باب الرد بالعيب .
من علم بسلعته عيبا لم يحل له بيعها حتى يبينه لقول رسول الله A : [ المسلم أخو المسلم لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا فيه عيب إلا بينه له ] رواه ابن ماجة فإن باع ولم يبين فالبيع صحيح لأن النبي A صحح بيع المصراة مع نهيه عنه وحكي عن أبي بكر : أن البيع باطل لظاهر النهي ومن اشترى معيبا أو مصراة أو مدلسا يعلم حاله فلا خيار له لأنه بذل الثمن فيه راضيا به عوضا فأشبه ما لا عيب فيه وإن لم يعلم فله الخيار بين رده وأخذ الثمن لأنه بذل الثمن ليسلم له مبيع سليم ولم يسلم له فثبت له الرجوع بالثمن كما في المصراة - وبين إمساكه المعيب وأخذ أرشه لأن الجزء الفائت بالعيب يقابله جزء من الثمن فإذا لم يسلم له كان له ما يقابله كما لو تلف في يده ومعنى الأرش : أن ينظر بين قيمته سليما ومعيبا فيؤخذ قدره من الثمن فإذا نقصه العيب عشر قيمته فأرشه عشر ثمنه لأن ذلك هو المقابل للجزء الفائت .
فصل .
فإن نما المبيع المعيب نماء متصلا كالسمن والكبر والتعلم والحمل والثمرة قبل الظهور وأراد الرد رده بزيادته لأنها لا تنفرد عن الأصل في الملك فلم يجز رده دونها وإن كانت منفصلة كالكسب واللبن وما يوهب له والولد المنفصل والثمرة الظاهرة رد الأصل وأمسك النماء وعنه : ليس له رده دون نمائه والأول الذهب لما روت عائشة : أن رجلا ابتاع غلاما فاستغله ما شاء الله ثم وجد به عيبا فرده فقال يا رسول الله : إنه استغل غلامي فقال رسول الله A : [ الخراج بالضمان ] رواه أبو داود إلا أن الولد إن كان لآدمية لم يملك ردها دونه لأن فيه تغريقا بينهما وذكر الشريف : أن له ردها لأنه موضع حاجة أشبه من ولدت حرا فباعها دونه والأول أولى لأن الجمع ممكن بأخذ الأرش أو ردهما معا فإن كان المبيع حاملا فولدت عند المشتري ثم ردها رد الولد معها لأنه من جملة المبيع والولادة نماء متصل .
فصل .
وإن تعيب المبيع عند المشتري ففيه روايتان : .
إحداهما : له أرش العيب وليس له رده لأن في رده ضررا فلا يزال الضرر بالضرر .
والثانية : يرده وأرش العيب الحادث عنده ويأخذ الثمن لأن النبي A أمر برد المصراة بعد أخذ لبنها ورد عوضه ولأن جواز الرد كان ثابتا فلا يزول إلا بدليل ولا نص في منع الرد ولا قياس فيبقى بحاله فإن دلس البائع العيب فتعيب عند المشتري أو تلف بفعله أو غيره فالمنصوص أنه يرجع بالثمن ولا شيء عليه لأنه مغرور والقياس يقتضي التسوية بين المدلس وغيره لأن النبي A أوجب على مشتري المصراة عوض لبنها مع التدليس وجعل الخراج بالضمان ولم يفرق بين مدلس وغيره .
وعن أحمد : في المبيع إذا كان صانعا أو كاتبا فنسي عند المشتري يرده بالعيب ولا شيء معه وهذا يحتمل أن يكون فيمن دلس العيب دون غيره لأن الصناعة والكتابة متقومة تضمن في الغصب وعلله القاضي : أنه ليس بنقص في العين ويمكن تذكره فيعود .
فصل .
وما تعيب قبل قبضه وهو مما يدخل وهو مما يدخل في ضمان المشتري فهو كالعيب الحادث في يده وإن كان مما ضمانه على البائع فهو كالعيب القديم لأن من ضمن جملة المبيع ضمن أجزاءه .
فصل .
وإن وطئ المشتري الأمة ففيه روايتان : .
إحداهما : ليس له ردها وله الأرش لأن الوطء يجري مجرى الجناية لا يخلو من عقر أو عقوبة .
والثانية : له ردها إن كانت ثيبا ولا شيء معها لأنها معنى لا ينقص عينها ولا قيمتها ولا يتضمن الرضاء بالعيب فأشبه الاستخدام وإن كانت بكرا فهو كتعيبها عنده فإن ردها رد أرش نقصها كما لو عابت عنده .
فصل .
فإن لم يعلم بالعيب حتى هلك المبيع بقتل أو غيره أو أعتقه أو وقفه أو أبق أو باعه أو وهبه فله الأرش لأنه تعذر عليه الرد وإن فعل ذلك مع علمه بالعيب فلا أرش له لرضاه به معيبا ذكره القاضي وقال أبو الخطاب في المبيع والهبة : رواية أخرى : له الأرش ولم يعتبر علمه وهو قياس المذهب لأننا جوزنا له إمساكه بالأرش وتصرفه فيه كإمساكه وإن باعه قبل العلم ثم رجع إليه ببيع أو غيره فله رده أو أرشه لأن ذلك امتنع عليه لخروجه من ملكه وبرجوعه إليه عاد الإمكان .
فصل .
وإن باع بعضه أو وهبه فله أرش الباقي فأما أرش ما باع فينبني على ما قلنا في بيع الجميع وفي جواز رد الباقي بحصته من الثمن روايتان : .
إحداهما : يجوز ذكره الخرقي لأن رده ممكن .
والأخرى : لا يجوز لأن فيه تبعيض الصفقة على البائع فلم يجز كما لو كان المبيع عينين ينقصهما التفريق ولو اشترى شيئين فوجد بأحدهما عيبا فله ردهما معا أو إمساكهما وأخذ الأرش فإن أرد رد المعيب وحده ففيه الروايتان إلا أن يكونا مما ينقصهما التفريق كمصراعي باب وزوجي خف أو ممن لا يحل التفريق بينهما كالأخوين فليس له إلا ردهما أو إمساكهما مع الأرش لأن في رد أحدهما تفريقا محرما أو إضرارا بالبائع لنقصان قيمة المردود بالتفريق وإن تلف أحد المبيعين ووجد بالآخر عيبا فعلى الروايتين وإن اختلفا في قيمة التالف فالقول قول المشتري لأنه كالغارم فهو كالمستعير والغاصب وإن كانا معيبين باقيين فأراد رد أحدهما وحده فهي كالتي قبلها وقال القاضي : ليس له رد أحدهما لأنه أمكنه ردهما معا ولو كان المبيع عينا واحدة فأراد رد بعضها لم يملك ذلك وجها واحدا لأن فيه تشقيص المبيع على البائع وإلحاقا لضرر الشركة به .
فصل .
وإن اشترى اثنان شيئا فوجداه معيبا فرضيه أحدهما ففيها روايتان : .
إحداهما : للآخر رده نصيبه لأنه جميع ما ملكه بالعقد فملك رده بذلك كما لو انفرد .
والأخرى : ليس له رد لأن المبيع خرج عن ملك البائع كاملا فلم يملك المشتري رده مشقصا كما لو اشترى العين كلها ثم رد بعضها ولو ورث اثنان خيار عيب في سلعة فرضي أحدهما سقط رد الآخر لأن العقد عليها واحد بخلاف شراء الاثنين فإن عقدان وإن اشترى واحد من اثنين شيئا فوجده معيبا فله رد نصيب أحدهما عليه منفردا لأنه يرد عليه جميع ما باعه .
فصل .
ومن اشترى معيبا فزال عيبه قبل رده مثل أن يشتري أمة مزوجة فطلقها الزوج فلا خيار له نصل عليه أحمد لأن الضرر زال ولو اشترى مصراة فصار لبنها عادة فلا خيار له وإن قال البائع : أنا أزيل العيب مثل أن يشتري أرضا فيها حجارة تضرها فقال البائع : أنا أقلعها في مدة لا [ أجرة ] لها أو اشترى أرضا فيها بذر للبائع فقال : أنا أحوله سقط الرد لأن الضرر يزول من غير ضرر .
فصل .
ذكر القاضي ما يدل على أن في خيار العيب روايتين : .
إحداهما : هو على التراخي لأنه خيار لدفع الضرر المتحقق فكان على التراخي كخيار القصاص فعلى هذا هو على خيار ما لم يوجد منه ما يدل على الرضي من التصرف على ما ذكرنا في باب الخيار .
والثاني : هو على الفور لأنه خيار ثبت بالشرع لدفع الضرر عن المال فأشبه خيار الشفعة ولو حلب لبنها الحادث أو ركبها ليردها أو ليختبرها لم يكن رضى لأنه حق له إلى أن يرد فلم يمنع منه .
فصل .
وله الرد منغير رضى صاحبه ولا حضوره لأنه رفع عقد جعل إليه فلم يعتبر ذلك فيه كالطلاق ويجوز من غير حكم حاكم لأنه مجمع عليه فلم يحتج إلى حاكم كفسخ المعتقة للنكاح .
فصل .
والعيوب هي النقائص المعدودة عيبا فما خفي منها رجع إلى أهل الخبرة به فمن العيوب في الخلقة المرض والجنون والجذام والبرص والعمى والعور والعرج والعقل والقرع والصمم والخرس والأصبع الزائدة والناقصة والحول والخوص والسبل وهو زيادة في الأجفان والبخر والخصا والتخنيث وكونه خنثى والحمق البات والتزوج في الرقيق فأما عدم الختان فليس بعيب في الصغير لأنه لم يفت وقته ولا في الكبير المجلوب لأن ذلك عادتهم وهو عيب في الكبير المولود في الإسلام لأن عادتهم الختان والكبير يخاف عليه فأما العيوب المنسوبة إلى فعله كالسرقة والإباق والبول في الفراش فإن كانت من مميز جاوز العشر فهي عيب لأنه يذهب بمال سيده أو يفسد فراشه وليس عيبا في الصغير لأنه لا يكون لضعف بنيته أو عقله والزنا عيب لأنه يوجب الحدود وكذلك شرب المسكر والحمل عيب في الأمة لأنه يخاف منه عليها وليس بعيب في غيرها لعدم ذلك والثيوبة وكون الأمة لا تحيض ليس بعيب لأن الإطلاق لا يقتضي وجود ذلك ولا عدمه وكذلك كونها محرمة على المشتري بنسب أو رضاع أو إحرام أو عدة لأن ما يختص بالمشتري لا ينقص ثمنها وسائر ذلك يزول عن قرب ومعرفة الغناء والحجامة ليس بعيب لأن النقص فعل ذلك لا العلم به والكفر وكونه ولد زنا ليس بعيب لأن الأصل في الرقيق الكفر ولا يقصد فيهم النسب وكون الجارية لا تحسن الطبخ والخبز ليس بعيب لأن هذه صناعة والجهل به كالجهل بسائر الصنائع .
فصل .
وإن شرط في المبيع صفة مقصودة مثل أن شرط الأمة بكرا أو جعدة أو العبد كاتبا أو ذا صناعة أو فحلا أو خصيا أو مسلما أو الدابة هملاجة أو الفهد صيودا أو الشاة لبونا فبان خلاف ذلك فله الرد لأنه لم يسلم له ما بذل الثمن فيه فملك الرد كما لو وجده معيبا وإن شرط الأمة سبطة أو جاهلة فبانت جعدة أو عالمة فلا خيار له لأنها زيادة وإن شرطها ثيبا فبانت بكرا فكذلك ويحتمل أن له الخيار لأنه قد يشترط الثيوبة لعجزه عن البكر وإن شرطها كافرة فبانت مسلمة ففيه وجهان : .
أحدهما : لا خيار له لأنها زيادة .
والثاني : له الخيار لأنه يتعلق به غرض صحيح وهو صلاحها للمسلم والكافر وإن شرطها حاملا صح .
وقال القاضي : قياس المذهب أنه لا يصح لأن الحمل لا حكم له والصحيح الأول لأن النبي A حكم في الدية بأربعين خلفة في بطونها أولادها ولأن الحمل يثبت الرد في المعيبة ويوجب النفقة للمبتوتة ويمنع كون الدم فيه حيضا والطلاق فيه بدعة ويجوز الفطر في رمضان للخوف عليه ويمنع إقامة الحد والقصاص وإن شرط في الطير أنه مصوت أو في الديك أنه يصيح في وقت من الليل صح لأن ذلك عادة له فجرى مجرى الصيد في الفهد وقال بعض أصحابنا : لا يصح لأنه يجوز أن يوجد وأن لا يوجد وإن شرط أن يجيء من مسافة ذكرها صح لأن ذلك عادة وفيه قصد صحيح لتبليغ الأخبار فهو كالصيد في الفهد .
وقال القاضي : لا يصح لأنه تعذيب للحيوان وإن شرط الغناء في الأمة وفي الكبش أنه مناطح وفي الديك أنه مقاتل لم يصح لأنه منهي عنه فهو كالزنا في الأمة .
فصل .
وإذا اشترى ما مأكوله في جوفه فوجده معيبا فله الرد وعنه : لا شيء له لأنه لا تدليس من البائع ولا يمكنه معرفة باطنه والأول : أصح لأن عقد البيع اقتضى السلامة فإذا بان معيبا ملك رده كالعبد وإن كان مما لا قيمة له كبيض الدجاج والجوز الخرب والرمان الفاسد رجع بالثمن كله لأن هذا ليس بمال فبيعه فاسد كالحشرات وإن كان الفساد في بعضه رجع بقسطه وإن كان مما لمكسوره قيمة كجوز الهند وبيض النعام فقال الخرقي : يرجع بالثمن وعليه أرش الكسر كما لو كان المبيع ثوبا فقطعه واختار القاضي : أنه إن كان الكسر لا يزيد على ما يحصل به استعلام المبيع رده ولا شيء عليه لأن ذلك حصل ضرورة استعلام المبيع والبائع سلطه عليه فلم يمنع الرد كحلب لبن المصراة وإن زاد على ذلك خرج فيه روايتان كسائر المعيب الذي يعيب عنده .
فصل .
وإن اشترى ثوبا لا ينقصه نشره فنشره فله رده بالعيب وإن كان ذلك ينقصه فهو كجوز الهند وإن صبغ الثوب ثم وجده معيبا فله الأرش لا غير وعنه : يرده ويكون شريكا للبائع بقيمة الصبغ وعنه : يرده ويأخذ زيادته بالصبغ والأول : المذهب لأن إجبار البائع على بذل ثمن الصبغ إجبار على المعاوضة فلم يجز لقول الله تعالى : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } [ النساء : 29 ] .
فصل .
وإذا اشترط البائع البراءة من كل عيب لم يبرأ لأن البراءة مرفق في البيع لا يثبت إلا بالشرط فلم يثبت مع الجهالة كالأجل وعنه : يبرأ إلا أن يكون البائع علم بالعيب فكتمه لما روي أن ابن عمر باع عبدا من زيد بن ثابت بشرط البراءة بثمانمائة درهم فأصاب به عيبا فأراد رده على ابن عمر فلم يقبله فترافعا إلى عثمان فقال عثمان لابن عمر : أتحلف أنك لم تعلم بهذا العيب فقال : لا فرده عليه وهذه القصة اشتهرت فلم تنكر فكانت إجماعا ويتخرج أن يبرأ مطلقا بناء على قوله في صحة البراءة من المجهول ولأنه إسقاط حق من مجهول لا تسليم فيه فصح كالعتاق وإن قلنا بفساد الشرط فالبيع صحيح لأن ابن عمر باع بشرط البراءة فأجمعوا على صحته ويتخرج فساده بناء على الشروط الفاسدة