باب بيع النجش والتلقي وبيع الحاضر لباد وبيعه على بيع غيره والعينة .
وهي بيوع محرمه لما روى أبو هريرة أن الرسول A قال : [ لا تلقوا الركبان ولا يبع بعضكم على بيع بعض ولا تناجشوا ولا يبع حاضر لباد ] متفق عليه ومعنى النجش : أن يزد في السلعة من لا يريد شراءها ليغتر به المشتري ويقتدي به فهو حرام لأنه خداع والشراء صحيح وعنه : أنه باطل لأن النهي يقتضي الفساد والأولى أصح لأن النهي عاد إلى غير العقد فلم يؤثر فيه وللمشتري الخيار إن غبن غبنا يخرج عن العادة سواء كان بمواطأة من البائع أو لم يكن لأنه غبن للتغرير بالعاقد فأثبت الخيار كتلقي الركبان ولو قال البائع : أعطيت بهذه السلعة كذا كاذبا فاشتراها المشتري لذلك فالبيع صحيح وله الخيار لما ذكرناه .
فصل : .
وتلقي الركبان : أن يخرج الرجل من المصر يتلقى الجلب قبل دخوله فيشتريه فيحرم للخبر ولأنه يخدعهم ويغبنهم فأشبه النجش والشراء صحيح وعنه : أنه باطل للنهي والمذهب الأول لما روى أبو هريرة أن رسول الله A قال : [ لا تلقوا الجلب فمن تلقاه فاشترى منه فإذا أتى السوق فهو بالخيار ] رواه مسلم .
والخيار لا يكون إلا في عقد صحيح ولأن النهي لضرب من الخديعة أمكن استدراكها بالخيار فأشبه بيع المصراة وللبائع الخيار إن غبن غبنا يخرج عن العادة فإن لم يغبن فلا خيار له ويحتمل أن له الخيار للخبر والأول المذهب لأنه إنما يثبت لدفع الضرر عن البائع ولا ضرر مع عدم الغبن والحديث يحمل على هذا وجعل النبي A له الخيار إذا هبط السوق يفهم منه الإشارة إلى معرفته بالغبن فإن خرج لحاجة غير قصد التلقي فقال القاضي : لا يجوز له الشراء لوجود معنى النهي ويحتمل الجواز لعدم دخوله في الخبر والبيع للركبان كالشراء منهم لأن النهي عن تلقيهم لدفع الغبن والشراء والبيع فيه واحد .
فصل : .
وبيع الحاضر للبادي : هو أن يخرج الحاضر إلى جلاب السلع فيقول أنا أبيع لك فهو حرام للخبر ولأن فيه تضيقا على المسلمين إذ لو ترك الجالب يبيع متاعه باعه برخص فإذا تولاه الحاضر لم يبعه برخص وقد أشار النبي A إلى ذلك بقوله : [ لا يبع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض ] .
وعنه : لا بأس به وحمل الخبر على أنه اختص بأول الإسلام لما كان عليهم من الضيق و المذهب الأول للخبر والمعنى قال أصحابنا : إنما يحرم بشروط خمسة أحدها أن يكون الحاضر قد قصد البادي ليتولى ذلك والثاني : أن يكون البادي جاهلا بالسعر لأنه إذا كان عالما به فهو كالحاضر .
والثالث : أن يكون جلب السلعة لبيعها فإن جلبها ليدخرها فلا ضرر على الناس في بيع الحضر له ذكر الخرقي هذه الثلاثة .
وذكر القاضي شريطين آخرين : أن يقصد بيعها بسعر يومها ويتضرر الناس بتأخير بيعه فإذا اجتمعت هذه الشروط فالبيع باطل للنهي عنه وعنه : أنه صحيح لأن النهي عنه لمعنى في غيره فأما شراء الحاضر للبادي فصحيح لأنه لا ضيق على الناس فيه وإذا شرع ما يدفع به الضرر عن أهل المصر لا يلزم شرع ما يتضرر به أهل البدو فإن الخلق في نظر الشارع على السواء .
فصل : .
وأما البيع على بيع أخيه فهو أن يقول لمن اشترى شيئا في مدة الخيار أنا أبيعك مثله بدون هذا الثمن أو أجود منه بهذا الثمن فيفسخ العقد ويشتري سلعته فيحرم للخبر ولأن فيه إفسادا أو إنجاشا وإن فسخ البيع واشترى سلعته فالشراء باطل للنهي عنه وشراؤه على شراء أخيه كبيعه على بيعه ويحتمل أن البيع صحيح لأن النهي لمعنى في غير العقد .
فصل : .
فأما سومه على سوم أخيه فننظر فيه فإن كان البائع أنعم للمشتري البيع بثمن معلوم حرم على غيره سومه لما روى أبو هريرة أن النبي ( ص ) قال : [ لا يسم الرجل على سوم أخيه ] رواه مسلم وإن لم ينعم له جاز سومها لما روى أنس أن رجلا شكا إلى النبي A الشدة و الجهد فقال له : [ ما بقي لك شيء ] قال : بلى قدح وحلس فأتاه بهما فقال : من يبتاعهما ؟ فقال رجل : أنا أبتاعهما بدرهم فقال النبي A [ : من يزيد على درهم ؟ ] فأعطاه رجل درهمين فباعهما منه قال الترمذي : هذا حديث حسن ولأن فاطمة بنت قيس ذكرت للنبي A أن معاوية وأبا جهم خطباها فأمرها أن لا تنكح أسامة متفق عليه فإن ظهرت منه أمارة الرضى منى غير تصريح به فقال القاضي : لا تحرم المساومة لخبر فاطمة ويحتمل أن تحرم لعموم النهي وليس في خبر فاطمة أمارة على الرضى .
فصل : .
فأما بيع العينة فهو أن يبيع سلعة بثمن مؤجل ثم يشتريها منه بأقل من الثمن حالا فلا يجوز لما روى سعيد عن غندر عن شعبة عن أبي إسحاق عن امرأته العالية بنت أيفع بن شرحبيل قالت : دخلت على عائشة أنا وأم ولد زيد بن أرقم فقالت أم ولد زيد : إني بعثت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء ثم اشتريته منه بستمائة درهم فقالت لها : بئس ما شريت وبئسما اشتريت أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله A إلا أن يتوب ولا تقول مثل هذا إلا توقيفا سمعته من النبي A ولأن ذلك ذريعة إلى الربا لأنه أدخل السلعة ليستبيح بيع ألف بخمسمائة والذرائع معتبرة فإن اشتراها بسلعة جاز لأنه لا ربا بين الأثمان والعروض إن اشتراها بنقد غير الذي باعها به فقال أصحابنا : يجوز لأن التفاضل بينهما جائز ويحتمل التحريم لأن النساء بينهما محرم وإن اشتراها من غير المشتري أو اشتراها أبو البائع أو ابنه جاز وإن نقصت السلعة لتغير صفتها جاز لبائعها شراؤها بأقل من الثمن لأن نقص الثمن لنقصان السلعة وإن نقصت لتغير السوق أو زادت لم يجز شراؤها بأقل لما ذكرناه .
فصل : .
فإن باعها بثمن حال نقده ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة لم يجز نص عليه لأنها في معنى التي قبلها سواء .
فصل : .
وإن باع طعاما إلى أجل بثمن فلما حل الأجل أخذ منه بالثمن طعاما لم يجز لأنه ذريعة إلى بيع طعام بطعام نسيئة فهو في معنى ما تقدم وكل شيئين حرم النساء فيهما لم يجز أخذ أحدهما عن الآخر قبل قبض ثمنه وقياس قول أصحابنا في مسألة العينة أنه يجوز هاهنا أحذ ما يجوز التفاضل بينه وبين الطعام المبيع .
فصل : .
ومن اشترى مكيلا أو موزونا لم يجز له بيعه حتى يقبضه في ظاهر كلام أحمد رضي افلله عنه و الخرقي وما عداهما يجوز بيعه قبل القبض لقول النبي A : [ من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه ] وقال ابن عمر : رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة يضربون على عهد رسول الله ( ص ) أن يبيعوه حتى يؤوه إلى رحالهم متفق عليهما وهذا لا يخلو من كونه مكيلا أو موزونا والحديث يدل بصريحه على منع بيعه قبل قبضه وبمفهومه على حل بيع ما عداه وعن أحمد : أن المنع من البيع قبل القبض يخص المطعوم لاختصاص الحديث به وما ليس بمطعوم من المكيلات والموزونات يجوز بيعه قبل القبض وعنه : أن المنع يختص ما ليس بمتعين كقفيز من صبرة ورطل زيت من دن وما بيع صبرة أو جزافا جاز بيعه قبل قبضه وهو قول القاضي وأصحابه لأنه يتعلق به حق توفية بخلاف غيره وعنه : أن كل مبيع لا يجوز بيعه قبل قبضه لما روي عن النبي A أنه [ نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار ] رواه أبو داود .
وقال ابن عباس : أحسب كل شيء بمنزلة الطعام ولأنه لم يتم ملكه عليه أشبه المكيل والمذهب الأول وما بيع بصفة أو برؤية متقدمة فهو كالمكيل لأنه لا يتعلق به حق توفية فأشبه المكيل والموزون وما حرم بيعه قبل قبضه لم يجز بيعه لبائعه لعموم النهي ولا الشركة فيه لأنه بيع لبعضه ولا التولية لأنه بيع بمثل الثمن الأول فأما الثمن في الذمة فيجوز بيعه لمن هو في ذمته لما روى ابن عمر قال : كنا نبيع الإبل بالبقيع بالدراهم فنأخذ بدل الدراهم دنانير ونبيع بالدنانير فنأخذ بدلها الدراهم فسألنا النبي A عن ذلك فقال : [ لا بأس إذا افترقتما وليس بينكما شيء ] رواه أبو داود ولا يجوز بيعه لغير من هو في ذمته لأنه معجوز عن تسليمه فأشبه بيع المغصوب لغير غاصبه وما كان غير مستقرا كالمسلم فيه لم يجز بيعه بحال لا لصاحبه ولا لغيره لقوله عليه السلام : [ من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره ] رواه أبو داود .
فصل : .
وكل عقد ينفسخ بتلف عوضه قبل قبضه كالإجارة والصلح حكمه حكم البيع فيما ذكرناه وما لا ينفسخ كالخلع والعتق على مال والصلح عن دم العمد جاز التصرف في عوضه قبل قبضه طعاما كان أو غيره وكذلك أرش الجناية وقيمة المتلف والمملوك بإرث أو وصية أو غنيمة إذا تعين ملكه فيه لأنه لا يتوهم غرر الفسخ بهلاك المعقود عليه جاز بيعه كالوديعة والصداق كذلك قاله القاضي لأنه لا ينفسخ العقد بتلفه فهو كعوض الخلع وقال الشريف و أبو الخطاب : هو كالمبيع لأنه يخشى رجوعه بانفساخ النكاح بالردة فأشبه المبيع .
فصل : .
وقبض كل شيء بحسبه المكيل المبيع قبضه كيله لما روى أبو هريرة أن رسول الله A قال : [ من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يكتاله ] رواه مسلم وإن بيع جزافا فقبضه نقله لما روى ابن عمر قال : كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول الله A أن نبيعه حتى ننقله من مكانه رواه مسلم وقبض الذهب والفضة والجوهر باليد وسائر ما ينقل قبضه نقله وقبض الحيوان أخذه بزمامه أو تمشيته من مكانه وما لا ينقل قبضه التخلية بين مشتريه وبينه لا حائل دونه لأن القبض مطلق في الشرع فيجب الرجوع فيه إلى العرف كالإحياء والإحراز والعادة ما ذكرناه وعنه : أن القبض في جميع الأشياء بالتخلية مع التميز لأنه قبض فيما لا ينقل فكان قبضا في غيره .
فصل : .
وما يعتبر له القبض إذا تلف قبل قبضه إذا انفسخ العقد وهو من مال البائع لأنه تلف قبل تمام ملك المشتري عليه فأشبه ما تلف قبل تمام البيع وإن أتلفه المشتري استقر عليه الثمن لأنه تلف بتصرفه فاستقر الثمن عليه كما لو قبضه وإن أتلفه أجنبي لم ينفسخ العقد لأن له بدلا يرجع إليه فلم ينفسخ العقد كما لو تعيب ويخير المشتري بين الفسخ والرجوع على البائع بالثمن لأنه تلف بغير فعل المشتري أشبه ما لو تلف بفعل الله تعالى وبين إتمام العقد والرجوع ببدله لأن الملك له وإن أتلفه البائع احتمل أن يبطل العقد لأنه يضمنه إذا تلف في يده بالثمن فكذلك إذا أتلفه وقال أصحابنا : الحكم فيه حكم ما لو أتلفه أجنبي وإن تعيب قبل قبضه فهو كما لو تعيب قبل بيعه لأنه من ضمان البائع .
فصل : .
وإذا باع شاة بشعير فأكلته قبل قبضه ولم تكن يد بائعها عليها انفسخ البيع لأن الثمن هلك قبل القبض بغير فعل آدمي فإن كانت يده عليها فهو كإتلافه له وإن باعها مشتريها ثم هلك الشعير قبل قبضه انفسخ العقد الأول ولم يبطل الثاني لأن ذلك كان قبل فسخ العقد وعلى بائعها الثاني قيمتها لأنه تعذر عليه ردها وهكذا إن كان بدله شقصا فأخذه الشفيع انفسخ البيع الأول وعلى المشتري رد قيمة الشقص ويأخذ من الشفيع قيمة الطعام لأنه الذي اشترى به الشقص .
فصل : .
وما لا يحتاج إلى قبض إذا تلف فهو من مال المشتري لما روى حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال : مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيا مجموعا فهو من مال المشتري ذكره البخاري وهذا ينصرف إلى سنة النبي A إلا أن يمنعه البائع قبضه فيضمنه لأنه تلف تحت يد عادية أشبه ما لو تعلف تحت يد الغاصب وسواء حبسه على قبض الثمن أو غيره إلا أن يكون قد اشترط عليه الرهن في البيع