حكم ما لو ادعى دابة في يد رجل فأنكر وأقام كل واحد بينة وحكم ما لو كان في يد رجل شاه فادعاها آخر .
مسألة : قال : ومن ادعى دابة في يد رجل فأنكر وأقام كل واحد منهما بينة حكم للمدعي ببينته ولم يلتفت إلى بينه المدعى عليه لأن النبي A أمرنا بسماع بينة المدعي ويمين المدعى عليه وسواء شهدت بينة المدعى عليه أنها له أو قالت ولدت في ملكه عليه .
وجملة ذلك أن من ادعى شيئا في يد غيره فأنكره ولكل واحد منهما بينة فإن بينة المدعي تسمى بينة الخارج وبينة المدعى عليه تسمى بينة الداخل وقد اختلفت الرواية عن أحمد فيما إذا تعارضنا فالمشهور عنه تقديم بينة المدعي ولا تسمع بينة المدعى عليه بحال وهذا قول إسحاق وعنه رواية ثانية إن شهدت بينة الداخل بسبب الملك وقالت : نتجت في ملكه أو اشتراها أو نسجها أو كانت بينته أقدم تاريخا قدمت وإلا قدمت بينة المدعي وهو قول أبي حنيفة و أبي ثور في النتاج والنساج فيما لا يتكرر نسجه فأما ما يتكرر نسجه كالصوف والخز فلا تسمع بينته لأنها إذا شهدت بالسبب فقد أفادت ما لا تفيده اليد وقد روى جابر بن عبد الله أن النبي A [ اختصم إليه رجلان في دابة أو بعير فأقام كل واحد منهم البينة بأنها له أنتجها فقضى بها رسول الله A للذي هي في يده ] وذكر أبو الخطاب رواية ثالثة أن بينة المدعى عليه تقدم بكل حال وهو قول شريح و الشعبي و النخعي و الحكم و الشافعي و أبي عبيد وقال : هو قول أهل المدينة وأهل الشام وروي عن طاوس وأنكر القاضي كون هذا رواية عن أحمد وقال : لا تقبل بينة الداخل إذا لم تفد إلا ما أفادته يده رواية واحدة واحتج من ذهب إلى هذا القول بأن جنبة المدعى عليه أقوى لأن الأصل معه ويمينه تقدم على يمين المدعي فإذا تعارضت البينتان وجب إبقاء يده على ما فيها وتقديمه كما لو لم تكن بينة لواحد منهما وحديث جابر يدل على هذا فإنه إنما قدمت بينته ليده .
ولنا قول النبي A [ البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ] فجعل جنس البينة في جنبة المدعي فلا يبقى في جنبة المدعى عليه بينة ولأن بينة المدعي أكثر فائدة فوجب تقديمها كتقديم بينة الجرح على التعديل ودليل كثرة فائدتها أنها تثبت شيئا لم يكن وبينة المنكر إنما تثبت ظاهرا تدل اليد عليه فلم تكن مفيدة ولأن الشهادة بالملك يجوز أن يكون مستندها رؤية اليد والتصرف فإن ذلك جائز عند كثير من أهل العلم فصارت البينة بمنزلة اليد المفردة فتقدم عليها بينة المدعي كما تقدم على اليد كما أن شاهدي الفرع لما كانا مبينين على شاهدي الأصل لم تكن لهما مزية عليهما .
فصل : وأي البينتين قدمناها لم يحلف صاحبها معها وقال الشافعي في أحد قوليه يستحلف صاحب اليد لأن البينتين سقطتا بتعارضهما فصارا كمن لا بينة لهما فيحلف الداخل كم لو لم تكن لواحد منهما بينة .
ولنا أن إحدى البينتين راجحة فيجب الحكم بها منفردة كما لو تعارض خبران خاص وعام أو أحدهما أرجح بوجه من الوجوه ولا نسلم أن البينة الراجحة تسقط وإنما ترجح ويعمل بها وتسقط المرجوحة .
فصل : فإن كانت البينة لأحدهما دون الآخر نظرت فإن كانت البينة للمدعي وحده حكم بها ولم يحلف بغير خلاف في المذهب وهو قول أهل الفتيا من أهل الأمصار منهم الزهري و أبو حنيفة و مالك و الشافعي وقال شريح و عون بن عبد الله و النخعي و الشعبي و ابن أبي ليلى يستحلف الرجل مع بينته قال شريح لرجل : لو أثبت عندي كذا وكذا شاهدا ما قضيت لك حتى تحلف .
ولنا [ قول النبي A للحضرمي بينتك أو يمينه ليس لك إلا ذلك ] وقول النبي A [ البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ] ولأن البينة إحدى حجتي الدعوى فيكتفي بها كاليمين قال أصحابنا : و لا فرق بين الحاضر والغائب والحي والميت والصغير والكبير والمجنون والمكلف .
وقال الشافعي : إذا كان المشهود عليه لا يعبر عن نفسه أحلف المشهود له لأنه لا يمكنه أن يعبر عن نفسه في دعوى القضاء والإبراء فيقوم الحاكم مقامه في ذلك لنزول الشبهة وهذا حسن فإن قيام البينة للمدعي بثبوت حقه لا ينفي احتمال القضاء والإبراء بدليل أن المدعى عليه لو ادعاه سمعت دعواه وبينته فإن كان حاضرا مكلفا فسكوته عن دعوى ذلك دليل على انتفائه فيكتفي بالبينة وإن كان غائبا أو ممن لا قول له نفي احتمال ذلك من غير دليل يدل على انتفائه فتشرع اليمين لنفيه وإن لم تكن للمدعي بينة وكانت للمنكر بينة سمعت بينته ولم يحتج إلى الحلف معها لأنا إن قلنا بتقديمها مع التعارض وإنه لا يحلف معها فمع انفرادها أولى وإن قلنا بتقديم بينة المدعى عليه فيجب أن يكتفي بها عن اليمين لأنها أقوى من اليمين فإذا اكتفي باليمين فما هو أقوى منه أولى ويحتمل أن تشرع اليمين أيضا لأن البينة ههنا يحتمل أن يكون مستندها اليد والتصرف فلا تفيد إلا ما أفادته اليد والتصرف وذلك لا يغني عن اليمين فكذلك ما قام مقامه .
فصل : وإن ادعى الخارج أن الدابة ملكه وأنه أودعها للداخل أو أعاره إياها أو آجرها منه ولم يكن لواحد منهما بينة فالقول قول المنكر مع يمينه ولا نعلم فيه خلافا وإن كان لكل واحد منهما بينة فبينة الخارج مقدمة وهذا قول الشافعي .
وقال القاضي : بينة الداخل مقدمة لأنه هو الخارج في المعنى لأنه ثبت أن المدعي صاحب اليد وأن يد الداخل نائبة عنه .
ولنا قول النبي A [ البينة على المدعي ] ولأن اليمين في حق المدعى عليه فتكون البينة للمدعي كما لو لم يدع الإيداع يحققه أن دعواه الإيداع زيادة في حجته وشهادة البينة بها تقوية لها فلا يجوز أن تكون مبطلة لبينته وإن ادعى الخارج أن الداخل غصبه إياها وأقاما بينتين فهي للخارج ويقتضي قول القاضي أنها للداخل والأولى ما ذكرناه .
فصل : فإن كان في يد رجل شاة مسلوخة ورأسها وسواقطها وباقيها في يد رجل آخر فادعاها كل واحد منهما كلها ولا بينة لواحد منهما فلكل واحد منهما ما في يده مع يمينه وإن أقاما بينتين وقلنا تقدم بينة الخارج فلكل واحد منهما ما في يد صاحبه وإن قلنا تقدم بينة الداخل فلكل واحد منهما ما في يده من غير يمين .
فصل : فإن كان في يد كل واحد منهما شاة فادعى كل واحد منهما أن الشاة التي في يد صاحبه له ولا بينة لهما حلف كل واحد منهما لصاحبه وكانت الشاة التي في يده له وإن أقاما بينتين فلكل واحد منهما الشاة التي في يد صاحبه ولا تعارض بينهما وإن كل واحد منهما قال : هذه الشاة التي في يدك لي من نتاج شاتي هذه فالتعارض في النتاج لا في الملك إذ يستحيل أن يكون كل واحد منهما يثبت الأخرى والحكم على ما تقدم : وإن ادعى كل واحد منهما أن الشاتين لي دون صاحبي وأقاما بينتين تعارضتا وانبنى ذلك على القول في بينة الداخل والخارج فمن قدم بينة الخارج جعل لكل واحد منهما ما في يد الآخر ومن قدم بينة الداخل أو قدمها إذا شهدت بالنتاج جعل لكل واحد منهما ما في يده .
فصل : وإذا ادعى زيد شاة في يد عمرو أقام بها بينة فحكم له بها حاكم ثم ادعاها عمرو على زيد وأقام بها بينة فإن قلنا بينة الخارج مقدمة لم تسمع بينة عمرو لأن بينة زيد مقدمة عليها وإن قلنا بينة الداخل مقدمة نظرنا في الحكم كيف وقع فإن كان حكم بها لزيد لأن عمرو لا بينة له ردت إلى عمرو لأنه قد قامت له بينة واليد كانت له وإن حكم بها لزيد لأنه يرى تقديم بينة الخارج لم نقض حكمه لأنه حكم بما يسوغ الاجتهاد فيه وإن كانت بينة عمرو قد شهدت له أيضا وردها الحاكم لفسقها ثم عدلت لم ينقض الحكم أيضا لأن الفاسق إذا ردت شهادته لفسقه ثم أعادها بعد لم تقبل وإن لم يعلم الحكم كيف كان لم ينقض لأن حكم الحاكم الأصل جريانه على العدل والإنصاف والصحة فلا ينقض بالاحتمال فإن جاء ثالث فادعاها وأقام البينة فبينته وبينة زيد متعارضتان ولا يحتاج إلى إقامة بينة لأنها قد شهدت مرة وهما سواء في الشهادة حال التنازع فلم يحتج إلى إعادتها كالبينة إذا شهدت ووقف الحكم على البحث عن حالها ثم بانت عدالتها فإنها تقبل ويحكم من غير إلى إعادة شهادتها وكذا ههنا .
فصل : وإن كان في يد رجل شاة فادعاها رجل أنها له منذ سنة وأقام بذلك بينة وادعى الذي هي بيده أنها في يده منذ سنتين وأقام بذلك بينة فهي للمدعي بغير خلاف لأن بينته تشهد له بالملك وبينة الداخل تشهد باليد خاصة فلا تعارض بينهما لإمكان الجمع بينهما بأن تكون اليد على غير ملك فكانت بينة الملك أولى فإن شهدت بينة بأنها ملكه منذ سنتين فقد تعارض ترجيحان تقدم التاريخ من جهة بينة الداخل وكون الأخرى بينة الخارج ففيه روايتان : .
إحداهما : تقدم بينة الخارج وهو قول أبي يوسف و محمد و أبي ثور ويقتضيه عموم كلام الخرقي لقوله A [ البينة على المدعي ] ولأن بينة الداخل يجوز أن يكون مستندها اليد فلا تفيد أكثر مما تفيده اليد أشبهت الصورة التي قبلها .
الثانية : تقدم بينة الداخل وهو قول أبي حنيفة و الشافعي لأنهت تضمنت زيادة فإن كانت بالعكس فشهدت بينة الداخل أنه يملكها منذ سنة وشهدت بينة الخارج أنه يملكها منذ سنتين قدمت بينة الخارج إلا على الرواية التي تقدم فيها بينة الداخل فيخرج فيها وجهان بناء على الروايتين في التي قبلها وظاهر مذهب الشافعي تقديم بينة الداخل على كل حال وقال بعضهم : فيها قولان وإن ادعى الخارج أنها ملكه منذ سنة وادعى الداخل أنه اشتراها منذ سنتين ولقام كل واحد منهما بينة قدمت بينة الداخل ذكره القاضي وهو قول أبي ثور فإن اتفق تاريخ السنين إلا أن بينة الداخل تشهد بنتاج أو بشراء أو غنيمة أو إرث أو هبة من مالك أو قطيعة من الإمام أو سبب من أسباب الملك ففي أيهما تقدم روايتان ذكرناهما وإن ادعى أحدهما أنه اشتراها من الآخر قضي له بها لأن بينة الابتياع شهدت بأمر حدث خفي على البينة الأخرى فقدمت عليها كتقديم بينة الجرح على بينة التعديل