مسألة وفصول حكم ما لو نذر المشي إلى البيت الحرام أو نذر الحج راكبا .
مسألة : قال : وإذا نذر المشي إلى بيت الله الحرام لم يجزئه إلا أن يمشي في حج أو عمرة فإن عجز عن المشي ركب وكفر كفارة يمين .
وجملته أن من نذر المشي إلى بيت الله الحرام لزمه الوفاء بنذره وبهذا قال مالك و الأوزاعي و الشافعي و أبو عبيد و ابن المنذر ولا نعلم فيه خلافا وذلك لأن النبي A قال : [ لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى ] ولا يجزئه المشي إلا في الحج أو عمرة وبه يقول الشافعي ولا أعلم فيه خلافا وذلك لأن المشي المعهود في الشرع هو المشي في حج أو عمرة فإذا أطلق الناذر حمل على المعهود الشرعي ويلزمه المشي فيه لنذره فإن عجز عن المشي ركب وعليه كفارة يمين .
وعن أحمد رواية أخرى أنه يلزمه دم وهو قول لـ لشافعي وأفتى به عطاء لما روى ابن عباس أن أخت عقبة بن عامر نذرت المشي إلى بيت الله الحرام فأمرها النبي A أن تركب وتهدي هديا رواه أبو داود وفيه ضعف ولأنه أحل بواجب في الإحرام فلزمه هدي كتارك الإحرام من الميقات وعن ابن عمر وابن الزبير قالا يحج من قابل ويركب ما مشى ويمشي ما ركب ونحوه قال ابن عباس وزاد فقال يهدي وعن الحسن مثل الأقوال الثلاثة وعن النخعي روايتان : .
إحداهما : كقول ابن عمر والثانية : كقول ابن عباس وهذا قول مالك وقال أبو حنيفة عليه هدي سواء عجز عن المشي أو قدر عليه وأقل الهدي شاة وقال الشافعي لا تلزمه مع العجز كفارة بحال إلا أن يكون النذر مشيا إلى بيت الله فهل يلزمه هدي فيه قولان وأما غيره فلا يلزمه مع العجز شيء .
[ ولنا قول النبي A حين قال لأخت عقبة بن عامر لما نذرت المشي إلى بيت الله : لتمش ولتركب ولتكفر عن يمينها ] وفي رواية : [ فلتصم ثلاثة أيام ] وقول النبي A : [ كفارة النذر كفارة اليمين ] ولأن المشي مما لا يوجبه الإحرام فلم يجب الدم بتركه كما لو نذر صلاة ركعتين فتركهما وحديث الهدي ضعيف وهذا حجة على الشافعي حيث أوجب الكفارة عليها من غير العجز فإن قيل : فإن النبي A أوجب الكفارة عليها من غير ذكر العجز قلنا يتعين حمله على حالة العجز لأن المشي قربة لأنه مشي إلى عبادة والمشي إلى العبادة أفضل ولهذا [ روي أن النبي A لم يركب في عيد ولا جنازة ] فلو كانت قادرة على المشي لأمرها به ولم يأمرها بالركوب والتكفير ولأن المشي المقدور عليه لا يخلو من أن يكون واجبا أو مباحا فإن كان واجبا لزم الوفاء به وإن كان مباحا لم تجب الكفارة بتركه عند الشافعي وقد أوجب الكفارة ههنا وترك ذكره في الحديث إما لعلم النبي A بحالها وعجزها وإما لأن الظاهر من حال المرأة العجز عن المشي إلى مكة أو يكون قد ذكر في الخبر فترك الراوي ذكره وقول أصحاب أبي حنيفة أنه أخل بواجب في الحج قلنا المشي لم يوجبه الإحرام ولا هو من مناسكه فلم يجب بتركه هدي كما لو نذر صلاة ركعتين في الحج فلم يصلهما فأما إن ترك المشي مع إمكانه فقد أساء وعليه كفارة أيضا لتركه صفة النذر .
وقياس المذهب أن يلزمه استئناف الحج ماشيا لتركه صفة المنذور كما لو نذر صوما متتابعا فأتى به متفرقا وإن عجز عن المشي بعد الحج كفر وأجزأه وإن مشي بعض الطريق وركب بعضا فعلى هذا القياس يحتمل أن يكون كقول ابن عمر وهو أن يحج فيمشي ما ركب ويركب ما مشى ويحتمل أن لا يجزئه إلا حج شيء في جميعه لأن ظاهر النذر يقتضي هذا .
ووجه القول الأول أنه لا يلزمه بترك المشي المقدور عليه أكثر من كفارة لأن المشي غير مقصود في الحج ولا ورد الشرع بإعتباره في موضع فلم يلزم بتركه أكثر من كفارة كما لو نذر التحفي وشبهه وفارق التتابع في الصيام فإنها صفة مقصودة فيه إعتبرها الشرع في صيام الكفارات : كفار الظهار والجماع واليمين .
فصل : فإن نذر الحج راكبا لزمه الحج كذلك لأن فيه إنفاقا في الحج فإن ترك الركوب فعليه كفارة وقال أصحاب الشافعي يلزمه دم لترفهه بترك الإنفاق وقد تبينا أن الواجب بترك النذر الكفارة دون الهدي إلا أن هذا إذا مشى ولم يركب مع إمكانه لم يلزمه أكثر من كفار لأن الركوب في نفسه ليس بطاعة ولا قربة وكل موضع نذر المشي فيه أو الركوب فإنه يلزمه الإتيان بذلك من دويرة أهله إلا أن ينوي موضعا بعينه فيلزمه من ذلك الموضع لأن النذر محمول على أصله في الفرض والحج المفروض بأصل الشرع يجب كذلك ويحرم للمنذور من حيث يحرم للواجب قال بعض الشافعية يجب الإحرام من دويرة أهله لأن إتمام الحج كذلك .
ولنا أن المطلق محمول على المعبود في الشرع والإحرام الواجب إنما هو من الميقات ويلزمه المنذور من المشي أو الركوب في الحج أو العمرة إلى أن يتحلل لأن ذلك انقضاء الحج والعمرة .
قال أحمد : يركب في الحج إذا رمى وفي العمرة إذا سعى لأنه لو وطىء بعد ذلك لم يفسد حجا ولا عمرة وهذا يدل على أنه إنما يلزمه في الحج التحلل الأول .
فصل : وإذا نذر المشي إلى بيت الله أو الركوب إليه ولم يرد بذلك حقيقة المشي والركوب إنما أراد اتيانه لزمه اتيانه في حج أو عمرة ولم يتعين عليه مشي ولا ركوب لأنه عنى ذلك بنذره وهو محتمل له فأشبه ما لو صرح به ولو نذر أن يأتي بيت الله الحرام أو يذهب إليه لزمه اتيانه في حج أو عمرة وعن أبي حنيفة لا يلزمه شيء لأن مجرد اتيانه ليس بقربة ولا طاعة .
ولنا أنه علق نذره بوصول البيت فلزمه كما لو قال : لله علي المشي إلى الكعبة إذا ثبت هذا فهو مخير في المشي والركوب وكذلك إذا نذر أن يحج البيت أو يزوره لأن الحج يحصل بكل واحد من الأمرين فلم يتعين أحدهما وإن قال : لله علي أن آتي البيت الحرام غير حاج ولا معتمر لزمه الحج والعمرة وسقط شرطه وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن قوله لله علي أن آتي البيت يقتضي حجا أو عمرة وشرط سقوط ذلك يناقض نذره فسقط حكمه .
فصل : إذا نذر المشي إلى البلد الحرام أو بقعة منه كالصفا والمروة وأبي قبيس أو موضع في الحرم لزمه الحج أو عمرة نص عليه أحمد وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يلزمه إلا أن ينذر المشي إلى الكعبة أو إلى مكة وقال أبو يوسف ومحمد إن نذر المشي إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام كقولنا وفي باقي الصور كقول أبي حنيفة .
ولنا أنه نذر المشي إلي موضع من الحرم أشبه النذر إلى مكة فأما إن نذر المشي إلى غير الحرم كعرفة ومواقيت الإحرام وغير ذلك لم يلزمه ذلك ويكون كنذر المباح وكذلك إن نذر اتيان مسجد سوى المساجد الثلاثة لم يلزمه اتيانه وإن نذر الصلاة فيه لزمه الصلاة دون المشي ففي أي موضع صلى أجزأه لأن الصلاة لا تخص مكانا دون مكان فلزمته الصلاة دون الموضع ولا نعلم في هذا خلافا إلا عن الليث فإنه قال لو نذر صلاة أو صياما بموضع لزمه فعله في ذلك الموضع ومن نذر المشي إلى مسجد مشى إليه .
قال الطحاوي ولم يوافقه على ذلك أحد من الفقهاء وذلك لأن النبي A قال : [ لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى ] متفق عليه ولو لزمه المشي إلى مسجد بعيد لشد الرحل إليه ولأن العبادة لا تختص بمكان دون مكان فلا يكون فعلها فيما نذر فعلها فيه قربة تلزمه بنذره وفارق ما لو نذر العبادة في يوم بعينه لزمه فعلها فيه لأن الله تعالى عين لعبادته زمنا معينا ولم يعين لها مكانا وموضعا والنذور مردودة إلى أصولها في لاشرع فتعينت بالزمان دون المكان .
فصل : وإن نذر المشي إلى بيت الله تعالى ولم ينوبه شيئا ولم يعينه انصرف إلى بيت الله الحرام لأنه المخصوص بالقصد دون غيره وإطلاق بيت الله ينصرف إليه دون غيره في العرف فينصرف إليه إطلاق النذر .
فصل : وإن نذر المشي إلى مسجد النبي A الأقصى لزمه ذلك وبهذا قال مالك و الأوزاعي و أبو عبيد و ابن المنذر و هو أحد قولي الشافعي وقال في الآخر : لا يبين لي وجوب المشي إليهما لأن البر بإتيان بيت الله فرض والبر بإتيان هذين نفل .
ولنا قول النبي A : [ لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى ] ولأنه أحد المساجد الثلاثة فيلزم الشيء إليه بالنذر كالمسجد الحرام ولا يلزم ما ذكره لأن كل قربة تجب بالنذر وإن لم يكن لها أصل في الوجوب كعيادة المريض وشهود الجنائز ولزمه بهذا النذر أن يصلي في الموضع الذي أتاه ركعتين لأن القصد بالنذر القربة والطاعة وإنما تحصيل ذلك بالصلاة فتضمن ذلك نذره كما يلزم ناذر المشي إلى بيت الله الحرام أحد النكسين ونذر الصلاة في أحد المسجدين كنذر المشي إليه كما أن نذر أحد النكسين في المسجد الحرام كنذر المشي إليه .
وقال أبو حنيفة لا تتعين عليه الصلاة في موضع بالنذر سواء كان في المسجد الحرام أو غيره لأن ما لا أصل له في الشرع لا يجب بالنذر بدليل نذر الصلاة في سائر المساجد .
[ ولنا ما روي أن عمر قال : يا رسول الله إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال رسول الله A : أوف بنذرك ] متفق عليه ولأن الصلاة فيها أفضل من غيرها بدليل قول النبي A : [ صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ] متفق عليه وروي عنه A : [ صلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة ] وإذا كان فضيلة وقربة لزم بالنذر كما لو نذر طول القراءة وما ذكروه يبطل بالعمرة فإنها تلزم بنذرها وهي غير واجبة عندهم .
فصل : وإذا نذر الصلاة في المسجد الحرام لم تجزئه الصلاة في غيره لأنه أفضل المساجد وخيرها وأكثرها ثوابا للمصلي فيها وإن نذر الصلاة في المسجد الأقصى أجزأته الصلاة في المسجد الحرام لما [ روى جابر أن رجلا يوم الفتح فقال : يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك أن أصلي في بيت المقدس ركعتين قال : صل ههنا ثم أعاد عليه فقال : صل ههنا ثم أعاد عليه قال : صل ههنا ثم أعاد فقال شأنك ] رواه أبو داود ورواه الإمام أحمد ولفظه : [ والذي نفسي بيده لو صليت ههنا لأجزأ عنك كل صلاة في بيت المقدس ] وإن نذر اتيان المسجد الأقصى والصلاة فيه أجزأته الصلاة فيه وفي مسجد المدينة لأنه أفضل وإن نذر ذلك في مسجد المدينة لم يجزئه فعله في المسجد الأقصى لأنه مفضول وقد سبق هذا في باب الإعتكاف .
فصل : وإن أفسد الحج المنذور ماشيا وجب القضاء ماشيا لأن القضاء يكون على صفة الأداء وكذلك إن فاته الحج لكن إن فاته الحج سقط توابع الوقوف من المبيت بمزدلفة ومنى والرمي وتحلل بعمرة ويمشي بالحج الفاسد مشايا حتى يتحلل منه