العدل من لم تظهر منه ريبة .
مسألة : قال : والعدل من لم تظهر منه ريبة وهذا قول إبراهيم النخعي وإسحاق .
وجملته أن العدل هو الذي تعتدل أحواله في دينه وأفعاله قال القاضي : يكون ذلك في الدين والمروءة والأحكام أما الدين فلا يرتكب كبيرة ولا يداوم على صغيرة فإن الله تعالى أمر أن لا تقبل شهادة القاذف فقياس عليه كل مرتكب كبيرة ولا يخرجه عن العدالة فعل صغيرة لقول الله تعالى { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم } قيل : اللمم صغار الذنوب ولأن التحرز منها غير ممكن جاء عن النبي .
A أنه قال : .
[ إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما ؟ ] .
أي لم يلم فإن لا مع الماضي بمنزلة لم مع المستقبل وقيل اللمم يلم الذنوب ثم يعود فيه والكبائر كل معصية فيها حد والإشراك بالله وقتل النفس التي حرم الله وشهادة الزور وعقوق الوالدين .
وروى أبو بكرة أن النبي A قال [ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ الإشراك بالله وقتل النفس التي حرم الله وعقوق الوالدين ـ وكان متكئا فجلس فقال : ـ ألا قول الزور وقول الزور ] فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت متفق عليه .
قال أحمد : ولا تجوز شهادة آكل الربا والعاق وقاطع الرحم ولا تقبل شهادة من لا يؤدي زكاة ماله وإذا أخرج في الطريق المسلمين الأسطوانة والكنيف لا يكون عدلا ولا يكون ابنه عدلا إذا ورث أباه حتى يرد ما أخذه من طريق المسلمين ولا يكون عدلا إذا كذب الكذب الشديد لأن النبي A رد شهادة رجل في كذبه .
وقال عن الزهري وعن عروة عن عائشة عن النبي A : [ لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود في الحد ولا ذي غمر على أخيه في عداوة ولا القاطع لأهل البيت ولا مجرب عليه شهادة زور ولا ضنين في ولاء ولا قرابة ] وقد رواه أبو داود وفيه [ لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ولا ذي غمر على أخيه ] فأما الصغائر فإن كان مصرا عليها ردت شهادته وإن كان الغالب من أمره الطاعات يرد لما ذكرنا من عدم إمكان التحرز منه .
وأما المروءة فاجتناب الأمور الدنيئة المزرية به وذلك نوعان أحدهما : من الأفعال كالأكل في السوق يعني به الذي ينصب مائدة في السوق ثم يأكل والناس ينظرون ولا يعني به أكل الشيء اليسير كالكسرة ونحوها وإن كان يكشف ما جرت العادة بتغطيته من بدنه أو يمد رجليه في مجمع الناس أو يتمسخر بما يضحك الناس به أو يخاطب امرأته أو جاريته أو غيرهما بحضرة الناس بالخطاب الفاحش أو يحدث الناس بمباضعته أهله ونحو هذا من الأفعال الدنيئة ففاعل هذه لا تقبل شهادته لأن هذا سخف ودناءة فمن رضيه لنفسه واستحسنه فليست له مروءة فلا تحصل الثقة بقوله قال أحمد في رجل شتم بهيمة قال الصالحون : لا تقبل شهادته حتى يتوب .
وقد روى أبو مسعود البدري قال : قال رسول الله A : [ إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستح فاصنع ما شئت ] يعني من لم يستح صنع ما شاء ولأن المروءة تمنع الكذب وتزجر عنه ولهذا يمتنع منه ذو المروءة وإن لم يكن ذا دين .
وقد روي عن أبي سفيان أنه حين سأله قيصر عن النبي A وصفته فقال : والله لولا أني كرهت أن يؤثر عني الكذب لكذبته ولم يكن يومئذ ذا دين ولأن الكذب دناءة والمروءة تمنع من الدناءة وإذا كانت المروءة مانعة من الكذب اعتبرت في العدالة كالدين ومن فعل شيئا من هذا مختفيا به لم يمنع من قبول شهادته لأن مروءته لا تسقط به وكذلك إن فعله مرة أو شيئا قليلا لم ترد شهادته ولأن صغير المعاصي لا يمنع الشهادة إذا قل فهذا أولى ولأن المروءة لا تختل بقليل هذا ما لم يكن عادته .
النوع الثاني : في الصناعات الدنيئة كالكساح والكناس لا تقبل شهادتهما لما روى سعيد في سننه أن رجلا أتى ابن عمر فقال له : إني رجل كناس قال : أي شيء تكنس ؟ الزبل ؟ قال : لا قال : فالعذرة ؟ قال : نعم قال : منه كسبت المال ومنه تزوجت ومنه حججت ؟ قال : نعم قال : الأجر خبيث وما تزوجت خبيث حتى تخرج منه كما دخلت فيه وعن ابن عباس مثله في الكساح ولأن هذا دناءة يجتنبه أهل المروءات فأشبه الذي قبله فأما الزبال والقراد والحجام ففيه وجهان : .
أحدهما : لا يقبل شهادتهم لأنه دناءة يجتنبه أهل المروءات فهو كالذي قبله .
والثاني : تقبل : لأن بالناس إليه حاجة فعلى هذا الوجه إنما تقبل شهادته إذا كان يتنظف للصلاة في وقتها ويصليها فإن صلى بالنجاسة لم تقبل شهادته وجها واحدا وأما الحائك والدباغ فهي أعلى من هذه الصنائع فلا ترد بها الشهادة وذكرها أبو الخطاب في جملة ما فيه وجهان .
وأما سائر الصناعات التي لا دناءة فيها فلا ترد الشهادة بها إلا من كان منهم يحلف كاذبا أو يعد ويخلف وغلب هذا عليه فإن شهادته ترد وكذلك من كان منهما يؤخر الصلاة عن أوقاتها أو لا يتنزه عن النجسات فلا شهادة له ومن كانت صناعته محرمة كصانع المزامير والطنابير فلا شهادة له ومن كانت صناعته يكثر فيها الربا كالصائغ والصيرفي ولم يتوق ذلك ردت شهادته