في جواز بيع المكاتب وهبته والوصية به ويحكم مشتريه وبيع الدين الذي على المكاتب وحكم ما لو وصى بماله لرجل وحكم ما لو كانت الكتابة فاسدة وصحة الكتابة لمكاتب .
مسألة : قال : ويجوز بيع المكاتب .
وهذا قول عطاء و النخعي و الليث و ابن المنذر وهو قديم قولي الشافعي قال : ولا وجه لقول من كاتب قال لا يجوز وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى أنه يجوز بيعه وهو قول مالك وأصحاب الرأي والجديد من قولي الشافعي لأنه عقد يمنع استحقاق كسبه فيمنع بيعه كبيعه وعتقه وقال الزهري وأبو الزناد يجوز بيعه برضاه ولا يجوز إذا لم يرض وحكى ذلك عن أبي يوسف لأن بريرة إنما بيعت برضاها وطلبها ولأن لسيده استيفاء منافعه برضاه ولا يجوز بغير رضاه كذلك بيعه .
ولنا ما روى عروة عن عائشة أنها قالت : جاءت بريرة إلي فقالت يا عائشة إني كاتبت أهلي علة تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني ولم تكن قضت من كتابتها شيئا فقالت لها عائشة ونفست فيها ارجعي إلى أهلك إن أحبوا أن أعطيهم ذلك جميعا فعلت فذهبت بريرة إلى أهلها فعرضت عليهم ذلك فأبوا وقالوا : إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون ولاؤك لنا فذكرت ذلك عائشة لرسول الله A فقال [ لا يمنعك ذلك منها ابتاعي وأعتقي إنما الولاء لمن أعتق ] فقام رسول الله في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : [ ما بال ناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرطه أوثق وإنما الولاء لمن أعتق ] متفق عليه .
قال ابن المنذر [ بيعت بريرة بعلم النبي A وهي مكاتبة ولم ينكر ذلك ] ففي ذلك أبين البيان أن بيعه جائز ولا أعلم خبرا يعارضه ولا أعلم في شيء من الأخبار دليلا على عجزها وتأوله الشافعي على أنها كانت قد عجزت وكان بيعها فسخا لكتابتها وهذا التأويل بعيد يحتاج إلى دليل في غاية القوة وليس في الخبر ما يدل عليه بل قولها أعينيني على كتابتي دلالة على بقائها على الكتابة ولأنها أخبرتها أن نجومها في كل عام أوقية فالعجز إنما يكون بمضي عامين عند من لا يرى العجز إلا بحلول نجمين أو بمضي عام عند الآخرين والظاهر أن شراء عائشة لها كان في أول كتابتها ولا يصح قياسه على أم الولد لأن سبب حريتها مستقر على وجه لا يمكن فسخه بحال فأشبه الوقف والمكاتب يجوز رده إلى الرق وفسخ كتابته إذا عجز فافترقا .
قال ابن أبي موسى : وهل للسيد أن يبيع المكاتب بأكثر مما عليه ؟ على الروايتين ولأن المكاتب عبد مملوك لسيده لم يتحتم عتقه فجاز بيعه كالمعلق عتقه بصفة والدليل على أنه مملوك قول النبي A [ المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ] وإن مولاته لا يلزمها أن تحتجب منه بدليل قول النبي A [ إذا كان لإحداكن مكاتب فملك ما يؤدي فلتحتجب منه ] فيدل على أنها لا تحتجب قبل ذلك .
وقد روينا في هذا عن نبهان مولى أم سلمة أنه قال : قالت لي أم سلمة : يا نبهان هل عندك ما تؤدي ؟ قلت نعم فأخرجت الحجاب بيني وبينها وروت هذا الحديث قال فقلت لا والله عندي ما أؤدي ولا أنا بمؤد وإنما سقط الحجاب عنها منه لكونه مملوكها ولأنه يصح عتقه ولا يصح عتق من ليس بمملوك ويرجع عند العجز إلى كونه قنا ولو صار حرا ما عاد إلى الرق ويفارق إعتاقه لأنه يزيل الرق بالكلية وليس بعقد وإنما هو إسقاط للملك فيه وإما بيعه فلا يمنع مالكه بيعه وأما البائع فلم يبق له فيه ملك بخلاف مسألتنا .
فصل : وتجوز هبته والوصية به ونقل الملك فيه لأنه في معنى بيعه وقد روي عن أحمد أنه منع هبته لأن الشرع إنما ورد ببيعه والصحيح جوازها لأن ما كان في معنى المنصوص عليه ثبت الحكم فيه .
مسألة : قال : ومشتريه يقوم فيه مقام المكاتب فإذا أدى صار حرا وولاؤه لمشتريه فإن لم يبين البائع للمشتري أنه مكاتب فهو مخير بين أن يرجع في الثمن أو يأخذ ما بينه سليما ومكاتبا .
وجملة ذلك أن الكتابة لا تنفسخ بالبيع ولا يجوز إبطالها ولا نعلم في هذا خلافا قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن بيع السيد مكاتبه على أن يبطل كتابته ببيعه إذا كان ماضيا فيها مؤديا ما يجب عليه من نجومه في أوقاتها غير جائز وذلك لأنها عقد لازم فلا تبطل ببيع العبد كإجازته ونكاحه ويبقى على كتابته عند المشتري وعلى نجومه كما لو كان عند البائع مبقي على ما بقي عليه من كتابته ويؤدي إلى المشتري كما كان يؤدي إلى البائع فإن عجز فهو عبد لمشتريه لأنه صار سيده وإن أدى عتق وولاؤه لمشتريه لأن حق المكاتب فيه انتقل إلى المشتري فصار المشتري هو المعتق ولهذا قال النبي A لعائشة [ ابتاعي وأعتقي فإنما الولاء لمن أعتق ] ولما أراد أهلها اشتراط ولائها أنكر ذلك وأخبر ببطلانه وإذا لم يعلم المشتري كونه مكاتبا ثم علم ذلك فله فسخ البيع أو أخذ الأرش لأن الكتابة عيب لكون المشتري لا يقدر على التصرف فيه ولا يستحق كسبه ولا استخدامه ولا الوطء إن كانت أمة وقد انعقد سبب زوال الملك فيه فيملك الفسخ بذلك كمشتري الأمة المزوجة أو المعيبة فيتخير حينئذ بين فسخ البيع والرجوع بالثمن وبين إمساكه وأخذ الأرش وهو قسط ما بينه مكاتبا وبينه رقيقا قنا فيقال : كم قيمته مكاتبا وكم قيمته لو كان غير مكاتب ؟ فإذا قيل قيمته مكاتبا مائة وقيمته غير مكاتب مائة وخمسون والثمن مائة وعشرون فقد نقصته الكتابة ثلث قيمته فيرجع بثلث ثمنه وهو أربعون ولا يرجع بالخمسين التي نقصت بالكتابة من قيمته على ما قرر في البيع .
فصل : فأما بيع الدين الذي على المكاتب من نجومه فلا يصح وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي و أبو ثور وقال عطاء و عمرو بن دينار و مالك : يصح لأن السيد يملكها في ذمة المكاتب فجاز بيعها كسائر أمواله .
ولنا أنه دين غير مستقر فلم يجز بيعه كدين السلم ودليل عدم الاستقرار أنه معرض للسقوط بعجز المكاتب ولأنه لا يملك السيد إجبار العبد على أدائه ولا إلزامه بتحصيله فلم يجز بيعه كالعدة بالتبرع ولأنه غير مقبوض وقد نهى النبي A عن بيع ما لم يقبض فإن باعه فالبيع باطل وليس للمشتري مطالبة المكاتب بتسليمه إليه وله الرجوع بالثمن على البائع إن كان دفعه إليه فإن سلم المكاتب إلى المشتري نجومه ففيه وجهان : أحدهما : يعتق لأن البيع تضمن الإذن في القبض فأشبه قبض الوكيل والثاني : لا يعتق لأنه لم يستنبه في القبض وإنما قبض لنفسه بحكم البيع الفاسد فكان القبض أيضا فاسدا ولم يعتق بخلاف وكيله فإنه استنابه ولو صرح بالإذن فليس بمستنيب له في القبض وإنما أذنه بحكم المعاوضة فلا فرق بين التصريح وعدمه فإن قلنا يعتق بالأداء برئ المكاتب من مال الكتابة ويرجع السيد على المشتري بما قبضه لأنه كالنائب عنه فإن كان من جنس الثمن وكان قد تلف تقاصا بقدر أقلهما ورجع ذو الفضل بفضله وإن قلنا لا يعتق بذلك فمال الكتابة باق على المكاتب ويرجع المكاتب على المشتري بما دفعه إليه ويرجع المشتري على البائع فإن سلمه المشتري إلى البائع لم يصح التسليم لأنه قبضه بغير إذن المكاتب فأشبه ما لو أخذه من ماله بغير إذنه فإن كان من غير جنس مال الكتابة تراجعا بما لكل واحد منهما على الآخر وإن باعه ما أخذه بما له في ذمته وكان مما يجوز البيع فيه جاز إذا كان ما قبضه السيد باقيا وإن كان قد تلف ووجبت قيمته وكانت من جنس مال الكتابة تقاصا وإن كان مقبوض من جنس مال الكتابة فتحاسبا به جاز .
فصل : وإذا كانت المكاتبة ذات ولد يتبعها في الكتابة فباعهما معا صح لأنهما ملكه ولا مانع من بيعهما ويكونان عند المشتري كما كانا عند البائع سواء وإن باع أحدهما دون صاحبه أو باع أحدهما لرجل وباع الآخر لغيره لم يصح لوجهين : .
أحدهما أنه لا يجوز التفريق بين الأم وولدها في البيع إلا بعد البلوغ في إحدى الروايتين والثاني : أن الولد تابع لأمه ولها كسبه وعليها نفقته فصار في معنى مملوكها فلم يجز التفريق بينه وبينها ويحتمل أن يجوز ذلك إذا كان بالغا لأنه محل للبيع صدر فيه التصرف من أهله ويكون عند من هو عنده على ما كان عليه قبل بيعه لها كسبه وأرش الجناية عليه وعليها نفقته ويعتق بعتقها كما لو بيع والله أعلم .
فصل : وإن وصى بالمكاتب لرجل فقال أبو بكر : قال أحمد : الوصية به جائزة لأنه يرى بيعه وكذلك هبته ويقوم من انتقل إليه مقام مكاتبه في الأداء إليه وإن عجز عاد إليه رقيقا له قنا وإن عتق فالولاء له كما ذكرنا في المشتري سواء فإن عجز في حياة الموصي لم تبطل الوصية لأن رقه لا ينافي الوصية وإن أدى وعتق في حياة الموصي بطلت الوصية ومن منع بيع المكاتب منع الوصية فيه وهبته فإن قال إن عجز ورق فهو لك بعد موتي صحت الوصية إذا عجز في حياة الموصي وإن عجز بعد موته لم يستحقه لأن الشرط بطل بموته كما لو قال لعبده إن دخلت الدار فأنت حر بعد موتي فلم يدخلها حتى مات سيده وإن قال إن عجزت بعد موتي فهو لك فهذا تعليق للوصية على صفة توجد بعد الموت وقد ذكرنا في صحتها وجهين .
فصل : وإن وصى بكتابته لرجل صحت الوصية لأنها تصح بما ليس بمستقر كما تصح بما لا يملكه في الحال من ثمرة شجرة وحمل جاريته وللموصي له أن يستوفي المال عند حلوله وله أن يبرئ منه فإذا استوفى أو أبرأه منه عتق المكاتب والولاء لسيده لأنه المنعم عليه وإن عجز المكاتب فأراد الوارث تعجيزه وأراد الموصي له إنظاره فالقول قول الوارث لأن حق الموصي له في المال ما دام العقد قائما وحق الوارث متعلق به إذا عجزه يرده في الرق وليس للموصي له إبطال حق الوارث من تعجيزه وإن أراد الوارث إنظاره وأراد الموصي له تعجيزه لم يكن له الحق في التعجيز والفسخ للوارث ولا حق للموصي له في ذلك ولا بيع لأن حقه يسقط به ومتى عجز عاد عبدا للورثة وإن وصى لرجل بما تعجله المكاتب صح لأنها وصية بصفة فإن عجل شيئا فهو للموصى له وإن لم يعجل شيئا حتى حلت نجومه بطلت الوصية .
فصل : وإن وصى بمال الكتابة لرجل وبرقبته لآخر صحت الوصيتان فإن أدى إلى صاحب المال أو أبرأه منه عتق قال أصحابنا : وتبطل وصية صاحب الرقبة ويحتمل أن لا تبطل ويكون الولاء له لأنه أقامه مقام نفسه في استحقاق الرقبة ولو لم يوصي بها لكان الولاء له فإذا وصى بها كان الولاء لمن وصى له بها ولأنه لو وصى له بالمكاتب مطلقا لكان الولاء له فكذلك إذا وصى برقبته لأن الولاء يستفاد من الوصية بالرقبة دون الوصية بالمال وإن عجز فسخ صاحب الرقبة كتابته وكان رقيقا له وبطلت الوصية بالمال وإن كان صاحب المال قد قبض من كتابته شيئا فهو له وإن اختلفا في فسخ الكتابة عند العجز قدم قول صاحب الرقبة لأنه يقوم مقام الورثة على ما بيناه فيما تقدم وقياس هذه المسألة أنه لو وصى لرجل برقبة المكاتب دون مال الكتابة أنه لا يصح لأن الوصية بالرقبة دون المال صحيحة فيما إذا وصى بها لرجل وحده وأوصي بالمال لآخر .
فصل : وإذا كانت الكتابة فاسدة فأوصى لرجل بما في ذمة المكاتب لم تصح الوصية لأنه لا شيء في ذمته وإن قال وصيت لك بما أقبضه من مال المكاتبة صح لأن الكتابة الفاسدة يؤدى فيها المال كما يؤدى في الصحيحة وإن وصى برقبة المكاتب صح لأن الوصية برقبة المكاتب تصح في الكتابة الصحيحة ففي الفاسدة أولى .
فصل : وتصح الوصية لمكاتبه لأنه مع سيده في المعاملة كالأجنبي ولذلك جاز أن يدفع إليه زكاته فإن قال ضعوا عن مكاتبي بعض كتابته أو بعض ما عليه وضعوا ما شاؤوا قليلا كان أو كثيرا من أول نجومه أومن آخرها وإن قال ضعوا عنه نجما من نجومه فلهم أن يضعوا أي نجم شاؤوا كما لو قال ضعوا أي نجم شئتم وسواء كانت نجومه متفقة أو مختلفة لأن اللفظ يتناول واحدا منها غير معين وإن قال : ضعوا عنه أي نجم شاء كان ذلك إلى مشيئته فيلزمهم وضع النجم الذي يختار وضعه لأن سيده جعل المشيئة له وإن قال : ضعوا عنه أكبر نجومه لزمهم أن يضعوا أكبرها مالا لأنه أكبرها قدرا وإن قال : ضعوا عنه أكثر نجومه لزمهم أن يضعوا عنه أكثر من نصفها لأن أكثر الشيء يزيد على نصفه فإذا كانت نجومه خمسة وضعوا ثلاثة وإن كانت ستة وضعوا أربعة ويحتمل أن ينصرف ذلك إلى واحد منها أكبرها مالا بمنزلة قوله أكبر نجومه فإن كانت نجومه متساوية تعين الاحتمال الأول وإن قال : ضعوا عنه أوسط نجومه فلم يكن فيها إلا وسط واحد تعينت الوصية فيه مثل أن تكون نجومه متساوية القدر والأجل وعددها منفرد فيتعين وضع أوسطها عددا فإذا كانت خمسة فالأوسط الثالث وإن كانت سبعة فالأوسط الرابع وإن كان عددها مزدوجا وهي مختلفة المقدار فبعضها مائة وبعضها مائتان وبعضها ثلاثمائة فأوسطها المائتان فتعين الوصية فيه لأنه أوسطها وإن كانت متساوية القدر مختلفة الأجل مثل أن يكون اثنان منها إلى شهر وواحد إلى شهرين وواحد إلى ثلاثة اشهر تعينت الوصية فيما هو إلى شهرين لأنها أوسطها .
وإن اتفقت هذه المعاني الثلاثة في واحد تعينت فيه وإن كان لها أوسط في القدر وأوسط في الأجل وأوسط في العدد يخالف بعضها بعضا فذلك إلى اختيار الورثة فلهم وضع ما شاؤوا منها وإن اختلف الورثة والمكاتب فيما أراد الموصي منه القول فالقول قول الورثة مع أيمانهم أنهم لا يعلمون ما أراد الموصي ثم التعيين إليهم ومتى كان فيها أوسطان عين الورثة أحدهما ومتى كان العدد وترا فأوسطه واحد فإن كان شفعا كأربعة وستة فأوسطه اثنان وهكذا القول فيما إذا وصى بأوسط نجومه وإن قال : ضعوا عنه ما خف أو قال ما يثقل أو ما يكثر كان ذلك إلى تقدير الورثة لأن كل شيء يخف إلى جنب ما هو أخف منه كما قال أصحابنا فيما إذا وصى بمال عظيم أو كثير أو ثقيل أو خفيف وإن قال : ضعوا عنه أكثر ما عليه وضع عنه نصفه وأدنى زيادة وإن قال ضعوا عنه أكثر ما عليه ومثل نصفه فذلك ثلاثة أرباع وأدنى زيادة وإن قال : ضعوا عنه أكثر ما عليه ومثله فذلك الكتابة كلها وزيادة عليها فيصح في الكتابة ويبطل في الزيادة لعدم محلها وإن قال : ضعوا عنه ما شاء فشاء وضع كل ماعليه وضع ماعليه لأن وصيته تتناوله وإن قال ضعوا عنه ماشاء من مال الكتابة لم يكن له وضع الكل لأن من للتبعيض فلا تتناول الجميع ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله كنحو ما ذكرناه