كتاب الجهاد .
وهو فرض لقول الله تعالى : { كتب عليكم القتال } و قوله سبحانه : { انفروا خفافا و ثقالا و جاهدوا بأموالكم و أنفسكم في سبيل الله } و قوله تعالى { إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما } و هو من فروض الكفايات إذا قام به من فيه كفاية سقط عن الباقين لقول الله سبحانه : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر و المجاهدون في سبيل الله } إلى قوله : { و كلا وعد الله الحسنى } و لو كان فرضا على الجميع لما وعد تاركه الحسنى و قال سبحانه : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } و لأنه لو فرض على الأعيان لاشتغل الناس به عن العمارة و طلب المعاش و العلم فيؤدي إلى خراب الأرض و هلاك الخلق و لا يجب إلا بشروط خمسة : .
أحدهما : التكليف فلا يجب على صبي و لا مجنون و لا كافر لما تقدم و لأن هذه من شرائط التكليف بسائر الفروع و قد روي عن ابن عمر أنه قال : عرضت على رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أحد و أنا ابن أربع عشر سنة فلم يجزني في المقاتلة متفق عليه .
و لأن المجنون لا يستطيع الجهاد و الكافر غير مأمون و الصبي ضعيف البنية .
الثاني : السلامة من الضرر لقوله سبحانه : { غير أولي الضرر } و هو العمى و العرج و المرض و الضعف لقول الله سبحانه : { ليس على الأعمى حرج و لا على الأعرج حرج و لا على المريض حرج } و قوله تعالى : { ليس على الضعفاء و لا على المرضى و لا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج } و من كان في بصره سوء يمنعه من رؤية عدوه و ما يتقيه من سلاح لم يلزمه الجهاد لأنه في معنى الأعمى في عدم إمكان القتال و إن لم يمنعه من ذلك لم يسقط عنه فرضه و يجب على الأعشى الذي يبصر في النهار دون الليل و على الأعور لأنهما يتمكنان من القتال و لا يجب على أقطع اليد أو الرجل لأنه إذا سقط عن الأعرج فالأقطع أولى و لأنه يحتاج إلى الرجلين في المشي و اليدين ليتقي بأحدهما و يضرب بالأخرى و الأشل كالأقطع و من أكثر أصابعه ذاهب أو إبهامه أو ما لا تبقى منفعة إليه بعد ذهابه فهو كالأقطع كذلك ومن كان عرجه يسيرا أو مرضه يسيرا لا يمنعه الركوب و المشي و العدو و القتال لم يسقط عنه الجهاد لأنه متمكن منه .
الثالث : الحرية فلا يجب على العبد لقوله سبحانه : { و لا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج } و العبد لا يجد ما ينفق و لأنه عبادة تتعلق بقطع مسافة فلم يجب على العبد كالحج .
الرابع : الذكورية : فلا يجب على المرأة لما روي عن عائشة Bها أنها قالت : قلت : يا رسول الله هل على النساء جهاد ؟ قل : [ جهاد لا قتال فيه الحج و العمرة ] و لأن الجهاد القتال و المرأة ليست من أهله لضعفها و خورها و لا يجب على خنثى مشكل لأنه لا يعلم كونه رجلا .
الخامس : الاستطاعة لقول الله تعالى : { و لا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج } و لأنه يحتاج إلى قطع مسافة فأشبه الحج و إن كان القتال قريبا من البلد لم يشترط ذلك لأنه لا يحتاج إلى ركوب و لا نفقة طريق و الاستطاعة : وجدان الزاد و السلاح و آلة القتال و مركوب يبلغه إذا كان على مسافة القصر لقول الله تعالى : { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون } .
فصل .
و يتعين الجهاد في موضعين : .
إحداهما : إذا التقى الزحفان تعين الجهاد على من حضر لقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا } و قوله سبحانه : { إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار } الآية .
الثاني : إذا نزل الكفار ببلد المسلمين تعين على أهله قتالهم و النفير إليهم و لم يجز لأحد التخلف إلا من يحتاج إلى تخلفه لحفظ الأهل و المكان و المال و من يمنعه الأمير الخروج لقول الله تعالى : { انفروا خفافا و ثقالا } و لأنهم في معنى حاضر الصف فتعين عليهم كما تعين عليه .
فصل .
و أقل مل يفعله الجهاد مرة في كل عام لأن الجزية تجب على أهل الذمة في كل عام مرة و هي بدل عن النصرة فكذلك مبدلها و هو الجهاد إلا لعذر من ضعف بالمسلمين أو انتظار مدد أو مانع في الطريق من قلة علف أو غيره أو طمعه في إسلامهم بتأخير قتالهم و نحو هذا لأن النبي صلى الله عليه و سلم قد صالح قريشا عشر سنين و أخر قتالهم حتى نفضوا عهده و إن دعت الحاجة إلى فعله في العام أكثر من مرة و جب لأنه فرض كفاية فكان على حسب الحاجة .
فصل .
و من كان أحد أبويه مسلما لم يجز له الجهاد إلا بإذنه لما روى ابن العباس قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أجاهد ؟ قال : [ لك أبوان ] قال : نعم قال : [ ففيهما فجاهد ] قال الترمذي : هذا حديث صحيح و لأن الجهاد فرض كفاية و برهما فرض عين فوجب تقديمه فإن كانا كافرين فلا إذن لهما لأن أبا بكر الصديق و أبا حذيفة بن عتبة Bهما و غيرهما كانوا يجاهدون بغير إذن آبائهم و لأنهما متهمان في الدين و إن كانا رقيقين ففيه وجهان : .
أحدهما : يعتبر إذنهما لأنهما كالحرين في البر و الشفقة و الدين .
والثاني : لا إذن لهما لأنه لا ولاية لهما و لا نفقة و لا إذن لهما في أنفسهما ففي غيرهما أولى و لا إذن لغيرهما من الأقارب كالجدين و سائر الأقارب لأن الشرع لم يرد بذلك و لا هو في معنى المنصوص عليه لتأكيد حرمة الوالدين في البر و التقديم في الإرث و النفقة و الحجب و الولاية و غيرها و متى تعين الجهاد فلا إذن لأبويه صار فرض عين فلم يعتبر إذنهما فيه كالحج الواجب و كذلك كل الفرائض لا طاعة لهما في تركه لأن تركه معصية و لا طاعة لمخلوق في معصية الله تعالى كالسفر لطلب العلم الواجب الذي لا يقدر على تحصيله في بلده و نحو ذلك و إن أراد سفرا غير واجب فمنعاه منه لم يجز له لما روي عن عبد الله بن عمرو قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : جئت أبايعك على الهجرة و تركت أبوي يبكيان قال : [ ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما ] من المسند .
فصل .
و لا يجوز لمن عليه دين الجهاد إلا بإذن غريمه إلا أن يقيم به كفيلا أو يعطي به رهنا أو يكون له من يقضيه عنه لما روى أبو قتادة أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إن قتلت في سبيل الله كفر الله خطاياي ؟ فقال رسول الله A : [ إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر كفر الله عنك خطاياك إلا الدين كذلك قال جبريل ] رواه مسلم ولأن فرض أداء الدين متعين عليه فلا يجوز تركه لفرض على الكفاية يقوم غيره فيه مقامه .
و المؤجل كالحال لأنه يعرض نفسه للقتل فيضيع الحق فإن كان له مال غائب فهو كالمعسر لأنه قد يتلف فيضيع الحق و إن تعين عليه الجهاد فلا إذن لغريمه لما ذكرنا في الوالدين و إن أذن له الغريم جاز له الجهاد لأن الحق له فجاز بإذنه فإن رجع عن الإذن أو أذن له أبواه في الغزو ثم رجعا أو كانا كافرين فأسلما أو رقيقين فعتقا قبل التقاء الزحفين لم يجز الخروج إلا بإذن مستأنف و إن كان بعده فلا إذن لهما لأنه صار متعينا فقدم لما ذكرنا .
فصل .
و أفضل التطوع الجهاد في سبيل الله نص عليه أحمد و ذكر له أمر الغزو فجعل يبكي و يقول : ما من أعمال البر أفضل منه و أي عمل أفضل منه ؟ و الذين يقاتلون في سبيل الله : هم الذين يدفعون عن الإسلام و عن حريمهم و قد بذلوا مهج أنفسهم الناس آمنون و هم خائفون و قد روى أبو سعيد الخدري قال : قيل : يا رسول الله أي الناس أفضل ؟ قال : [ مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه و ماله ] متفق عليه و عن أبي هريرة قال : [ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم : أي الأعمال أفضل ؟ أو أي الأعمال خير ؟ قال : إيمان بالله و رسوله قيل : ثم أي ؟ قال : الجهاد سنام العمل قيل : ثم أي ؟ قال : ثم حج مبرور ] حديث صحيح و لأن نفعه عظيم و خطره كبير فكان أفضل مما دونه .
وغزو البحر أفضل من غزو البر لما روى أبو داود عن أم حرام عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد و الغرق له أجر شهيدين ] و روى ابن ماجة بإسناده عن أبي أمامة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ شهيد البحر مثل شهيدي البر و المائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر و ما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله و إن الله وكل ملك الموت بقبض الأرواح إلا شهيد البحر فإنه يتولى قبض أرواحهم و يغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا الدين و لشهيد البحر الذنوب و الدين ] و لأن غزو البحر أعظم خطرا فإنه بين خطر القتل و الغرق و لا يمكنه الفرار دون أصحابه .
فصل .
و في الرباط فضل عظيم : و هو المقام بالثغر مقويا للمسلمين و الثغر : كل مكان يخيف العدو و يخافه قال أحمد : ليس يعدل الرباط و الجهاد شيء و عن سلمان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ رباط يوم و ليلة خير من صيام شهر و قيامه فإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله و أجري عليه رزقه و أمن الفتان ] أخرجه مسلم .
وعن عثمان Bه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل ] حديث صحيح و ليس لأقله و أكثره حد و تمامه أربعون يوما لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ تمام الرباط أربعون يوما ] أخرجه أبو الشيخ في كتاب الثواب و يروى ذلك عن ابن عمر و أبي هريرة Bهم و أفضل الرباط المقام بأشد الثغور خوفا لأنه أنفع للمسلمين و أشد خطرا و لا يستحب نقل أهله إلى الثغر المخوف نص عليه أحمد و قال : أخاف عليه الإثم لأنه يعرض ذريته للمشركين و قد قال عمر : لا تنزلوا المسلمين ضفة البحر و يستحب لأهل الثغر أن يجتمعوا في المسجد الأعظم لصلواتهم ليكون أجمع لهم إذا حضر النفير فيبلغ الخبر جميعهم و تراهم عين الكفار فتخافهم و تخوف منهم قال الأوزاعي : لو أن لي ولاية على المساجد يعني التي في الثغر لسمرت أبوابها يريد أن تكون صلاتهم في موضع واحد .
فصل .
و يقاتل كل قوم من يليهم من العدو لقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } و لأنهم أهم فتجب البداءة بهم إلا أن تدعو الحاجة إلى البداءة بغيرهم إما لانتهاز فرصة فيهم أو خوف الضرر بتركهم أو لمانع من قتال الأقرب فيبدأ بالأبعد لذلك و يستحب التحريض عل القتال لقول الله تعالى : { فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك و حرض المؤمنين } و يستحب ذكر الله و الدعاء لقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا و اذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون } و يستحب أن يدعو الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم لما روى سهل بن سعد الساعدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعلي كرم الله وجهه يوم خيبر : [ إذا نزلت بساحتهم فادعهم إلى الإسلام و أخبرهم بما يجب عليهم فوالله لأن يهدي الله بهداك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم ] متفق عليه و لا تجب الدعوة نص عليه أحمد و قال : إن الدعوة قد بلغت كل أحد و لا أعرف اليوم أحدا يدعى إنما كانت الدعوة في أول الإسلام و قد روى ابن عمر : أن النبي صلى الله عليه و سلم أغار على بني المصطلق و هم غارون آمنون و إبلهم تسقى على الماء فقتل المقاتلة و سبى الذرية متفق عليه و إن اتفق في الجزائر البعيدة من لم تبلغه الدعوة و جبت دعوته لقول الله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } فلا يجوز قتالهم على ما لا يلزمهم .
فصل .
و لا يحل لمسلم أن يهرب من كافرين و لا لجماعة أن يفروا من مثليهم لقول الله تعالى { الآن خفف الله عنكم و علم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين و إن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين } و هذا أمر بلفظ الخبر لأنه لو كان خبرا بمعناه لم يكن تخفيفا و لوقع الخبر بخلاف المخبر و الأمر يقتضي الوجوب { إلا متحرفا لقتال } و هو أن ينصرف من ضيق إلى سعة أو من سفل إلى علو أو من مكان منكشف إلى مستتر أو من استقبال ريح أو شمس إلى استدبارهما و نحو ذلك مما هو أمكن له في القتال { أو متحيزا إلى فئة } ينضم إليهم ليقابل معهم لقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار * ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله } و سواء قربت الفئة أو بعدت لما روى ابن عمر : أنه كان في سرية من سرايا رسول الله A فحاص المسلمون حيصة عظيمة و كنت فيمن حاص فلما برزنا قلنا : كيف نصنع و قد فررنا من الزحف وبؤنا بغضب من الله ؟ فجلسنا لرسول الله صلى الله عليه و سلم قبل صلاة الفجر فلما خرج قمنا فقلنا له : نحن الفرارون فقال : [ لا بل أنتم العكارون أنا فئة كل مسلم ] أخرجه الترمذي و قال : حديث حسن و عن عمر Bه أنه قال : أنا فئة كل مسلم و قال : لو أن أبا عبيد تحيز إلي لكنت له فئة و كان عبيد بالعراق و إن كان العدو أكثر من المثلين لم تجب مصابرتهم لأن الله تعالى لما فرض مصابرة المثلين دل على إباحة الفرار من الزائد عليهما و قال ابن عباس : من فر من اثنين فقد فر و من فر من ثلاثة فما فر لكن إن غلب على ظنهم الظفر فالأولى لهم الثبات ليحصل لهم الأجر و الغنيمة ومسرة المسلمين بظفرهم و إن غلب على ظنهم الهلاك بالإقامة و النجاة في الفرار فالفرار أولى لئلا يكسروا قلوب المسلمين بهلاكهم و إن ثبتوا جاز لأن لهم غرضا في الشهادة و إن غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة و الانصراف فالأولى الثبات ليحصل لهم ثواب الشهداء الصابرين المقبلين و لأنه يجوز أن يظفروا فيسلموا و يغنموا فإن الله تعالى يقول : { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين } و إن خشوا الأسر قاتلوا حتى يقتلوا لينالوا شرف الشهادة و لا يتسلط الكفار على إهانتهم و تعذيبهم و إن استأسروا جاز لأن عاصم بن ثابت و خبيب بن عدي و زيد بن الدثنة في عشرة رهط كانوا سرية لرسول الله صلى الله عليه و سلم فنفرت إليهم هذيل بقريب من مائة رجل رام فعرضوا عليهم أن يستأسروا فأبوا فقتلوا عاصما في سبعة و نزل إليهم خبيب و زيد على العهد و الميثاق فلم يذم أحدا منهم و إن ألقى الكفار نارا في سفينة فيها مسلمون فما غلب على ظنهم السلامة فيه فالأولى فعله لأن فيهم صيانتهم عن الهلاك و إن ثبتوا جاز قال أحمد : كيف شاء صنع و إن تساوى الأمران فهم بالخيار بين المقام بالسفينة و إلقاء نفوسهم في الماء لأنهما موتتان فيختار أيسرهما و عنه : أنه يلزمهم المقام لئلا يكون موته بفعله فيكون معينا على نفسه