهم حتى يكون ذلك عن أمارة تدل على ما خافه .
1698 - ـ مسألة : ( وإن سباهم كفار آخرون لم يجز لنا شراؤهم ) لأنهم في عهد منه فلا يجوز أن يملك ما سبي منهم كأهل الذمة ويحتمل أن يجوز ذلك لأنه لا يجب عليه أن يدفعه عنهم فلا يلزمه رد ما استنقذه منهم كما لو أعان أهل الحرب على أهل الحرب .
1699 - ـ مسألة : ( وتجب الهجرة على من لم يقدر على إظهار دينه في دار الحرب وتستحب لمن قدر على ذلك ) قال الله سبحانه : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } ' سورة النساء : الآية 97 ' ولأن حكم الهجرة باق إلى يوم القيامة لا تنقطع وقال عليه السلام : [ لا تنقطع الهجرة ما كان الجهاد ] رواه سعيد وغيره وعن معاذ بن جبل قال [ سمعت رسول الله A يقول : لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها ] أخرجه أبو داود فأما قوله عليه السلام : لا هجرة بعد الفتح رواه سعيد فمعناه لا هجرة من مكة بعد فتحها ولا هجرة من بلد بعد فتحه لأن الهجرة الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام وبعد الفتح صار البلد المفتوح دار إسلام فلا هجرة منه إذا ألا ترى أن النبي A قال ذلك لمن أراد الهجرة من مكة بعد فتحها فإن صفوان بن أمية قيل له بعد الفتح : إنه لا دين لمن لم يهاجر فأتى المدينة فقال له النبي A : ما جاء بك أبا وهب ؟ قال : قيل إنه لا دين لمن لم يهاجر قال : ارجع أبا وهب إلى أباطح مكة أقروا على مساكنكم فقد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونية يعني من مكة إذا ثبت هذا فالناس في الهجرة على ثلاثة أضرب : أحدها من تجب عليه وهو من لا يمكنه إظهار دينه ولا عذر له من مرض ولا عجز عن الهجرة فهذا تجب عليه للآية : { إن الذين توفاهم الملائكة } 'سورة النساء : الآية 97' ولأن القيام بواجب الدين واجب ولا يتمكن منه إلا بالهجرة وما لا يتمكن من الواجب إلا به فهو واجب لكونه من ضرورة الواجب الثاني من تستحب له الهجرة وهو من يتمكن من إظهار دينه في دار الحرب والقيام بواجبه إما لقوة عشيرته أو غير ذلك فهذا لا تجب عليه لإمكان إقامة واجب دينه وتستحب له لأن في إقامته عندهم تكثيرا لعددهم واختلاطا بهم ورؤية المنكر بينهم الثالث من تسقط عنه الهجرة وهو من يعجز عنها إما لمرض أو إكراه على الإقامة أو ضعف فهذا لا تجب عليه ولا يوصف باستحباب لقوله سبحانه : { إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا * فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا } 'سورة النساء : الآية 98 ' .
1700 - ـ مسألة : ( ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار إلا من بلد بعد فتحه ) لما سبق