فصل : الطاهر والنجس من أنواع الحيوان وأجزائه وسؤره وعرقه .
مسألة : قال : و لا يتوضأ بسؤر كل بهيمة لا يؤكل لحمها إلا السنور وما دونها في الخلقة .
السؤر فضلة الشرب - والحيوان قسمان نجس وطاهر فالنجس نوعان أحدهما ما هو نجس رواية واحدة وهو الكلب والخنزير وهو مذهب الشافعي و أبي عبيد وهو قول أبي حنيفة في السؤر خاصة وقال مالك و الأوزاعي و داود : سؤرهما طاهر يتوضأ به ويشرب وإن ولغا في طعام لم يحرم أكله وقال الزهري : يتوضأ به اذا لم يجد غيره وقال عبدة بن أبي لبابة و الثوري و ابن الماجشون و ابن مسلمة يتوضأ ويتيمم قال مالك : ويغسل الاناء الذي ولغ فيه الكلب تعبدا واحتج بعضهم على طهارته بأن الله تعالى قال : { فكلوا مما أمسكن عليكم } ولم يأمر بغسل ما أصابه فمه وروى ابن ماجة بإسناده عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله A [ سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها السباع والكلاب والحمر وعن الطهارة بها فقال : لها ما حملت في بطونها ولنا ما غبر طهور ] ولأنه حيوان فكان طاهرا كالمأكول .
ولنا : ما روى أبو هريرة Bه ان النبي A [ قال : اذا ولغ الكلب في إناء احدكم فليغسله سبعا ] متفق عليه ولـ مسلم [ فليرقه ثم ليغسله سبع مرات ] ولو كان سؤره طاهرا لم تجز إراقته ولا وجب غسله فان قيل انما وجب غسله تعبدا كما تغسل أعضاء الوضوء وتغسل اليد من نوم الليل قلنا الاصل وجوب الغسل من النجاسة بدليل سائر الغسل ثم لو كان تعبدا لما أمر باراقة الماء ولما اختص الغسل بموضع الولوغ لعموم اللفظ في الاناء كله وأما غسل اليد من النوم فإنما أمر به للأحتفاظ لاحتمال أن تكون يده قد أصابتها نجاسة فيتنجس الماء ثم تنجس أعضاؤه به وغسل اعضاء الوضوء شرع للوضاءة والنظافة ليكون العبد في حال قيامه بين يدي الله تعالى على أحسن حال وأكملها .
ثم أن سلمنا ذلك فانما عهدنا التعبد في غسل اليدين أما الآنية والثياب فإنما يجب غسلها من النجاسات وقد روي في لفظ [ طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبعا ] أخرجه أبو داود ولا يكون الطهور إلا في محل الطهارة وقولهم أن الله تعالى أمر بأكل ما أمسكه الكلب قبل غسله قلنا الله تعالى : أمر بأكله والنبي A أمر بغسله فيعمل بأمرهما وإن سلمنا أنه لا يجب غسله فلأنه يشق فعفي عنه وحديثهم قضية في عين يحتمل أن الماء المسؤول عنه كان كثيرا ولذلك قال في موضع آخر حين سئل عن الماء وما ينوبه من السباع [ اذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث ] ولأن الماء لا ينجس إلا بالتغير على رواية لنا وشربها من الماء لا يغيره فلم ينجسه ذلك .
النوع الثاني : ما اختلف فيه وهو سائر البهائم إلا السنور وما دونها في الخلقة وكذلك جوارح الطير والحمار الأهلي والبغل فعن أحمد أن سؤرها نجس إذا لم يجد غيره تيمم وتركه روي عن ابن عمر أنه كره سؤر الحمار وهو قول الحسن و ابن سيرين و الشعبي و الاوزاعي و حماد و إسحاق وعن أحمد أنه قال في البغل والحمار أذا لم يجد غير سؤرهما تيمم معه وهو قول أبي حنيفة و الثوري وهذه الرواية تدل على طهارة سؤرهما لأنه لو كان نجسا لم تجز الطهارة به وروي عن إسماعيل بن سعيد لا بأس بسؤر السباع لا عمر قال في السباع : ترد علينا ونرد عليها - ورخص في سؤر جميع ذلك الحسن و عطاء و الزهري و يحيى الأنصاري و بكير بن الأشج و ربيعة و أبو الزناد و مالك و الشافعي و ابن المنذر لحديث أبي سعيد في الحياض وقد روي عن جابر أيضا في حديث آخر عن جابر [ أن النبي A سئل أنتوضأ بما أفضلت الحمر ؟ قال : نعم وبما أفضلت السباع كلها ] رواه الشافعي في مسنده وهذا نص ولأنه حيوان يجوز الانتفاع به من غير ضرورة فكان طاهرا كالشاة .
ووجه الرواية الأولى أن النبي A [ سئل عن الماء وما ينوبه من السباع فقال : إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس ] ولو كانت طاهرة لم يحده بالقلتين وقال [ النبي A في الحمر يوم خيبر إنها رجس ] ولأنه حيوان حرم أكله لا لحرمة يمكن التحرز منه غالبا أشبه الكلب ولأن السباع والجوارح الغالب عليها أكل الميتات والنجاسات فتنجس أفواهها ولا يتحقق وجود مطهرها فينبغي أن يقضي بنجاستها كالكلاب وحديث أبي سعيد قد أجبنا عنه ويتعين حمله على الماء الكثير عند من يرى نجاسة سؤر الكلب والحديث الآخر يرويه ابن أبي حبيبة وهو منكر الحديث قاله البخاري و إبراهيم و يحيى وهو كذاب - والصحيح عندي طهارة البغل والحمار لأن النبي A كان يركبها وتركب في زمنه وفي عصر الصحابة فلو كان نجسا لبين النبي A ذلك ولأنهما لا يمكن التحرز منهما لمقتنيهما فاشبه السنور وقول النبي A : [ إنها رجس ] أراد إنها محرمة كقوله تعالى في الخمر والميسر والانصاب والازلام إنها رجس ويحتمل أنه أراد لحمها الذي كان في قدورهم فإنه رجس فإن ذبح ما لا يحل أكله لا يطهر .
القسم الثاني : طاهر في نفسه وسؤره وعرقه وهو ثلاثة اضراب الأول الآدمي فهو طاهر وسؤره طاهر سواء كان مسلما أو كافرا عند أهل العلم إلا إنه حكي عن النخعي إنه كره سؤر الحائض وعن جابر بن زيد لا يتوضأ منه وقد ثبت أن رسول الله A قال : [ المؤمن ليس بنجس ] وعن عائشة انها كانت تشرب من الإناء وهي حائض فيأخذه رسول الله A فيضع فاه على موضع فيها فيشرب وتتعرق العرق فيأخذه فيضع فاه على موضع فيها وراه مسلم وكانت تغسل رأس رسول الله A وهي حائض متفق عليه وقال لعائشة : [ ناوليني الخمرة من المسجد قالت : إني حائض قال : إن حيضك ليست في يدك ] .
الضرب الثاني : من أكل لحمه فقا ل أبو بكر بن المنذر أجمع أهل العلم على أن سؤر ما أكل لحمه يجوز شربه والوضوء به فان كان جلالا يأكل النجاسات فذكر القاضي روايتين إحداهما أنه نجس والثانية طاهر فيكون هذا من النوع الثاني من القسم الأول المختلف فيه .
الضرب : السنور وما دونها في الخلقة كالفأرة وابن عرس فهذا ونحوه من حشرات الأرض سؤره طاهر يجوز شربه والوضوء به ولا يكره وهذا قول أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين من أهل المدينة والشام وأهل الكوفة وأصحاب الرأي إلا أبا حنيفة فإنه كره الوضوء بسؤر الهر فإن فعل أجزأه وقد روي عن ابن عمر أنه كرهه وكذلك يحيى الأنصاري و ابن أبي ليلى : وقال أبو هريرة : يغسل مرة أو مرتين وبه قال ابن المنذر وقال الحسن و ابن سيرين : يغسل مرة وقال طاوس : يغسل سبعا كالكلب وقد روى أبو داود باسناده عن أبي هريرة Bه عن النبي A فذكر الحديث وقال : [ إذا ولغت فيه الهرة غسل مرة ] ولنا ما روي عن كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت أبي قتادة أن إبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءا قالت : فجاءت هرة فأصغى لها الإناء حتى شربت قالت كبشة : فرآني أنظر إليه فقال : أتعجبين يا ابنة أخي ؟ فقلت : نعم فقال : إن رسول الله A قال : [ إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات ] أخرجه أبو داود و النسائي و الترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح وهذا أحسن شيء في الباب وقد دل بلفظه على نفي الكراهة عن سؤر الهر وبتعليله على نفي الكراهة عما دونها مما يطوف علينا ورى ابن ماجة عن عائشة قالت : كنت أتوضأ أنا ورسول الله A من إناء قد أصابت منه الهرة قبل ذلك [ وعن عائشة أنها قالت : إن رسول الله A قال : إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم ] وقد رأيت رسول الله A يتوضأ بفضلها وراه أبو داود .
فصل : إذا أكلت الهرة نجاسة ثم شربت من ماء يسير بعد أن غابت فالماء طاهر لأن النبي A نفى عنها النجاسة وتوضأ بفضلها مع علمه بأكلها النجاسات وإن شربت قبل أن تغيب فقال القاضي و ابن عقيل : ينجس لأنه وردت عليه نجاسة متيقنة أشبه ما لو أصابه بول وقال أبو الحسن الآمدي ظاهر مذهب أصحابنا أنه طاهر وإن لم تغب لأن النبي A عفى عنها مطلقا وعلل بعدم امكان الاحتراز عنها ولأننا حكمنا بطهارة سؤرها مع الغيبة في مكان لا يحتمل ورودها على ماء كثير يطهر فاها ولو احتمل ذلك فهو شك لا يزيل يقين النجاسة فوجب إخالة الطهارة على العفو عنها وهو شامل لما قبل الغيبة