باب القسامة .
إذا وجد قتيل فادعى وليه على إنسان قتله لم تسمع الدعوى إلا محررة على معين لأنها دعوى في حق فاشترط لها تعيين المدعى عليه كسائر الدعوى فإذا حرر الدعوى و لم يكن بينهم لوث فالقول قول المدعى عليه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لو يعطى الناس بدعا ويهم لادعى قوم دماء رجال و أموالهم و لكن اليمين على المدعى عليه ] رواه مسلم و لأن الأصل براءة ذمته فكان القول قوله كدعوى المال .
و هل يستحلف ؟ فيه روايتان : .
إحداهما : يستحلف للخبر و لأنه دعوى في حقي آدمي أشبهت دعوى المال .
و الأخرى : لا يستحلف و يخلى سبيله لأنها دعوى فيما لا يجوز بدله فلم يستحلف فيها كالحدود و إذا قلنا : يستحلف حلف يمينا واحدة لأنها يمين يعضدها الظاهر و الأصل فلم تغلظ بالعدد كاليمن في المال .
و إن كان بينهما لوث فادعى أنه قتله عمدا حلف المدعي خمسين يمينا و استحق القصاص لما روى سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج أن محيصة بن مسعود و عبد الله بن سهل انطلقا قبل خيبر فتفرقا في النخل فقتل عبد الله بن سهل فاتهموا اليهود فجاء عبد الرحمن و ابنا عمه حويصة و محيصة النبي صلى الله عليه و سلم فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه وهو أصغرهم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ كبر الكبر فتكلما في أمر صاحبهما ] فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته ] فقالوا : أمر لم نشهده كيف نحلف ؟ قال : [ فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم ] فقالوا يا رسول الله قوم كفار ضلال قال : فوداه رسول الله صلى الله عليه و سلم من قبله متفق عليه .
و لأن اللوث يقوي جنية المدعي و يغلب على الظن صدقه فسمعت يمينه أولا كالزوج في اللعان و إذا حلف استحق القصاص لقوله صلى الله عليه و سلم : [ فيدفع إليكم برمته ] و في لفظ [ تحلفون و تستحقون دم صاحبكم ] و لأنها حجة يثبت بها القتل العمد فيجب بها القود كالبينة و ليس له القسامة على أكثر من واحد لقوله : [ يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته ] و لأنها بينة ضعيفة خولف بها .
الأصل في قتل الواحد فيقتصر عليه .
فصل .
و يقسم الورثة دون غيرهم في إحدى الروايتين لأنها يمين في دعوى فلم تشرع في حق غير المتداعيين كسائر الأيمان .
و الثانية : يقسم من العصبة الوارث و غيرهم خمسون رجلا لقوله صلى الله عليه و سلم : [ يقسم خمسون منكم على رجل منهم ] فعلى هذا يحلف أولياؤه - الأقرب منهم فالأقرب كقولنا في تحمل العقل - كل واحد يمينا واحدة و على الرواية الأولى يفرض على ورثة المقتول على قد ميراثهم فإن كان له ابنان حلف كل واحد منهما خمسة و عشرين يمينا و إن كان فيها كسر جبر و كملت يمينا في حق كل واحد فإذا كانوا ثلاثة بنين حلف كل واحد سبعة عشر يمينا و إن كان له أب و ابن حلف الأب تسعة أيمان و حلف الابن اثنين و أربعين يمينا لأن اليمين لا تتبعض فوجب أن تكمل .
فصل .
و إن نكل المدعون حلف المدعى عليه خمسين يمينا و برئ لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم ] و عن أحمد C أنهم يحلفون و يغرمون الدية لأن ذلك يروى عن عمر Bه و الأول المذهب للخبر و في لفظ منه قال : فيحلفون خمسين يمينا و يبرؤون مز دمه ولأنها أيمان .
مشروعة في حق المدعى عليه فبرئ بها كسائر الأيمان فإن لم بحلف المدعون و لم يرضوا بيمين المدعى عليه فداه الإمام من بيت المال لأن النبي صلى الله عليه و سلم فدى الأنصاري بمائة من الإبل إذ لم يحلفوا و لم يرضوا بيمين اليهود فإن تعذرت ديته لم يكن لهم إلا يمين المدعى عليهم كسائر الدعاوى و إن نكل المدعى عليهم ففيه ثلاث روايات : .
إحداهن : يخلى سبيلهم لأنها يمين في حق المدعى عليه فلم يحبس عليها كسائر الأيمان قال القاضي : و يديه الإمام من بيت المال كالتي قبلها .
و الثانية : يحبسوا حتى يحلفوا أو يقروا لأنها أيمان مكررة يبدأ فيها بيمين المدعي فيحبس المدعى عليه في نكولها كاللعان .
و الثالثة : تجب الدية على المدعى عليه لأنه حكم يثبت بالنكول فثبت بالنكول هاهنا كما لو كانت الدعوى قتل خطأ .
فصل .
ومن مات ممن عليه لأيمان قام ورثته مقامه ويقسم حصته من الأيمان بينهم و يجبر كسرها عليهم كورثة القتيل فإن مات بعد حلفه البعض بطل ما حلفه و ابتدؤوا الأيمان لأن الخمسين جرت مجرى يمين واحدة و لا يجوز أن يبني الوارث على بعض يمين الموروث وإن جن ثم أفاق بنى على ما حلفه لأو الموالاة غير مشترطة في .
الأيمان .
فصل .
و تشرع القسامة في كل قتل موجب القصاص سواء كان المقتول مسلما أو كافرا أو حرا أو عبدا لأنه قتل موجب للقصاص أسبه قتل المسلم الحر و ظاهر كلام الخرقي أنها لا تشرع في قتل غير موجب للقود كالخطأ و شبه العمد و قتل المسلم الكافر و الحر العبد و الوالد الولد لأن الخبر يدل على وجوب القود بها فلا تشرع في غيره و لأنها مشروطة باللوث و لا تأثير له في الخطأ فعلى هذا يكون حكمه حكم الدعوى مع عدم اللوث سواء و قال غيره : تجري القسامة في كل قتل لأنها حجة تثبت العمد الموجب للقصاص فيثبت بها غيرها كالبينة فعلى قولهم تسمع الدعوى على جماعة إذا كان القتل غير موجب للقصاص و إذا ردت الأيمان عليهم حلف كل واحد منهم خمسين يمينا وقال بعض أصحابنا : تقسم الأيمان عليهم بالحصص لقوله صلى الله عليه و سلم : [ فتبرئكم يهود بخمسين يمينا ] لم يزد عليها و الأول : أقيس لأنه لا يبرئ المدعى عليه حال الاشتراك إلا ما يبرئه حال الانفراد كسائر الدعاوى و إن كانت الدعوى على جماعة في حق بعضهم لوث حلف المدعون على صاحب اللوث و أخذوا حصته من الدية و حلف المدعى عليه يمينا واحدة وبرئ و لا تشرع القسامة فيما دون النفس من الجروح و الأطراف لأنها تثبت في النفس لحرمتها فاختصت بها كالكفارة .
فصل .
و يشترط للقسامة اتفاق المستحقين على الدعوى فإن ادعى بعضهم القتل فكذبه البعض لم يجب القسامة لأن المكذب منكر لحق نفسه فقيل كالإقرار و إن قال بعضهم : قتله هذا و قال بعضهم : قتله هو و آخر فعلى قول الخرقي : لا قسامة و على قول غيره : يقسمان على المتفق عليه و يأخذان نصف الدية و يحلف الآخر و يبرأ و إن قال أحدهما : قتله زيد و آخر : لا أعرفه و قال الآخر قتله عمرو و آخر لا أعرفه فقال أبو بكر : ليس هاهنا تكذيب لأنه يكون المجهول في حق أحدهما هو الذي عرفه أخوه و يحلف كل واحد منهما على الذي عينه خمسين يمينا و له ربع الدية فإن عاد كل واحد منهما فقال : الذي جهلته هو الذي عينه أخي حلف خمسا و عشرين يمينا و استحق عليه ربع الدية و إن قال : الذي جهلته قد عرفته هو غير الذي عينه أخي بطلت القسامة و عليه رد ما أخذ لأن التكذيب يقدح في اللوث و إن رجع الولي عن الدعوى بعد القسامة بطلت و لزمه رد ما أخذ لأنه يقر على نفسه فقبل إقراره و عليه رد ما أخذه .
فصل .
و أن كان في ورثة القتيل صبي أو غائب و كانت الدعوى عمدا لم تثبت القسامة حتى يبلغ الصبي و يقدم الغائب لأن حلف أحدهما غير مفيد و إنك كانت موجبة للمال كالخطأ و نحوه فللحاضر المكلف أن يحلف و يستحق حصته من الدية و في قدر أيمانه وجهان : .
أحدهما : يحلف خمسين يمينا هذا قول أبي بكر : لأننا لا نحكم بوجوب الدية إلا بالأيمان الكاملة و لأن الخمسين في القسامة كاليمين الواحدة في غيرها .
و الآخر : يحلف خمسا و عشرين يمينا هذا قول ابن حامد لأنه لو كان أخوه كبيرا حاضرا لم يحلف إلا خمسا و عشرين فكذلك إذا كان صغيرا أو غائبا و لأنه لا يستحق أكثر من نصف الدية فلا يلزمه أكثر من نصف الأيمان فإذا قدم الغائب و بلغ الصغير حلف نصف الأيمان وجها واحدا لأنه يبني على يمين غيره و يستحق قسطه .
من الدية فإن كانوا ثلاثة فعلى قول ابن حامد : يحلف كل واحد سبعة عشر يمينا و على قول أبي بكر : يحلف الأول خمسين و إذا قدم الثاني حلف خمسا و عشرين فإذا قدم الثالث حلف سبعة عشر يمينا .
فصل .
قال أصحابنا : و لا مدخل للنساء في القسامة لأنه لا مدخل لهن في العقل فإذا كان في الورثة رجال و نساء أقسم الرجال دون النساء فإن كانت المرأة مدعى عليها فينبغي أن تقسم لأن اليمين لا تشرع في حق غير المدعى عليه و لو كان جميع ورثة القتيل نساء احتمل أن يقسم المدعى عليهم لتعذر الأيمان من المدعين و احتمل أن يقسم من عصبات القتيل خمسون رجلا و يثبت الحق للنساء إذا قلنا : إن القسامة تشرع في حق .
غير الوارث فإن لم يوجد من عصبته خمسون قسمت على من وجد منهم .
فصل .
و اللوث المشترط في القسامة : هو العداوة الظاهرة بين القتيل و المدعى عليه كنحو ما بين الأنصار و يهود خيبر و ما بين القبائل المتحاربين و ما بين أهل البغي و العدل و ما بين الشرطة و اللصوص لأن اللوث إنما ثبت بحكم النبي صلى الله عليه و سلم في الأنصاري المقتول بخيبر عقيب قول الأنصار : عدي على صاحبنا فقتل و ليس لنا بخيبر عدو إلا يهود فقضى رسول الله صلى الله عليه و سلم لهم باليمن فوجب أن يعلل بذلك و يعدى إلى مثله و لا يلحق به ما يخالفه و عنه : أن اللوث : ما يغلب على الظن صدق المدعي في أن المدعى عليه قتله إما العداوة المذكورة أن تفرق جماعة عن قتيل أو وجود قتيل عقيب ازدحامهم أو في مكان عنده في رجل معه سيف أو حديدة ملطخة بدم أو يقتتل طائفتان فيوجد في إحداهما قتيل أو يشهد بالقتل من لا تقبل شهادته من النساء و الصبيان و العبيد و الفساق أو عدل واحد لأن العداوة إنما كانت لوثا لتأثيرها في غلبة الظن بصدق المدعي فنقيس عليها ما شاركها في ذلك فأما قول القتيل : دمي عند فلان فليس بدوث لأن قوله غير مقبول على خصمه و لو شهد عدلان أن أحد هذين هو القاتل لم يكن لوثا لأنهم لم يعينوا واحدا و من شرط القسامة التعين .
فصل .
و لا يشترط في اللوث أن يكون بالقتيل أثر لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يسأل الأنصار عن هذا و لو اشترط لاستفصل عليه السلام و سأل عنه و لأنه قد يقتل بما لا يظهر أثره كغم الوجه و عصر الخصيتين و قال أبو بكر : يشترط ذلك و قد أومأ إليه أحمد لأن الغالب أن القتل لا يحصل إلا بما يؤثر فإذا لم يكن به أثر فالظاهر أنه مات بغير قتل .
فصل .
و إذا ادعى رجل على رجل قتل وليه و بينهما لوث فجاء آخر فقال أنا قتلته و لم يقتله هذا لم تسقط القسامة بإقراره لأنه قول أجنبي و لا يثبت القتل على المقر لأن الولي لم يدعه و عن أحمد : أن الدعوى تبطل على الأول لأنها عن ظن و قد بان خلافه و له الدية على الثاني لأنه مقر على نفسه بها و لا قصاص عليه ولأن دعوى الولي على الأول شبهة في تبرئة الثاني فيمتنع القصاص و يحتمل أن لا يملك مطالبته بالدية كذلك و إن كان قد أخذ الدية من الأول ردها عليه و الله سبحانه و تعالى أعلم