فصلان أمور تراعى في تولية القضاء .
فصل : وله أن ينتهر الخصم إذا التوى ويصيح عليه وإن استحق التعزير عزره بما يرى من أدب أو حبس وإن افتات عليه بأن يقول حكمت علي بغير الحق أو ارتشيت فله تأديبه وله أن يعفو وإن بدأ المنكر باليمين قطعها عليه وقال البينة على خصمك فإن عاد نهره فإن عاد عزره إن رأى وأمثال ذلك مما فيه إساءة الأدب فله مقابلة فاعله وله العفو .
فصل : وإن ولى الإمام رجلا القضاء فإن كانت ولايته في غير بلده فاراد السير إلى بلاد ولايته بحث عن قوم من أهل ذلك البلد ليسألهم عنه ويتعرف منهم ما يحتاج إلى معرفته فإن لم يجد سأل في طريقه فإن لم يجد سأل إذا دخل البلد عن أهله ومن به من العلماء والفضلاء وأهل العدالة والسير وسائر ما يحتاج إلى معرفته وإذا قرب من البلد بعث من يعلمهم بقدومه ليتلقوه ويجعل قدومه يوم الخميس إن أمكنه لأن النبي A كان إذا قدم من سفر قدم يوم الخميس ثم يقصد فيصلي فيه ركعتين كما كان النبي A يفعل إذا دخل المدينة ويسأل الله تعالى التوفيق والعصمة والمعونة وأن يجعل عمله صالحا ويجعله لوجهه خالصا ولا يجعل لأحد فيه شيئا ويفوض أمره إلى الله تعالى ويتوكل عليه ويأمر مناديه فينادي في البلدان فلانا قدم عليكم قاضيا فاجتمعوا لقراءة عهده وقت كذا وكذا وينصرف إلى منزله الذي قد أعد له وينبغي أن يكون في وسط البلد ليتساوى أهل المدينة فيه ولا يشق على بعضهم قصده فإذا اجتمعوا أمر بعهده فقرىء عليهم ليعلموا التولية ويأتوا إليه ويعد الناس يوما يجلس فيه للقضاء ثم ينصرف إلى منزله وأول ما يبدأ فيه من أمر الحكم أن يبعث إلى الحاكم المعزول فيأخذ منه ديوان الحكم وهو ما فيه وثائق الناس من المحاضر وهي نسخ ما ثبت عند الحاكم والسجلات نسخ ما حكم به وما كان عنده من حجج الناس ووثائقهم مودعة في ديوان الحكم وكانت عنده بحكم الولاية فإذا انتقلت الولاية إلى غيره كان عليه تسليمها إليه فتكون مودعة عنده في ديوانه ثم يخرج في اليوم الذي وعد بالجلوس فيه إلى مجلسه على أكمل حالة وأعد لها خليا من الغضب والجوع الشديد والعطش والفرح الشديد والحزن الكثير والهم العظيم والزجع المؤلم ومدافعة الأخبثين أو أحدهما والنعاس الذي يغمر القلب ليكون أجمع لقلبه وأحضر لذهنه وأبلغ في تيقظه للصواب وفطنته لموضع الرأي ولذلك قال النبي A : [ لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان ] فنص على الغضب ونبه على ما في معناه من سائر ما ذكرناه ويسلم على من يمر به من المسلمين في طريقه ويذكر الله بقلبه ولسانه حتى يأتي مجلسه ويستحب أن يجعله في موضع بارز للناس فسيح كالرحبة والفضاء الواسع أو الجامع ولا يكره القضاء في المساجد فعل ذلك شريح و الحسن و الشعبي و محارب بن دثار ويحيى بن يعمر و ابن أبي ليلى وابن خلدة قاض لعمر بن عبد العزيز Bه وروي عن عمر وعثمان وعلي انهم كانوا يقضون في المسجد .
وقال مالك : القضاء في المسجد من أمر الناس القديم وبه قال مالك و إسحاق و ابن المنذر وقال الشافعي يكره ذلك إلا أن يتفق خصمان عنده في المسجد لما روي أن عمر كتب إلى القاسم بن عبد الرحمن أن لا تقض في المسجد لأنه تأتيك الحائض والجنب ولأن الحاكم يأتيه الذمي والحائض والجنب وتكثر غاشيته ويجري بينهم اللغط والتكاذب والتجاحد وربما أدى إلى السبب وما لم تبن له المساجد .
ولنا إجماع الصحابة بما قد رويناه عنهم وقال الشعبي رأيت عمر وهو مستند إلى القبلة يقضي بين الناس وقال مالك هو من أمر الناس القديم ولأن القضاء قربة وطاعة وانصاف بين الناس فلم يكره في المسجد ولا نعلم صحة ما رووه عن عمر وقد روي عنه خلافه وأما الحائض فإن عرضت لها حاجة إلى القضاء وكلت أو أتته في منزله إليه للحكومة والفتيا وغير ذلك من حوائجهم وكان أصحابه يطالب بعضهم بعضا بالحقوق في المسجد وربما رفعوا أصواتهم [ فقد روي عن كعب بن مالك أنه قال : تقاضيت ابن أبي حدرد دينا في المسجد حتى ارتفعت أصواتنا فخرج النبي A فأشار إلي أن ضع من دينك الشطر فقلت نعم يا رسول الله قال : فقم فاقضه ] وينبغي أن يكون جلوسه في وسط البلد لئلا يبعد على قاصديه ولا يتخذ حاجبا يحجب الناس عن الوصول إليه [ لما روى القاسم بن مخيمرة عن أبي مريم صاحب رسول الله A أنه قال سمعت رسول الله A يقول : من ولي من أمور الناس شيئا واحتجب دون حاجتهم احتجب الله دون حاجته وفاقته وفقره ] رواه الترمذي ولأن حاجبه ربما قدم المتأخر وأخر المتقدم لغرض له وربما كسرهم بحجبهم والاستئذان لهم ولا بأس باتخاذ حاجب في غير مجلس القضاء ويبسط له شيء ولا يجلس على التراب ولا على حصير المسجد لأن ذلك يذهب بهيبته من أعين الخصوم ويجعل جلوسه مستقبل القبلة لأن خير المجالس ما استقبل به القبلة وهذه الآداب المذكورة في هذا الفصل ليست شرطا في الحكم إلا الخلو من الغضب وما في معناه فإن في اشتراطه روايتين