فصول : الإنصات للخطبة وحكم الكلام والصلاة قبلها وأثناءها وبعدها .
فصل : ويجب الإنصات من حين يأخذ الإمام في الخطبة فلا يجوز الكلام لأحد من الحاضرين ونهى عن ذلك عثمان وابن عمر وقال ابن مسعود : إذا رأيته يتكلم والإمام يخطب فأقرع رأسه بالعصا وكره ذلك عامة أهل العلم منهم مالك و أبو حنيفة و الأوزاعي وعن أحمد رواية أخرى لا يحرم الكلام وكان سعيد بن جبير و النخعي و الشعبي و إبراهيم بن مهاجر و أبو بردة يتكلمون والحجاج يخطب وقال بعضهم : إنا لم نؤمر أن ننصت لهذا ولـ الشافعي قولان كالروايتين واحتج من أجاز ذلك بما روى أنس قال : [ بينما النبي A يخطب يوم الجمعة إذ قام رجل فقال : يا رسول الله هلك الكراع وهلك الشاه فادع الله أن يسقينا - وذكر الحديث إلى أن قال - ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله A قائم يخطب فاستقبله قائما فقال : يا رسول الله هلكت الأموال وانقطع النسل فادع الله يرفعها عنا ] متفق عليه وروي [ أن رجلا قام والنبي A يخطب يوم الجمعة فقال : يا رسول الله متى الساعة ؟ فأعرض النبي A وأومأ الناس إليه بالسكوت فلم يقبل وأعاد الكلام فلما كان في الثالثة قال له النبي A : ( ويحك ماذا أعددت لها ؟ ) قال حب الله ورسوله قال : ( إنك مع من أحببت ) ] ولم ينكر عليهم النبي A كلامهم ولو حرم عليهم لأنكره عليهم .
ولنا ما روى أبو هريرة قال : إن رسول الله A قال : [ إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت ] متفق عليه وروي عن أبي ابن كعب [ أن رسول الله A قرأ يوم الجمعة تبارك فذكرنا بأيام الله وأبو الدرداء وأبو ذر يغمزني فقلت : متى أنزلت هذه السورة فإني لم أسمعها إلا الآن فأشار إليه أن اسكت فلما انصرفوا قال : سألتك متى أنزلت هذه فلم تخبرني قال أبي : ليس لك من صلاتك اليوم إلا ما لغوت فذهب إلى رسول الله A فذكره له وأخبره بما قال أبي فقال رسول الله A : ( صدق أبي ) ] رواه عبد الله بن أحمد في المسند و ابن ماجة وروى أبو بكر بن أبي شيبة بإسناده عن أبي هريرة نحوه وعن ابن عباس قال : قال رسول الله A : [ من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا ] رواه ابن أبي خيثمة وما احتجوا به فيحتمل أنه مختص بمن كلم الإمام أو كلمه الإمام لأنه لا يشغل بذلك عن سماع خطبته ولذلك سأل النبي A هل صلى فأجابه وسأل عمر عثمان حين دخل وهو يخطب فأجابه فتعين حمل أخبارهم على هذا جمعا بين الأخبار وتوفيقا بينها ولا يصح قياس غيره عليه لأن كلام الإمام لا يكون في حال الخطبة خلاف غيره وإن قدر التعارض فالأخذ بحديثنا أولى لأنه قول النبي A ونصه ذلك سكوته والنص أقوى من السكوت .
فصل : ولا فرق بين القريب والبعيد لعموم ما ذكرناه وقد روي عن عثمان Bه أنه قال : من كان قريبا يسمع وينصت ومن كان بعيدا ينصت فإن للمنصت الذي لا يسمع من الحظ ما للسامع وقد روى عبد الله بن عمرو عن النبي A قال : [ يحضر الجمعة ثلاثة نفر رجل حضرها يلغو وهو حظه منها ورجل حضرها يدعو فهو رجل دعا الله فإن شاء أعطاه وإن شاء منعه ورجل حضرها بإنصات وسكون ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحدا فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام وذلك أن الله تعالى يقول : { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } ] رواه أبو داود .
فصل : وللبعيد أن يذكر الله تعالى ويقرأ القرآن ويصلي على النبي A ولا يرفع صوته قال أحمد : لا بأس أن يصلي على النبي A فيما بينه وبين نفسه رخص له في القراءة والذكر عطاء و سعيد بن جبير و النخعي و الشافعي وليس له أن يرفع صوته ولا يذاكر في الفقه ولا يصلي ولا يجلس في حلقة وذكر ابن عقيل أن له المذاكرة في الفقه وصلاة النافلة .
ولنا عموم ما رويناه و [ أن النبي A نهى عن الحلق يوم الجمعة قبل الصلاة ] رواه أبو داود ولأنه إذا رفع صوته منع من هو أقرب منه من السماع فيكون مؤذيا له فيكون عليه إثم من آذى المسلمين وصد عن ذكر الله تعالى وإذا ذكر الله فيما بينه وبين نفسه من غير أن يسمع أحدا فلا بأس وهل ذلك أفضل أو الإنصات يحتمل وجهين أحدهما الإنصات أفضل لحديث عبد الله بن عمرو وقول عثمان والثاني الذكر أفضل لأنه يحصل له ثوابه من غير ضرر فكان أفضل كما قبل الخطبة .
فصل : ولا يحرم الكلام على الخطيب ولا على من سأله الخطيب لـ [ أن النبي A سأل سليكا الداخل وهو يخطب ( أصليت ) قال : لا ] وعن ابن عمر [ أن عمر بينا هو يخطب يوم الجمعة إذ دخل رجل من أصحاب رسول الله A فناداه عمر أية ساعة هذه قال : إني شغلت اليوم فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت النداء فلم أزد على أن توضأت قال عمر : الوضوء أيضا ؟ وقد علمت أن رسول الله A كان يأمر بالغسل ] متفق عليه ولأن تحريم الكلام علته الاشتغال به عن الإنصات الواجب وسماع الخطبة ولا يحصل ها هنا وكذلك من كلم الإمام لحاجة أو سأله عن مسألة بدليل الخبر الذي تقدم ذكره .
فصل : وإذا سمع الإنسان متكلما لم ينهه بالكلام لقول النبي A : [ إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب فقد لغوت ] ولكن يشير إليه نص عليه أحمد فيضع إصبعه على فيه وممن رأى أن يشير ولا يتكلم زيد بن صوحان و عبد الرحمن بن أبي ليلى و الثوري و الأوزاعي و ابن المنذر وكره الإشارة طاوس .
ولنا [ أن الذي قال للنبي A متى الساعة ؟ أومأ الناس إليه بحضرة رسول الله A بالسكوت ] ولأن الإشارة تجوز في الصلاة التي يبطلها الكلام ففي الخطبة أولى .
فصل : فأما الكلام الواجب كتحذير الضرير من البئر أو من يخاف عليه نارا أو حية أو حريقا ونحو ذلك فله فعله لأن هذا يجوز في نفس الصلاة مع إفسادها فها هنا أولى فأما تشميت العاطس ورد السلام ففيه روايتان قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله سئل يرد الرجل السلام يوم الجمعة ؟ فقال : نعم ويشمت العاطس ؟ فقال : نعم والإمام يخطب قال أبو عبد الله قد فعله غير واحد قال ذلك غير مرة وممن رخص في ذلك الحسن و الشعبي و النخعي و الحكم و قتادة و الثوري و إسحاق وذلك لأن هذا واجب فوجب الإتيان به في الخطبة كتحذير الضرير والرواية الثانية إن كان لا يسمع رد السلام وتشميت العاطس وإن كان يسمع لم يفعل قال أبو طالب : قال أحمد : إذا سمعت الخطبة فاستمع وأنصت ولا تقرأ ولا تشمت وإذا لم تسمع الخطبة فاقرأ وشمت ورد السلام وقال أبو داود : قلت لـ أحمد يرد السلام والإمام يخطب ويشمت العاطس ؟ قال : إذا كان ليس يسمع الخطبة فيرد وإذا كان يسمع فلا لقول الله تعالى : { فاستمعوا له وأنصتوا } وقيل لـ أحمد الرجل يسمع نغمة الإمام بالخطبة ولا يدري ما يقول يرد السلام ؟ قال : لا إذا سمع شيئا وروي نحو ذلك عن عطاء وذلك لأن الإنصات واجب فلم يجز الكلام المانع منه من غير ضرورة كالأمر بالإنصات بخلاف من لم يسمع وقال القاضي : لا يرد ولا يشمت وروي نحو ذلك عن ابن عمر وهو قول مالك و الأوزاعي وأصحاب الرأي واختلف قول الشافعي فيحتمل أن يكون هذا القول مختصا بمن يسمع دون لم يسمع فيكون مثل الرواية الثانية ويحتمل أن يكون عاما في كل حاضر يسمع أو لم يسمع لأن وجوب الإنصات شامل لهم فيكون المنع من رد السلام وتشميت العاطس ثابتا في حقهم كالسامعين .
فصل : لا يكره الكلام قبل شروعه في الخطبة وبعد فراغه منها وبهذا قال عطاء و طاوس و الزهري و أبو بكر المزني و النخعي و مالك و الشافعي و إسحاق و يعقوب و محمد وروي ذلك عن ابن عمر وكرهه الحكم وقال أبو حنيفة : إذا خرج الإمام حرم الكلام قال ابن عبد البر : إن عمر وابن عباس كانا يكرهان الكلام والصلاة بعد خروج الإمام ولا مخالف لهما في الصحابة .
ولنا أن النبي A قال : [ إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب أنصت فقد لغوت ] فخصه بوقت الخطبة وقال ثعلبة بن أبي مالك : إنهم كانوا في زمن عمر إذا خرج عمر وجلس على المنبر وأذن المؤذنون جلسوا يتحدثون حتى إذا سكت المؤذنون وقام عمر سكتوا فلم يتكلم أحد وهذا يدل على شهرة الأمر بينهم ولأن الكلام إنما حرم لأجل الإنصات للخطبة فلا وجه لتحريمه مع عدمها وقولهم لا مخالف لهما في الصحابة قد ذكرنا عن عمومهم خلاف هذا القول .
فصل : فأما الكلام في الجلسة بين الخطبتين فيحتمل أن يكون جائزا لأن الإمام غير خاطب ولا متكلم فأشبه ما قبلها وبعدها وهذا قول الحسن ويحتمل أن يمنع منه وهو قول مالك و الشافعي و الأوزاعي و إسحاق لأنه سكوت يسير في أثناء الخطبتين أشبه السكوت للتنفس .
فصل : إذا بلغ الخطيب إلى الدعاء فهل يسوغ الكلام فيه وجهان أحدهما الجواز لأنه فرغ من الخطبة وشرع في غيرها فأشبه ما لو نزل ويحتمل أن لا يجوز لأنه تابع للخطبة فيثبت له ما ثبت لها كالتطويل في الموعظة ويحتمل أنه إن كان مشروعا كالدعاء للمؤمنين والمؤمنات وللإمام العادل أنصت له وإن كان لغيره لم يلزم الإنصات لأنه لا حرمة له .
فصل : ويكره العبث والإمام يخطب لقول النبي A : [ ومن مس الحصا فقد لغا ] رواه مسلم قال الترمذي : هذا حديث صحيح واللغو الإثم قال الله تعالى : { والذين هم عن اللغو معرضون } ولأن العبث يمنع الخشوع والفهم ويكره أن يشرب والإمام يخطب إن كان ممن يسمع وبه قال مالك و الأوزاعي ورخص فيه مجاهد و طاوس و الشافعي لأنه لا يشغل عن السماع .
ولنا أنه فعل يشتغل به أشبه مس الحصى فأما إن كان لا يسمع فلا يكره نص عليه لأنه لا يستمع فلا يشتغل به .
فصل : قال أحمد : لا يتصدق على السؤال والإمام يخطب وذلك لأنهم فعلوا ما لا يجوز فلا يعنيهم عليه قال أحمد : وإن حصبه كان أعجب إلي لأن ابن عمر رأى سائلا يسأل والإمام يخطب يوم الجمعة فحصبه وقيل لـ أحمد : فإن تصدق عليه إنسان فناوله والإمام يخطب ؟ قال : لا يأخذ منه قيل : فإن سأل قبل خطبة الإمام ثم جلس فأعطاني رجل صدقة أناولها إياه ؟ قال : نعم هذا لم يسأل والإمام يخطب .
فصل : ولا بأس بالاحتباء والإمام يخطب روي ذلك عن ابن عمر وجماعة من أصحاب رسول الله A وإليه ذهب سعيد بن المسيب و الحسن و ابن سيرين و عطاء و شريح و عكرمة بن خالد و سالم و نافع و مالك و الثوري و الأوزاعي و الشافعي وأصحاب الرأي قال أبو داود : لم يبلغني أن أحدا كرهه إلا عبادة بن نسي لأن سهل بن معاذ روى [ أن النبي A نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب ] رواه أبو داود .
ولنا ما روى يعلي بن شداد بن أوس قال : شهدت مع معاوية بيت المقدس فجمع بنا فنظرت فإذا جل من في المسجد أصحاب رسول الله A فرأيتهم محتبين والإمام يخطب وفعله ابن عمر وأنس ولم نعرف لهم مخالفا فكان إجماعا والحديث في إسناده مقال قاله ابن المنذر والأولى تركه لأجل الخبر وإن كان ضعيفا ولأنه يكون متهيئا للنوم والوقوع وانتقاض الوضوء فيكون تركه أولى والله أعلم ويحمل النهي في الحديث على الكراهة ويحمل أحوال الصحابة الذين فعلوا ذلك على أنهم لم يبلغهم الخبر