مسألة وفصول استحباب المشاورة في القضاء وحضور أهل العلم والمشورة مجلس القاضي .
مسألة : قال : وإذا نزل به الأمر المشكل عليه مثله شاور فيه أهل العلم والأمانة .
وجملته أن الحاكم إذا حضرته قضية تبين له حكمها في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله أو إجماع أو قياس جلي حكم ولم يحتج إلى رأي غيره ل [ قول رسول الله A لمعاذ حين بعثه إلى اليمن : بم تحكم ؟ ـ قال بكتاب الله قال ـ فإن لم تجد ؟ قال ـ بسنة رسول الله A قال ـ فإن لم تجد ـ قال اجتهد رأيي ولا آلو ـ قال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله A لما يرضي رسول الله A ] فإن احتاج إلى الاجتهاد استحب له أن يشاور لقول الله تعالى : { وشاورهم في الأمر } قال الحسن إن كان رسول الله A لغنيا عن مشاورتهم وإنما أراد أن يستن بذلك الحكام بعده وقد شاور النبي A أصحابه في أسارى بدر وفي مصالحة الكفار يوم الخندق وفي لقاء الكفار يوم بدر .
وروي ما كان أحد أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله A وشاور أبو بكر الناس في ميراث الجدة وعمر في دية الجنين وشاور الصحابة في حد الخمر وروي أن عمر كان يكون عنده جماعة من أصحاب رسول الله A عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف إذا نزل به الأمر شاورهم فيه ولا مخالف في استحباب ذلك قال أحمد لما ولي سعد بن إبراهيم قضاء المدينة كان يجلس بين القاسم وسالم يشاورهما وولي محارب بن دثار قضاء الكوفة فكان يجلس بين الحكم و حماد يشاورهما ما أحسن هذا لو كان الحكام يفعلونه يشاورون وينتظرون ولأنه قد ينتبه بالمشاورة ويتذكر ما نسيه بالمذاكرة ولأن الإحاطة بجميع العلوم متعذرة وقد ينتبه لإصابة الحق ومعرفة الحادثة من هو دون القاضي فكيف بمن يساويه أو يزيد عليه ؟ فقد روي أن أبا بكر الصديق Bه جائته الجدتان فورث أم الأم وأسقط أم الأب فقال له عبد الرحمن بن سهل يا خليفة رسول الله لقد أسقطت التي لو ماتت ورثها وورثت التي لو ماتت لم يرثها فرجع أبو بكر فاشرك بينهما .
وروى عمر بن شبة عن الشعبي أن كعب بن سوار كان جالسا عند عمر فجاءته امرأة فقالت يا أمير المؤمنين مل رأيت رجلا قط أفضل من زوجي والله أنه ليبيت ليله قائما ويظل نهاره صائما في اليوم الحار ما يفطر فاستغفر لها وأثنى عليها وقال مثلك اثنى الخير قال واستحيت المرأة فقامت راجعة فقال كعب يا أمير المؤمنين هلا أعديت المرأة على زوجها قال وما شكت قال شكت زوجها أسد الشكاية ؟ قال أو ذاك أرادت ؟ قال نعم قال ردوا علي المرأة فقال لا بأس بالحق أن تقوليه إن هذا زعم أنك جئت تشكين زوجك أنه يجتنب فراشك قالت أجل إني امرأة شابة وإني لأبتغي ما يبتغي النساء فأرسل إلى زوجها فجاء فقال لكعب اقض بينهما قال أمير المؤمين أحق أن يقضي بينهما قال عزمت عليك لتقضين بينهما فإنك فهمت من أمرهما ما لم أفهم قال فإني أرى كأنها عليها ثلاث نسوة هي رابعتهن فاقضي له بثلاثة أيام بلياليهن يتعبد فيهن ولها يوم وليلة فقال عمر والله ما رأيك الأول أعجب إلي من الآخر اذهب فأنت قاض على البصرة إذا ثبت هذا فإنه يشاور أهل العلم والأمانة لأن من ليس كذلك فلا قول له في الحادثة ولا يسكن إلى قوله قال سفيان : وليكن أهل مشورتك أهل التقوى وأهل الأمانة ويشاور الموافقين والمخالفين ويسألهم عن حجتهم ليبين له الحق .
فصل : والمشاروة ههنا لاستخراج الأدلة ويعرف الحق بالاجتهاد ولا يجوز أن يقلد غيره ويحكم بقول سواه سواء ظهر له الحق فخالفه غيره فيه أو لم يظهر له شيء وسواء ضاق الوقت أو لم يضق وكذلك ليس للمفتي الفتيا بالتقليد وبهذا قال الشافعي و أبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة إذا كان الحاكم من أهل الاجتها جاز له ترك رأيه لرأي من هو أفقه منه عنده إذا صار إليه فهو ضرب من الاجتهاد ولأنه يعتقد أنه أعرف منه بطريق الاجتهاد .
ولنا أنه من أهل الاجتهاد فلم يجز له تقليد غيره كما لو كان مثله كالمجتهدين في القبلة وما ذكره ليس بصحيح فإن من هو أفقه منه يجوز عليه الخطأ فإذا اعتقد أن ما قاله خطأ لم يجز له أن يعمل به وإن كان لم يبن له الحق فلا يجوز له أن يحكم بما يجوز أن يبين له خطؤه إذا اجتهد .
فصل : قال أصحابنا يستحب أن يحضر مجلسه أهل العلم من كل مذهب حتى إذا حدثت حادقة يفتقر إلة أن يسألهم عنها سألهم ليذكروا أدلتهم فيها وجوابهم عنها فإنه أسرع لاجتهاده وأقرب لصوابه فإن حكم بإجتهاده فليس لأحد منهم أن يرد عليه وإن خالف اجتهاده لأن فيه افتئاتا عليه إلا أن يحكم بما يحالف نصا أو إجماعا .
فصل : وينبغي له أن يحضر شهوده مجلسه ليستوفي بهم لحقوق وتثبت بهم الحجج والمحاضر فإن كان ممن يحكم بعلمه فإن شاء أدناهم إليه وإن شاء باعدهم منه بحيث إذا احتاج إلى اشهادهم على حكمه استدعاهم ليشهدوا بذلك وإن كان ممن لا يحكم بعلمه أجلسهم بالقرب منه حتى يسمعوا كلام المختاصمين لئلا يقر منهم مقر ثم ينكر ويجحد فيحفظوا عليه إقراره ويشهدوا به .
فصل : وإذا اتصلت به الحادثة واستنارت الحجة لأحد الخصمين حكم وإن كان فيها لبس أمرهما بالصلح فإن أبيا أخرهما إلى البيان فإن عجلها قبل البيان لم يصح حكمه .
وممن رأى الإصلاح بين الخصمين شريح وعبد الله بن عتبة و أبو حنيفة و الشعبي و العنبري وروي عن عمر أنه قال ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يحدث بين القوم الضغائن قال أبو عبيد إنما يسعه الصلح في الأمور المشكلة أما إذا استنارت الحجة لأحد الخصمين وتبين له موضع الظالم فليس له أن يحملهما على الصلح ونحوه قول عطاء واستحسنه ابن المنذر وروي عن شريح أنه ما أصلح بين متحاكمين إلا مرة واحدة .
فصل : وإذا حدثت حادثة نظر في كتاب الله فإن وجدها وإلا نظر في سنة رسوله فإن لم يجدها نظر في القياس فألحقها بأشبه الأصول بها لما ذكرنا من حديث معاذ بن جبل وهو حديث يرويه عمرو بن الحارث ابن أخي المغيرة بن شعبة عن رجال من أصحاب معاذ من أهل حمص وعمرو والرجال مجهولون إلا انه حديث مشهور في كتب أهل العلم رواه سعيد بن منصور والإمام أحمد وغيرهما وتلقاه العلماء بالقبول وجاء عن الصحابة من قولهم ما يوافقه فروى سعيد أن عمر قال لـ شريح انظر ما يتبين لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحدا وما لا يتبين لك في كتاب الله فاتبع فيه السنة وما لم يتبين لك في السنة فاجتهد فيه رأيك وعن ابن مسعود مثل ذلك