مسألة وفصول في الهدية إلى القاضي والرشوة والبيع والشراء وحضور الولائم وعيادة المرضى .
مسالة : قال : ولا يقبل هدية من لم يكن يهدي إليه قبل ولايته .
وذلك لأن الهدية يقصد بها في الغالب استمالة قلبه ليعتني به في الحكم فتشبه الرشوة قال مسروق إذا قبل القاضي الهدية أكل السحت وإذا قبل لرشوة بلغت به الكفر وقد روى أبو حميد الساعدي قال : [ بعث رسول الله A رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فقال هذا لكم وهذا أهدي إلي فقام النبي A فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول هذا لكم وهذا أهدي إلي ألا جلس في بيت أمه فينظر أيهدي إليه أم لا ؟ والذي نفس محمد بيده لا نبعث أحدا منكم فيأخذ شيئا إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر فرفع يديه حتى رأيت عفرة أبطية فقال : اللهم هل بلغت ثلاثا ؟ ] متفق عليه ولأن حدوث الهدية عند حدوث الولاية يدل على أنها من أجلها ليتوسل بها إلى ميل الحاكم معه على خصمه فلم يجز قبولها منه كالرشوة فأما إن كان يهدي إليه قبل ولايته جاز قبولها منه بعد الولاية لأنها لم تكن من أجل الولاية لوجود سببها قبل الولاية بدليل وجودها قبلها قال القاضي ويستحب له التنزه عنها وإن أحس أنه يقدمها بين يدي خصومه أو فعلها حال الحكومة حرم أخذها في هذه الحال لأنها كالرشوة وهذا كله مذهب الشافعي وروي عن أبي حنيفة وأصحابه أن قبول الهدية مكروه غير محرم وفيما ذكرنا دلالة على التحريم .
فصل : فأما الرشوة في الحكم ورشوة العالم فحرام بلا خلاف قال الله تعالى : { أكالون للسحت } قال قال الحسن و سعيد بن جبير في تفسيره هو الرشوة وقال إذا قبل القاضي الرشوة بلغت به إلى الكفر .
وروى عبد الله بن عمر قال : [ لعن رسول الله A الراشي والمرتشي ] قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ورواه أبو هريرة وزاد في الحكم ورواه أبو بكر في زاد المسافر وزاد والرائش وهو السفير بينهما ولأن المرتشي إنما يرتشي ليحكم بغير الحق أو ليوقف الحكم عنه وذلك من أعظم الظلم قال مسروق سألت ابن مسعود عن السحت أهو الرشوة في الحكم قال لا : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } ـ و { الظالمون } ـ و { الفاسقون } ولكن السحت أن يستعينك الرجل على مظلمة فيهدي لك فلا تقبل وقال قتادة قال كعب : الرشوة تسفه الحليم وتعمي عين الحكيم فأما الراشي فإن رشاه ليحكم له بباطل أو يدفع عنه حقا فهو ملعون وإن رشاه ليدفع ظلمه ويجزيه على واجبه فقد قال عطاء و جابر بن زيد و الحسن لا بأس أن يصانع عن نفسه قال جابر بن زيد ما رأينا في زمن زياد أنفع لنا من الرشا ولأنه يستنقذ ماله كما يستنقذ الرجل أسيره فإن ارتشى الحاكم أو قبل هدية ليس له قبولها فعليه ردها إلى أربابها لأنه أخذها بغير حق فأشبه المأخوذ بعقد فاسد ويحتمل أن يجعلها في بيت المال لأن النبي A لم يأمر ابن اللتبية بردها على أربابها وقد قال أحمد إذا أهدى البطريق لصاحب الجيش عينا أو فضة لم تكن له دون سائر الجيش قال أبو بكر : يكونون فيه سواء .
فصل : ولا ينبغي للقاضي أن يتولى البيع والشراء بنفسه لما [ روى أبو الأسود المالكي عن أبيه عن جده أن النبي A قال : ما عدل وال اتجر في رعيته أبدا ] ولأنه يعرف فيحابي فيكون كالهدية ولأن ذلك يشغله عن النظر في أمور الناس .
وقد روي عن أبي بكر الصديق Bه أنه لما بويع أخذ الذراع وقصد السوق فقالوا يا خليفة رسول الله A لا يسعك أن تشتغل عن أمور المسلمين قال فإني لا أدع عيالي يضيعون قالوا فنحن نفرض لك ما يكفيك ففرضوا له كل يوم درهمين فإن باع واشترى صح البيع لأن البيع تم بشروطه وأركانه وإن احتاج إلى مباشرته ولم يكن له من يكفيه جاز ذلك ولم يكره لأن أبا بكر Bه قصد السوق ليتجر فيه حتى فرضوا له ما يكفيه ولأن القيام بعياله فرض عين فلا يتركه لوهم مضرة وأما إذا استغنى عن مباشرته ووجد من يكفيه ذلك كره له لما ذكرناه من المعنيين وينبغي ان يوكل في ذلك من لا يعرف أنه وكيله لئلا يحابي وهذا مذهب الشافعي وحكي عن ابي حنيفة أنه قال لا يكره له البيع والشراء وتوكيل من يعرف لما ذكرنا من قضية أبي بكر Bه .
ولنا ما ذكرناه وروي عن شريح أنه قال شرط علي عمر حين ولاني القضاء أن لا أبيع ولا أبتاع ولا أرتشي ولا أقضي وأنا غضبان وقضية أبي بكر حجة لنا فإن الصحابة أنكروا عليه فاعتذر بحفظ عياله عن الضياع فلما أغنوه عن البيع والشراء بما فرضوا لهم قبل قولهم وترك التجارة فحصل الإتفاق منهم على تركها عند الغنى عنها .
فصل : ويجوز للحاكم حضور الولائم ل [ أن النبي A كان يحضرها ويأمر بحضورها وقال : من لم يجب فقد عصى الله ورسوله ] فإن كثرت وازدحمت تركها كلها ولم يجب أحدا لأن ذلك يشغله عن الحكم الذي قد تعين عليه لكنه يعتذر إليهم ويسألهم التحليل ولا يجيب بعضا دون بعض لأن في ذلك كسرا لقلب من لم يجبه إلا أن يختص بعضها بعذر يمنعه دون بعض مثل أن يكون في إحداهما منكر أو تكون في مكان بعيد أو يشتغل بها زمنا طويلا والأخرى بخلاف ذلك فله الإجابة إليها دون الأولى لأن عذره ظاهر في التخلف عن الأولى .
فصل : وله عيادة المرضى وشهود الجنائز واتيان مقدم الغائب وزيادة إخوانه والصالحين من الناس لأنه قربة وطاعة وإن كثر ذلك فليس له الاشتغال به عن الحكم لأن هذا تبرع فلا يشتغل به عن الفرض وله حضور البعض دون البعض لأن هذا يفعله لنفع نفسه لتحصيل الأجر والقربة له والولائم يراعى فيها حق الداعي فينكسر قلب من لم يجبه إذا أجاب غيره