باب النذر .
والأصل في النذر الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله سبحانه : { يوفون بالنذر } وأما السنة فما روت عائشة قالت : [ قال رسول الله A : من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ] أخرجه البخاري وأجمع المسلمون على صحة النذر في الجملة وهو غير مستحب لأن ابن عمر روى [ عن النبي A أنه نهى عن النذر وقال : إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل ] متفق عليه .
1373 - ـ مسألة : ( ومن نذر أن يطيع الله فليطعه ) لحديث عائشة Bها ( فإن كان لا يطيق - كشيخ كبير نذر صياما لا يطيقه - فعليه كفارة يمين ) لما روى عقبة بن عامر قال : [ نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله الحرام حافية فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله A فاستفتيته فقال : لتمش ولتركب ] متفق عليه ولأبي داود [ ولتكفر يمينها ] وللترمذي [ ولتصم ثلاثة أيام ] قال ابن عباس : من نذر نذرا ولم يسمه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا يطيقه فليف لله بما نذر فإذا كفر فهل يلزمه مع الكفارة إطعام ؟ على روايتين : إحداهما لا يلزمه لأن الكفارة إنما وجبت لترك الفعل فلو أوجبنا فدية عن الصيام لجمعنا بين كفارتين ولأنه لو نذر ما لا يطيقه غير الصوم لما يلزمه أكثر من كفارة كذا ها هنا والثانية يلزمه أن يطعم عن كل يوم مسكينا كما قلنا في رمضان إذا عجز عن صيامه والأول أصح وأقيس لأن موجب النذر اليمين واليمين إنما لها كفارة واحد .
1374 - ـ مسألة : ( ومن نذر المشي إلى بيت الله الحرام لم يجزه المشي إلا في حج أو عمرة ) لأن المشي المعهود في الشرع إلى البيت هو المشي في حج أو عمرة فإذا أطلق الناذر حمل على المعهود الشرعي ويلزمه المشي لأن المشي إلى العبادة أفضل ولهذا روي عن النبي A أنه لم يركب في عيد ولا جنازة قط فإذا ثبت هذا فإنه إن أتى البيت ماشيا فقد وفى بنذره ( وإن عجز عن المشي ركب ) وكفر كفارة يمين لحديث عقبة بن عامر وقد سبق و [ روى عقبة أن النبي A قال : كفارة النذر كفارة يمين ] رواه مسلم وعنه رواية أخرى يلزمه دم لأن ابن عباس Bهما روى أن أخت عقبة نذرت أن تمشي إلى بيت الله الحرام فأمرها النبي A أن تركب وتهدي هديا وفيه ضعف والصحيح الأول لما سبق ولأن المشي مما لا يوجبه الإحرام فلم يجب الدم بتركه كما لو نذر صلاة ركعتين فلم يصلهما فإن قيل خبر عقبة ليس فيه ذكر عجز أخته قلنا يجوز أن يكون النبي A علم عجزها لمعرفته بحالها أو من حيث أن الظاهر من حال المرأة أنها لا تطيق المشي في الحج كله أو ذكر له ذلك فلم ينقل ودليل هذا التأويل أن المشي قربة والقربة تلزم بالنذر فلا يجوز أن يأمرها النبي A بتركه من غير عذر .
1375 - ـ مسألة : ( وإن نذر شهرا متتابعا فعجز عن التتابع صام متفرقا وكفر ) لأن النبي A أمر أخت عقبة بن عامر بالكفارة لعجزها عن المشي لأن النذر كاليمين ولو حلف ليصومن متتابعا فأخل به لزمته الكفارة .
1376 - ـ مسألة : ( وإن ترك التتابع في أثنائه لعذر ) من مرض أو حيض ( خير بين استئنافه ) ولا شئ عليه لأنه أتى بما نذره على وجهه ( وبين أن يبني على صيامه ويكفر ) لأن الكفارة تلزم لتركه المنذور وإنما جوزنا له البناء ها هنا لأن الفطر لعذر لا يقطع التتابع حكما بدليل أنه لو أفطر في صيام الشهرين المتتابعين من غير عذر كان له البناء وإن كان العذر يبيح الفطر كالسفر فهل يقطع التتابع ؟ فيه وجهان : أحدهما يقطعه لأنه يفطر باختياره والثاني لا يقطعه لأنه عذر في الفطر في رمضان فأشبه المرض .
1377 - ـ مسألة : ( وإن تركه لغير عذر وجب استئنافه ) ولا كفارة عليه لأنه ترك التتابع المنذر ولغير عذر مع إمكان الإتيان به فلزمه كما لو نذر صوما معينا فصام قبله .
1378 - ـ مسألة : ( وإن نذر صياما معينا فأفطر في بعضه أتمه وقضى وكفر بكل حال ) سواء أفطر لعذر أو لغير عذر ولا يلزمه استئناف نص عليه الإمام أحمد ولكنه يقضي ما تركه لأنه واجب بالنذر فلزمه قضاؤه كالواجب بالشرع ويكفر لأنه فات عليه ما نذره فلزمته الكفارة لأنه كاليمين والمذهب أنه إن تركه لغير عذر لزمه الاستئناف والكفارة لأنه صوم يجب متتابعا بالنذر فأبطله الفطر لغير عذر كما لو شرط التتابع وذكر أبو الخطاب رواية أنه لا كفارة عليه إذا تركه لعذر لأن المنذور محمول على المشروع ولو أفطر في رمضان لعذر لم يلزمه شئ ولنا أنه فات عليه ما نذره فلزمته الكفارة بدليل قوله عليه السلام لأخت عقبة : لتركب وتكفر يمينها وفارق رمضان فإنه لو أفطر لغير عذر لم يكن عليه كفارة إلا في الجماع .
1379 - ـ مسألة : ( ومن نذر رقبة فهي التي تجزىء عن الواجب ) إلا أن ينوي رقبة بعينها يعني لا يجزيه إلا رقبة مؤمنة سليمة من العيوب المضرة بالعمل وهي التي تجزىء في الكفارة لأن النذر المطلق يحمل على المعهود في الشرع والواجب بأصل الشرع كذلك ( فأما إن نوى رقبة بعينها تعينت ) بنذره كما لو نذر صوم يوم بعينه .
1380 - ـ مسألة : ( ولا نذر في معصية ) ولا يحل الوفاء به إجماعا [ لقوله عليه السلام : من نذر أن يعصي الله فلا يعصه ويجب عليه كفارة يمين ] روي ذلك عن جماعة من الصحابة Bهم وعنه ما يدل على أنه لا كفارة عليه [ لقوله عليه السلام : لا نذر في معصية الله ولا في ما لا يملك العبد ] رواه مسلم وقال : [ ليس على الرجل نذر فيما لا يملك ] متفق عليه وقال : [ لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله تعالى ] رواه أبو داود ولم يأمر بكفارة ولأن النذر التزام الطاعة وهذا التزام معصية ولأنه نذر غير منعقد فلم يوجب شيئا كاليمين غير المنعقدة ووجه الأولى ما روت عائشة [ أن رسول الله A قال : لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين ] رواه الإمام أحمد وأبو داود وقال الترمذي : هو حديث غريب وفي حديث عمران [ وما كان من نذر في معصية الله فلا وفاء فيه وتكفيره ما يكفر اليمين ] وأما ما سبق من الأحاديث فمعناها لا يوفي بالنذر في معصية الله وإن لم يبين الكفارة فيها فقد بينها ها هنا .
1381 - ـ مسألة : ( ولا نذر فيما لا يملك ابن آدم ) لما سبق مسألة : ( ولا نذر في مباح ) كمن نذر أن يلبس ثوبه أو يركب دابته فالناذر مخير بين فعله وبين تركه ويكفر كاليمين على ذلك ويتخرج في المذهب أن لا ينعقد هذا النذر ولا كفارة عليه بتركه وهو مذهب الشافعي Bه لقول النبي A : لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله تعالى ولم يذكر كفارة .
1382 - ـ مسألة : ( ولا نذر فيما قصد به اليمين ) وهو نذر اللجاج وسيأتي في باب الأيمان إن شاء الله تعالى .
1383 - ـ مسألة : ( وإن جمع في النذر بين الطاعة وغيرها فعليه الوفاء بالطاعة وحدها لما روى ابن عباس Bهما قال : [ بينا النبي A يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا : أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال النبي A : مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم الصوم ] رواه البخاري .
1384 - ـ مسألة : ( وإن قال لله علي نذر ولم يسمه فعليه كفارة يمين ) ويسمى النذر المبهم فيه كفارة يمين في قول أكثرهم وقد روي عن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم ولا نعلم فيها مخالفا إلا الشافعي Bه قال : لا ينعقد نذره ولا كفارة عليه ولنا ما روى عصبة بن عامر قال : [ قال رسول الله A : كفارة النذر إذا لم يسم كفارة اليمين ] رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح وهذا نص وهو قول جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ولا نعرف لهم في عصرهم مخالفا فكان إجماعا