مسائل وفصول في أنواع من الحلف مختلفة وأحكامها .
مسألة : قال : ولو حلف أن لا يأكل طعاما اشتراه زيد فأكل طعاما اشتراه زيد وبكر حنث إلا ان يكون أراد أن لا ينفرد أحدهما بالشراء .
وبهذا قال أبو حنيفة و مالك وقال الشافعي لا يحنث وذكره أبو الخطاب احتمالا لأن كل جزء لم ينفرد أحدهما بشرائه فلم يحنث به كما لو حلف لا يلبس ثوبا اشتراه زيد فلبس ثوبا اشتراه زيد هو وغيره .
ولنا أن زيدا مشتر لنصفه وهو طعام وقد أكله فيجب أن يحنث كما لو اشتراه زيد ثم خلطه بما اشتراه عمرو فأكل الجميع وأما الثوب فلا نسلم وإن سلمناه فالفرق بينهما إن نصف الثوب ليس بثوب ونصف الطعام طعام وقد أكله بعد إن اشتراه زيد وإن اشترى زيد نصفه مشاعا أو اشترى نصفه ثم اشترى الآخر باقيه فأكل منه حنث والخلاف فيه على ما تقدم ولو اشترى زيد نصفه معينا ثم خلطه بالنصف الآخر فأكل الجيمع أو أكثر من النصف حنث بغير خلاف لأنه أكل مما اشتراه زيد يقينا وإن أكل نصفه أو أقل من نصفه ففيه وجهان أحدهما : يحنث بغير خلاف لأنه يستحيل في العادة انفراد ما اشتراه زيد من غيره فيكون الحنث ظاهرا ظهورا كثيرا .
والثاني : لا يحنث لأن الأصل عدم الحنث ولم يتيقن أكله مما اشتراه زيد وكل موضع لا يحنث فحكمه حكم من حلف لا يأكل تمرة فوقعت في تمر فأكل منه واحدة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى وإن أكل من طعام اشتراه زيد ثم باعه أو اشتراه لغيره حنث ويحتمل أن لا يحنث .
فصل : وإن حلف لا يلبس من غزل فلانة فلبس ثوبا من غزلها وغزل عيرها حنث وبه قال الشافعي وإن حلف لا يلبس ثوبا من غزلها وغزل غيرها ففيه روايتان إحداهما : يحنث كالتي قبلها والثانية : لا يحنث وهو قول أبي حنيفة و الشافعي لأنه لم يلبس ثوبا كاملا من غزلها وكذلك إن حلف لا يلبس ثوبا نسجه زيد ولا يأكل من قدر طبخها ولا يدخل دارا اشتراها ولا يلبس ثوبا خاطه زيد فلبس ثوبا نسجه هو وغيره أو خاطاه أو أكل من قدر طبخاها أو دخل دارا اشترياها ففي هذا كله من الخلاف والقول مثلما في المسألة الأولى وإن حلف أن لا يلبس ما خاطه زيد حنث بلبس ثوب خاطاه جميعا لأنه ليس مما خاطه زيد بخلاف ما إذا قال ثوبا خاطه زيد وإن حلف أن لا يدخل دارا لزيد فدخل دارا له ولغيره خرج فيه وجهان والخلاف فيها على ما مضى .
مسألة : قال : ولو حلف لا يزورهما أو لا يكلمهما فزار أو كلم أحدهما حنث إلا أن يكون أراد ألا يجتمع فعله بهما .
يمكن أن تكون هذه المسألة مبنية على من حلف أن لا يفعل شيئا ففعل بعضه فإن هذا حالف على كلام شخصين وزيارتهما فتكليمه احدهما وزيارته فعل لبعض ما حلف عليه وقد مضى الكلام في هذا ويمكن أن يقال تقدير يمينه لا كلمت هذا ولا كلمت هذا لأن المعطوف بقدر له بعد حرف العطف فعل وعامل مثل العامل الذي قبل المعطوف عليه فيصير كقوله سبحانه : { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم } أي وحرمت عليكم بناتكم فيصير كل واحد منهما محلوفا عليه منفردا فيحنث به فإن قصد ألا يجتمع فعله بهما لم يحنث إلا بذلك لأنه قصد بيمينه ما يحتمله فانصرف إليه وإن قصد ترك كلام كل واحد منهما منفردا حنث بفعله لأنه عقد يمينه على ترك ذلك وإن قال والله لاكلمت زيدا ولا عمرا حنث بكلام كل واحد منهما بغير إشكال فإن هذا يقتضي ترك كلام كل واحد منهما منفردا قال الله تعالى : { ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا } أي لا يملكون شيئا من ذلك .
فصل : فإن قال أنت طالق إن كلمت زيدا وعمرا أو عبدي حران إن كلمت زيدا وعمرا لم يقع الطلاق ولا العتق إلا بتكليمها لأنه جعل تكليمهما معا شرطا لوقوع ذلك ولا يثبت المشروط إلا بوجود الشرط جميعه وكذلك لو قال لامرأتيه ان حضتما فأنتما طالقتان لم يقع الطلاق على واحدة منهما إلا بحيضهما جميعا وتفارق اليمين بالله تعالى فإن مقتضاها المنع من فعل المحلوف عليه فتحصل المخالفة بفعل البعض وقد جمع بعض أصحابنا بينهما في الحنث بفعل البعض لكون المقصود من الحلف كله على ترك شيء المنع من فعله فيستويان اما إذا قال إذا حضتما فأنتما طالقتان فليس ذلك بيمين لأنه لا يقصد بهذا منع من شيء ولا حث عليه إنما هو شرط مجرد وليس فيه معنى اليمين .
فصل : ومن حلف على فعل شيء فقال والله لا آكل خبزا ولحما ولا زبدا وتمرا ولا أدخل هاتين الدارين ولا أعصي الله في هذني البلدين ولا أمسك هاتين المرأتين ففعل بعض ما حلف عليه مثل أن أكل أحدهما أو دخل إحدى الدارين أو عصى الله في أحد البلدين أو أمسك إحدى المرأتين فهل يحنث ؟ يخرج على روايتين وإن قصد بيمنه أن لايجمع بينهما أو المنع من كل واحد منهما فيمينه على ما نواه وإن قال والله لا آكل سمكا وأشرب لبنا بالفتح وهو من أهل العربية لم يحنث إلا بالجمع بينهما لأن الواو ههنا بمعنى مع ولذلك اقتضت الفتح وإن عطف احدهما على الآخر بتكرار ـ لا ـ اقتضى المنع من كل واحد منهما منفردا وحنث بفعله .
مسألة : قال : ولو حلف أن لا يلبس ثوبا فاشترى به أو بثمنه ثوبا فلبسه حنث إذا كان ممن امتن عليه بذلك الثوب وكذلك ان انتفع بثمنه .
هذه المسألة فرع أصل تقدم ذكره في أول الباب وهو أن الأسباب معتبرة في الأيمان فيتعدى الحكم بتعديها فإذا امتن عليه بثوب فحلف أن لا يلبسه لتنقطع المنة به حنث بالانتفاع به في غير اللبس من أخذ ثمنه لأنه نوع انتفاع به يلحق المنة به وإن لم يقصد قطع المنة ولا كان سبب يمينه يقتضي ذلك لم يحنث إلا بما تناولته يمينه وهو لبسه خاصة فلو ابدله بثوب غيره ثم لبسه أو انتفع به في غير اللبس أو باعه وأخذ ثمنه لم يحنث لعدم تناول اليمين له لفظا ونية وسببا .
فصل : وإن فعل شيئا عليه فيه لها منة سوى الانتفاع بالثوب وبعوضه مثل أن سكن دارها أو أكل طعامها أو لبس ثوبا لها غير المحلوف عليه لم يحنث لأن المحلوف عليه الثوب فتعلقت يمينه به أو بما حصل به ولم يتعد إلى غيره لاختصاص اليمين والسبب به .
فصل : وإن امتنت عليه امرأته بثوب فحلف أن لا يلبسه قطعا لمنتها فاشتراه غيره ثم كساه إياه أو اشتراه الحالف ولبسه على وجه لا منة لها فيه فهل يحنث ؟ على وجهين .
أحدهما : يحنث لمخالفته ليمينه ولأن لفظ الشارع إذا كان أعم من السبب وجب الأخذ بعموم اللفظ دون خصوص السبب كذا في اليمين ولأنه لو خاصمته امرأة له فقال نسائي طوالق طلقن كلهن وإن كان سبب الطلاق واحدة كذا ههنا والثاني : لا يحنث لأن السبب اقتضى تقييد لفظه بما وجد فيه السبب فصار كالمنوي أو كما لو خصصه بقرينة لفظية .
مسألة : قال : ولو حلف أن لا يأوي مع زوجته في دار فأوى معها في غيرها حنث إذا كان أراد بيمنه جفاء زوجته ولم يكن للدار سبب هيج يمينه .
وهذه أيضا من فروع اعتبار النية وذلك أنه متى قصد جفاءك بترك الأوي معها ولم يكن للدار أثر في يمينه كان ذكر الدار كعدمه وكأنه حلف ألا يأوي معها فإذا أوى معها في غيرها فقد أوى معها فحنث لمخالفته ما حلف على تركه وصار هذا بمنزلة [ سؤال الأعرابي رسول الله A واقعت أهلي في نهار رمضان فقال : أعتق رقبة ] لما كان ذكر أهله لا أثر له في إيجاب الكفارة حذفناه من السبب وصار السبب الوقاع سواء كان للأهل أو لغيرهم وإن كان للدار أثر في يمينه مثل إن كان يكره سكناها أو خوصم من أجلها أو أمتن عليه بها لم يحنث إذا أوى معها في غيرها لأنه قصد بيمينه الجفاء في الدار بعينها فلم يخالف ما حلف عليه وإن عدم السبب والنية لم يحنث إلا بفعل ما تناوله لفظه وهو الأوي معها في تلك الدار بعينها لأنه يجب اتباع لفظه إذا لم تكن نية ولا سبب يصرف اللفظ عن مقتضاه أو يقتضي زيادة عليه ومعنى الأوي الدخول فمتى حلف لا يأوي معها فدخل معها الدار حنث قليلا كان لبثهما أو كثيرا قال الله تعالى مخبرا عن فتى موسى : { إذ أوينا إلى الصخرة } قال أحمد ما كان ذلك إلا ساعة أو ماشاء الله يقال أويت أنا وآويت غيري قال الله تعالى : { إذ أوى الفتية إلى الكهف } وقال الله تعالى : { وآويناهما إلى ربوة } .
فصل : وإن برها بهدية أو غيرها أو اجتمع معها فيما ليس بدار ولا بيت لم يحنث سواء كانت الدار سببا في يمينه أو لم تكن لأنه قصد جفاءها بهذا النوع فلم يحنث بغيره وإن حلف لا يأوي معها في دار لسبب فزال السبب الموجب ليمينه مثل إن كان السبب امتنانها بها عليه فملك الدار أو صارت لغيرها فأوى معها فيها فهل يجنث ؟ على وجهين تقدم ذكرهما وتعليلهما .
فصل : فإن حلف أن لا يدخل عليها فيما ليس ببيت فحكمه حكم المسألة التي قبلها إذا قصد جفاءها ولم يكن البيت سببا هيج يمينه حنث وإلا فلا فإن دخل على جماعة هي فيهم يقصد الدخول عليها معهم حنث وكذلك إن لم يقصد شيئا وإن استثناها بقلبه ففيه وجهان : .
إحداهما : لا يحنث كما لو حلف ألا يسلم عليها فسلم على جماعة هي فيهم يقصد بقلبه السلام على غيرها فإنه لا يحنث والثاني : يحنث لأن الدخول فعل لا يتميز فلا يصح تخصيصه بالقصد وقد وجد في حق الكل على السواء وهي فيهم فحنث به كما لو لم يقصد استثناءها وفارق السلام فإنه قول يصح تخصيصه بالقصد ولهذا يصح أن يقال السلام عليكم إلا فلانا ولا يصح أن يقال دخلت عليكم إلا فلانا ولأن السلام قول يتناول ما يتناوله الضمير في عليكم والضمير عام يصح أن يراد به الخاص فصح أن يراد به من سواها والفعل لا يتأتى هذا فيه وإن دخل بيتا لا يعلم أنها فيه فوجدها فيه فهو كالدخول عليها ناسيا فإن قلنا لا يحنث بذلك فخرج حين علم بها لم يحنث وكذلك إن حلف لا يدخل عليها فدخلت هي عليه فخرج في الحال لم يحنث وإن أقام فهل يحنث ؟ على وجهين بناء على من حلف لا يدخل دارا هو فيها فاستدام المقام بها فهل يحنث ؟ على وجهين .
مسألة : قال : ولو حلف أن يضرب عبده في غد فمات الحالف من يومه فلا حنث عليه وإن مات العبد حنث .
أما إذا مات الحالف من يومه فلا حنث عليه لأن الحنث إنما يحصل بفوات المحلوف عليه في وقته وهو الغد والحالف قد خرج على أن يكون من أهل التكليف قبل الغد فلا يمكن حثه وكذلك إن جن الحالف في يومه فلم يفق إلا بعد خروج الغد لأنه خرج عن كونه من أهل التكليف وإن هرب العبد أو مرض العبد أو الحالف أو نحو ذلك فلم يقدر على ضربه في الغد حنث وإن لم يمت الحالف ففيه مسائل .
أحدها : أن يضرب العبد في غد أي وقت كان منه فإنه يبر في يمينه بلا خلاف .
الثانية : أمكنه ضربه في غد فلم يضربه حتى مضى الغد وهما في الحياة حنث أيضا بلا خلاف .
الثالثة : مات العبد من يومه فإنه يحنث وهذا أحد قولي الشافعي ويتخرج إلا يحنث وهو قول أبي حنيفة و مالك والقول الثاني : لـ لشافعي لأنه فقد ضربه بغير اختياره فلم يحنث كالمكره والناسي .
ولنا أنه لم يفعل ما حلف عليه في وقته من غير إكراه ولا نسيان وهو من أهل الحنث فحنث كما لو أتلفه باختياره وكما لو حلف ليحجن العام فلم يقدر على الحج لمرض أو عدم النفقة وفارق الإكراه والنسيان فإن الامتناع لمعنى في الحالف وههنا الامتناع لمعنى في المحل فأشبه ما لو ترك ضربه لصعوبته أو ترك الحالف الحج لصعوبة الطريق وبعدها عليه فأما إن كان تلف المحلوف عليه بفعله واختياره حنث وجها واحدا لأنه فوت الفعل على نفسه قال القاضي ويحنث الحالف ساعة موته لأن يمنيه انعقدت من حين حلفه وقد تعذر عليه الفعل في الحال كما لو لم يؤقت ويتخرج إلا يحنث قبل الغد لأن الحنث مخالفة ما عقد يمينه عليه فلا تحصل المخالفة إلا بترك الفعل في وقته .
الرابعة : مات العبد في غد قبل التمكن من ضربه فهو كما لو مات في يومه الخامسة : مات العبد في غد بعد التمكن من ضربه قبل ضربه فإنه يحنث وجها واحدا وقال بعض أصحاب الشافعي يحنث قولا واحدا وقال بعضهم فيه قولان .
ولنا أنه يمكنه ضربه في وقته فلم يضربه فحنث كما لو مضى الغد قبل ضربه .
السادسة : مات الحالف في غد بعد التمكن من يضربه فلم يضره حنث وجها واحدا لما ذكرنا .
السابعة : ضربه في يومه فإنه لا يبر وهذا قول أصحاب الشافعي وقال القاضي وأصحاب أبي حنيفة يبر لأن يمينه للحنث على ضربه فإذا ضربه اليوم فقد فعل المحلوف عليه وزيادة فأشبه ما لو حلف ليقضينه حقه في غد فقضاه اليوم .
ولنا أنه لم يفعل المحلوف عليه في وقته فلم يبر كما لو حلف ليصومن يوم الجمعة فصام يوم الخميس وفارق قضاء الدين فإن المقصود تعجيله لا غير وفي قضاء اليوم زيادة في التعجيل فلا يحنث فيها لأنه علم من قصده ارادة أن لا يتجاوز غدا بالقضاء فصار كالملفوظ به إذ كان مبني الأيمان على النية ولا يصح قياس ما ليس بمثله عليه وسائر المحلوفات لا تعلم منها إرادة التعجيل عن الوقت الذي وقته لها فامتنع الإلحاق وتعين التمسك باللفظ .
الثامنة : ضربه بعد موته لم يبر لأن اليمين تنصرف إلى ضربه حيا يتألم بالضرب وقد زال هذا بالموت .
التاسعة : ضربه ضربا لا يؤلمه لم يبر لما ذكرناه .
العاشرة : خنقه أو نتف شعره أو عصر ساقه بحيث يؤلمه فإنه يبر لأنه يسمى ضربا لما تقدم ذكرنا له .
الحادية عشر : جن العبد فضربه فإنه يبر حي يتألم بالضرب وإن لم يضربه حنث وإن حلف لا يضربه في غد ففيه نحو من هذه المسائل ومتى فات ضربه بموته أو غيره لم يحنث لأنه لم يضربه .
فصل : وإن قال والله لأشربن ماء هذا الكوز غدا فاندفق اليوم أو لآكلن هذا الخبز غدا فتلف فهو على نحو مما ذكرنا في ا لعبد قال صالح سألت أبي عن الرجل يحلف أن يشرب هذا الماء فانصب قال يحنث وكذلك إن حلف أن يأكل هذا الرغيف فأكله كلب قال يحنث لأن هذا لا يقدر عليه .
مسألة : قال : ومن حلف ألا يكلمه حينا فكلمه قبل الستة أشهر حنث .
وجملة ذلك أنه إذا حلف لا يكلمه حينا فإن قيد ذلك بلفظه أو بنيته بزمن تقيد به وإن أطلقه انصرف إلى ستة أشهر روي ذلك عن ابن عباس وهو قول أصحاب الرأي وقال مجاهد و الحكم و مالك وهو سنة لقول الله تعالى : { تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها } أي كل عام وقال الشافعي و أبو ثور لا قدر له ويبر بأدنى زمن لأن الحين اسم مبهم يقع على القليل والكثير قال الله تعالى : { ولتعلمن نبأه بعد حين } قيل أراد يوم القيامة وقال : { هل أتى على الإنسان حين من الدهر ؟ } وقال : { فذرهم في غمرتهم حتى حين } وقال { حين تمسون وحين تصبحون } ويقال جئت منذ حين وإن كان أتاه من ساعة .
ولنا أن الحين المطلق في كلام الله أقله ستة أشهر قال عكرمة وسعيد بن جبير و أبو عبيد في قوله تعالى : { تؤتي أكلها كل حين } إنه ستة أشهر فيحمل مطلق كلام الآدمي على مطلق كلام الله تعالى ولأنه قول ابن عباس ولا نعلم له مخالفا في الصحابة وما استشهدوا به من المطلق في كلام الله تعالى فما ذكرناه أقله فيحمل عليه لأنه اليقين .
فصل : وإن حلف لا يكلمه حقبا فذلك ثمانون عاما وقال مالك أربعون عاما لأن ذلك يروى عن ابن عباس وقال القاضي وأصحاب الشافعي : هو أدنى زمان لأنه لم ينقل فيه عن أهل اللغة تقدير .
ولنا ما روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير قوله تعالى : { لابثين فيها أحقابا } الحقب ثمانون سنة وما ذكره القاضي وأصحاب الشافعي لا يصح لأن قول ابن عباس حجة ولأن ما ذكروه يفضي إلى حمل كلام الله تعالى : { لابثين فيها أحقابا } وقول موسى : { أو أمضي حقبا } إلى اللكنة لأنه أخرج ذلك مخرج التكثير فإذا صار معنى ذلك لابثين فيها ساعات ولحظات أو أمضي لحظات أو ساعات صار مقتضى ذلك التقليل وهو ضد ما أراد الله تعالى بكلامه وضد المفهوم منه ولم يذكره أحد من المفسرين فيما نعلم فلا يجوز تفسير الحقب به .
فصل : فإذا حلف لا يكلمه زمنا أو وقتا أو دهرا أو عمرا أو مليا أو طويلا أو بعيدا أو قريبا بر بالقليل والكثير في قول أبي الخطاب ومذهب الشافعي لأن هذه الأسماء لا حد لها في اللغة وتقع على القليل والكثير فوجب حمله على أقل ما يتناوله اسمه وقد يكون القرب بعيدا بالنسبة إلى ما هو أقرب منه وقريبا بالنسبة إلى ما هو أبعد منه ولا يجوز التحديد بالتحكم إنما يصار إليه بالتوقيف ولا توقيف ههنا فيجب حمله على اليقين وهو أقل ما يتناوله الإسم .
وقال ابن أبي موسى الزمان ثلاثة أشهر وقال طلحة العاقولي الحين والزمان والعمر واحد لأنهم لا يفرقون في العادة بينها والناس يقصدون بذلك التبعيد فلو حمل على القليل حمل على خلاف قصد الحالف والدهر يحتمل أنه كالحين أيضا لهذا المعنى وقال في بعيد ومليء وطويل هو أكثر من شهر وهذا قول أبي حنيفة لأن ذلك ضد القليل ولا يجوز حمله على ضده ولو حمل العمر على أربعين عاما كان حسنا لقول الله تعالى مخبرا عن نبيه عليه السلام : { فقد لبثت فيكم عمرا من قبله } وكان أربعين سنة فيجب حمل الكلام عليه ولأن العمر في الغالب لا يكون إلا مدة طويلة فلا يحمل على خلاف ذلك .
فصل : فإن حلف لا يكلمه الدهر أو الأبد أو الزمان فذلك على الأبد لأن ذلك بالألف واللام وهي للاستغراق فتقتضي الدهر كله .
فصل : فإن حلف على أيام فهي ثلاثة لأنها أقل الجمع قال الله تعالى : { واذكروا الله في أيام معدودات } وفي أيام التشريق وإن حلف على أشهر فهي ثلاثة لأنها أقل الجمع وإن حلف على شهور فاختار أبو الخطاب أنها ثلاثة لذلك وقال غيره يتناول اثني عشر شهرا لقول الله تعالى : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا } ولأن الشهور جمع الكثرة وأقله عشرة فلا يحمل على ما يحمل عليه جمع القلة .
مسألة : قال : وإذا حلف أن يقضيه حقه في وقت فقضاه قبله لم يحنث إذا كان أراد بيمينه ألا يجاوز ذلك الوقت .
وبهذا قال أبو حنيفة و محمد و أبو ثور وقال الشافعي يحنث إذا قضاه قبله لأنه ترك فعل ما حلف عليه مختارا فحنث كما لو قضاه بعده .
ولنا أن مقتضى هذه اليمين تعجيل القضاء قبل خروج الغد فإذا قضاه قبله فقد قضى قبل خروج الغد وزاد خيرا ولأن مبني الأيمان على النية ونية هذا بيمينه ترك تعجيل القضاء قبل خروج الغد فتعلقت يمينه بهذا المعنى كما لو صرح به فإن لم تكن له نية رجع إلى سبب اليمين فإن كانت تقتضي التعجيل فهو كما لو نواه لأن السبب يدل على النية وإن لم ينو ذلك ولا كان السبب يقتضيه فظاهر كلام الخرقي أنه لا يبر إلا بقضائه في الغد فلا يبر بقضائه قبله وقال القاضي يبر على كل حال لأن اليمين للحث على الفعل فمتى عجله فقد أتى بالمقصود فيه كما لو نوى ذلك والأول أصح إن شاء الله لأنه ترك فعل ما تناولته يمينه لفظا ولم تصرفها عنه نية ولا سبب فتصرف كما لو حلف ليصومن شعبان فصام رجبا ويحتمل ما قاله القاضي في القضاء خاصة لأن عرف هذه اليمين في القضاء التعجيل لتصرف اليمين المطلقة إليه .
فصل : فأما غير قضاء الحق كأكل شيء أو شربه أو بيع شيء أو شرائه أو ضرب عبد ونحوه فمتى عين وقته ولم ينو ما يقتضي تعجيله ولا كان سبب يمينه يقتضيه لم يبر إلا بفعله في وقته وذكر القاضي أنه يبر بتعجيله عن وقته وحكي ذلك عن أصحاب أبي حنيفة .
ولنا أنه لم يفعل المحلوف عليه في وقته من غير نية تصرف يمينه ولا سبب فيحنث كالصيام ولو فعل بعض المحلوف عليه قبل وقته وبعضه في وقته لم يبر لأن اليمين في الإثبات لا يبر فيها إلا بفعل جميع المحلوف عليه فترك بعضه في وقته كترك جميعه إلا أن ينوي أن لا يجاوز ذلك الوقت أو يقتضي ذلك سببها .
فصل : ومن حلف لا يبيع ثوبه بعشرة فباعه بها أو بأقل منها حنث وإن باعه بأكثر منها لم يحنث وقال الشافعي لا يحنث إذ باعه بأقل لأنه لم يتناوله يمينه .
ولنا أن العرف في هذا ألا يبيعه بها ولا بأقل منها بدليل أنه لو وكل في بيعه انسانا وأمره أن لا يبيعه بعشرة لم يكن له بيعه بأقل منها ولأن هذا تنبيه على امتناعه من بيعه بما دون العشرة والحكم يثبت بالبينة كثبوته باللفظ فإن حلف لا اشتريته بعشرة فاشتراه بأقل لم يحنث وإن اشتراه بها أو بأكثر منها حنث لما ذكرنا ومقتضى مذهب الشافعي ألا يحنث إذا اشتراه بأكثر منها لأن يمينه لم تتناوله لفظا .
ولنا أنها تناولته عرفا وتنبيها فكان حانثا كما لو حلف : ما له علي حبة فإنه يحنث إذا كان له عليه أكثر منها ويبرأ بيمينه مما زاد عليها كبراءته منها قيل لـ أحمد رجل إن حلف لا ينقص هذا الثوب عن كذا قال قد أخذته ولكن هب لي كذا ؟ قال هذا حيلة قيل له فإن قال البائع بعتك بكذا وأهب لفلان شيئا آخر ؟ قال هذا كله ليس بشيء فكرهه .
فصل : فإن حلف ليقضينه حقه في غد فمات الحالف من يومه لم يحنث لما ذكرنا فيما إذا حلف ليضربن عبده في غد فمات من يومه وإن مات المستحق فحكي عن القاضي أنه يحنث لأنه قد تعذر قضاؤه فأشبه ما لو حلف ليضربن عبده غدا فمات العبد قبل اليوم .
وقال أبو الخطاب إن قضى ورثته لم يحنث لأن قضاء ورثته يقوم مقام قضائه في إبراء ذمته فكذلك في البر في يمينه بخلاف ما إذا مات العبد فإنه لا يقوم ضرب غيره مقام ضربه .
وقال أصحاب الرأي و أبو ثور تنحل اليمين بموت المستحق ولا يحنث سواء قضى ورثته أو لم يقضهم لأنه تعذر عليه فعل ما حلف عليه بغير اختياره أشبه المكره وقد سبق الكلام على هذا في مسألة من حلف ليضربن عبده غدا فمات العبد اليوم وإن أبرأه المستحق من الحق فهل يحنث ؟ على وجهين بناء على المكره هل يحنث ؟ على روايتين وإن قضاه عوضا عن حقه لم يحنث عن ابن حامد لأنه قد قضى حقه وقال القاضي يحنث لأنه لم يقضه الحق الذي عليه بعينه .
فصل : فإن حلف ليقضينه عند رأس الهلال أو مع رأسه أو إلى رأس الهلال أو إلى استهلاله أو عند رأس الشهر أو مع رأسه فقضاه عند غروب الشمس من ليلة الشهر بر في يمينه وإن أخر ذلك مع إمكانه حنث وإن شرع في عده أو وكيله أو وزنه فتأخر القضاء لكثرته لم يحنث لأنه لم يترك القضاء وكذلك إذا حلف ليأكلن هذا الطعام في هذا الوقت فشرع في أكله فيه فتأخر الفراغ لكثرته لم يحنث لأن أكله كله غير ممكن في هذا الوقت اليسير فكانت يمينه على الشروع فيه في ذلك الوقت أو على مقارنة فعله لذلك الوقت للعلم بالعجز عن غير ذلك ومذهب الشافعي في هذا كله كما ذكرنا .
مسألة : قال : ولو حلف ألا يشرب ماء هذا الإناء فشرب بعضه حنث إلا أن يكون أراد أن لا يشربه كله .
وجملة ذلك أنه إذا حلف ليفعلن شيئا لم يبر إلا بفعل جميعه وإن حلف ألا يفعله وأطلق ففعل بعضه ففيه روايتان تقدم ذكرهما وإن نوى فعل جميعه أو كان في يمينه ما يدل عليه لم يحنث إلا بفعل جميعه وإن نوى فعل البعض أو كان في يمينه ما يدل عليه حنث بفعل البعض رواية واحدة فإن حلف لا يشرب ماء هذا الإناء فشرب بعضه فهل يحنث بذلك ؟ فيه روايتان .
وإن حلف لا يشرب ماء دجلة أو ماء هذا النهر حنث بشرب أدنى شيء منه لأن شرب جميعه ممتنع بغير يمينه فلا حاجة إلى توكيد المنع بيمينه فتصرف يمينه إلى منع نفسه مما يمكن فعله وهو شرب البعض كما لو حلف لا شربت الماء وبهذا قال أبو حنيفة .
وقال أصحاب الشافعي إن حلف على الجنس كالناس والماء والخبز والتمر ونحوه حنث بفعل البعض وإن تناولت قمينه الجميع كالمسلمين والمشركين والمساكين لم يحنث بفعل البعض وإن تناولت اسم جنس يضاف كماء النهر وماء دجلة وجهان ولنا أنه حلف على ما لا يمكنه فعل جميعه فتناولت يمينه بعضه منفردا كاسم الجنس .
وإن حلف لا شربت من الفرات فشرب من مائه حنث سواء كرع فيه أو أغترف منه ثم شرب وبهذا قال الشافعي و أبو يوسف و محمد و قال أبو حنيفة لا يحنث حتى يكرع فيه لأن حقيقة ذلك الكرع فلم يحنث بغيره كما لو حلف لا شربت من هذا الإناء فصب منه في غيره وشرب .
ولنا أن معنى يمينه أن لا يشرب من ماء الفرات لأن الشرب يكون من مائها ومنها في العرف فحملت اليمين عليه كما لو حلف لا شربت من هذه البئر ولا أكلت من هذه الشجرة ولا شربت من هذه الشاة ويفارق الكوز فان الشرب في العرف منه لأنه آلة للشرب بخلاف النهر وما ذكروه يبطل بالبئر والشاة والشجرة وقد سلموا أنه لو استقى من البئر أو احتلب لبن الشاة أو التقط من الشجرة وشرب وأكل حنث فكذا في مسألتنا .
فصل : وإن حلف لا يشرب من ماء الفرات فشرب من نهر يأخذ منه حنث لأنه من ماء الفرات ولو حلف لا يشرب من ماء الفرات فشرب من نهر يأخذ منه ففيه وجهان .
أحدهما : يحنث لأن معنى الشرب منه الشرب من مائه فحنث كما لو حلف لا شربت من مائه وهذا أحد الاحتمالين لأصحاب الشافعي .
والثاني : لا يحنث وهو قول ابي حنيفة وأصحابه إلا ابا يوسف فإن عنه رواية أنه يحنث وإنما قلنا أنه لا يحنث لأن ما أخذه النهر يضاف إلى ذلك النهر لا إلى الفرات ويزول بإضافته إليه عن إضافته إلى الفرات فلا يحنث به كغير الفرات .
مسألة : قال : ولو قال والله لا فارقتك حتى أستوفي حقي منك فهرب منه لم يحنث ولو قال لا افترقنا فهرب منه حنث .
أما إذا حلف لا فارقتك ففيه مسائل عشر : إحداها : أن يفارقه الحالف مختارا فيحنث بلا خلاف سواء أبرأه من الحق أو فارقه والحق عليه لأنه فارقه قبل استيفاء حقه منه والثانية : فارقه مكرها فينظر فإن حمل مكرها حتى حق بينهما لم يحنث وإن أكره بالضرب والتهديد لم يحنث وفي قول أبي بكر يحنث وفي الناسي تفصيل ذكرناه فيما مضى .
الثالثة : هرب منه الغريم بغير اختياره فلا يحنث وبهذا قال مالك و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر وأصحاب الرأي وروي عن أحمد أنه يحنث لأن معنى يمينه ألا تحصل بينهما فرقة وقد حصلت .
ولنا أنه حلف على فعل نفسه في الفرقة وما فعل ولا فعل بإختياره فلم يحنث كما لو حلف لا قمت فقام غيره .
الرابعة : أذن له الحالف في الفرقة ففارقه فمفهوم كلام الخرقي أنه يحنث وقال الشافعي لا يحنث قال القاضي وهو قول الخرقي لأنه لم يفعل الفرقة التي حلف أنه لا يفعلها .
ولنا أن معنى يمينه لألزمنك فإذا فارقه بإذنه فما لزمه ويفارق ما إذا هرب منه لأنه فر بغير اختياره وليس هذا قول الخرقي ولأن الخرقي قال فهرب منه فمفهومه أنه إذا فارقه بغير هرب أنه يحنث .
الخامسة : وفارقه من غير إذن ولا هرب على وجه يمكنه ملازمته والمشي معه وإمساكه فلم يفعل فالحكم فيها كالتي قبلها .
السادسة : قضاه قدر حقه ففارقه ظنا منه أنه وفاه فخرج رديئا أو بعضه فيخرج في الحنث روايتان بناء على الناسي ولـ لشافعي قولان كالروايتين أحدهما : يحنث وهو قول مالك لأنه فارقه قبل استيفاء حقه مختارا والثاني : لا يحنث وهو قول أبي ثور وأصحاب الرأي إذا وجدها زيوفا وإن وجد أكثرها نحاسا فإنه يحنث وإن وجدها مستحقة فأخذها صاحبها خرج أيضا على الراويتين في الناسي لأنه ظان أنه مستوف حقه فأشبه ما لو وجدها ردئية وقال أبو ثور وأصحاب الرأي لا يحنث وإن علم بالحال ففارقه حنث لأنه لم يوفه حقه .
السابعة : فلسه الحاكم ففارقه نظرت فإن ألزمه الحاكم فهو كالمكره وإن لم يلزمه مفارقته لكنه فارقه لعلمه بوجوب مفارقته حنث لأنه فارقه من غير إكراه فحنث كما لم حلف لا يصلي فوجبت عليه صلاة فصلاها .
الثامنة : أحاله الغريم بحقه ففارقه فإنه يحنث وبهذا قال الشافعي و أبو ثور وقال أبو حنيفة ومحمد : لا يحنث لأنه قد برىء إليه منه .
ولنا أنه ما استوفى حقه بدليل أنه لم يصل إليه شيء ولذلك يملك المطالبة به فحنث كما لو لم يحله فإن ظن أنه قد بر بذلك ففارقه أبو الخطاب يخرج على الروايتين والصحيح أنه يحنث لأن هذا جهل بحكم الشرع فيه فلا يسقط عنه الحنث كما لوجهل كون هذه اليمين موجبة للكفارة فأما إن كانت يمينه لا فارقتك ولي قبلك حق فأحاله به ففارقه لم يحنث لأنه لم يبق له قبله حق وإن أخذ به ضمينا أو كفيلا أو رهنا ففارقه حنث بلا إشكال لأنه يملك مطالبة الغريم .
التاسعة : قضاه عن حقه عوضا عنه ثم فارقه فقال ابن حامد لا يحنث وهو قول أبي حينفة لأنه قد قضاه حقه وبرىء إليه منه بالقضاء وقال القاضي يحنث لأن يمينه على نفس الحق وهذا بدله وإن كانت يمينه لا فارقتك حتى تبرأ من حقي أو لي قبلك حق لم يحنث وجها واحدا لأنه لم يبق له قبله حق وهذا مذهب الشافعي والأول أصح لأنه قد استوفى حقه .
العاشرة : وكل وكيلا يستوفي له حقه فإن فارقه قبل استيفاء الوكيل حنث لأنه فارقه قبل استيفاء حقه وإن استوفى الوكيل ثم فارقه لم يحنث لأن استيفاء وكيله استيفاء له يبرأ به غريمه ويصير في ضمان الموكل .
فصل : فأما إن قال لا فارقتني حتى استوفي حقي منك نظرت فإن فارقه المحلوف عليه مختارا حنث وإن أكره على فراقه لم يحنث وإن فارقه الحالف مختارا حنث إلا على ما ذكره القاضي في تأويل كلام الخرقي وهو مذهب الشافعي وسائر الفروع تأتي ههنا على نحو ما ذكرناه .
فصل : وإن كانت يمينه لا فترقنا فهرب منه المحلوف عليه حنث لأن يمينه تقتضي إلا تحصل بينهما فرقة بوجه وقد حصلت الفرقة بهربه وإن أكرها على الفرقة لم يحنث إلا على قول من لم ير الإكراه عذرا .
فصل : فإن حلف لا فارقتك حتى أوفيك حقك فابرأه الغريم منه فهل يحنث ؟ على وجهين بناء على المكره وإن كان الحق عينا فوهبها له الغريم فقبلها حنث لأنه ترك أيفاءها له بإختياره وإن قبضها منه ثم وهبها إياه لم يحنث وإن كانت يمينه لا فارقتك ولك قبلي حق لم يحنث إذا أبرأه أو وهب العين له .
فصل : والفرقة في هذا كله ما عده الناس فراقا في العادة وقد ذكرنا الفرقة في البيع وما نواه بيمينه مما يحتمله لفظه فهو على ما نواه والله أعلم .
مسألة : قال : ولو حلف على زوجته أن لا تخرج إلا بإذنه فذلك على كل مرة إلا أن يكون نوى مرة .
وجملته إن من قال لزوجته إن خرجت إلا بإذني أو بغير إذني فأنت طالق أو قال إن خرجت إلا أن آذن لك أو حتى آذن لك أو إلى آذن لك فالحكم في هذه الألفاظ الخمسة أنها متى خرجت بغير إذنه طلقت وانحلت يمينه لأن حرف أن لا يقتضي تكرارا فإذا حنث مرة انحلت كما لو قال أنت طالق إن شئت وإن خرجت بإذنه لم يحنث لأن الشرط ما وجد وليس في هذا اختلاف ولا تنحل اليمين فمتى خرجت بعد هذا بغير إذنه طلقت .
وقال الشافعي تنحل فلا يحنث بخروجها بعد ذلك لأن اليمين تعلقت بخروج واحد بحرف لا يقتضي التكرار وإذا وجد بغير إذن حنث وإن وجد بإذن بر لأن البر يتعلق بما يتعلق به الحنث .
وقال أبو حنيفة في قوله إن خرجت إلا بإذني أو بغير إذني كقولنا لأن الخروج بإذنه في هذين الموضعين مستثنى من يمينه فلم يدخل فيها ولم يتعلق به بر ولا حنث وإن قال ان خرجت إلا أن آذن لك أو حتى آذن لك أو إلى أن آذن لك متى أذن لها انحلت يمينه ولم يحنث بعد ذلك بخروجها بغير إذنه لأنه جعل الإذن فيها غاية ليمينه وجعل الطلاق معلقا على الخروج قبل إذنه فمتى أذن انتهت غاية يمينه وزال حكمها كما لو قال أن خرجت إلى أن تطلع الشمس أو إلا أن تطلع الشمس أو حتى تطلع الشمس فأنت طالق فخرجت بعد طلوعها ولأن حرف إلى وحتى للغاية لا للاستثناء .
ولنا أنه علق الطلاق على شرط وقد وجد فيقع الطلاق كما لو لم تخرج بإذنه وقولهم قد بر غير صحيح لوجهين أحدهما : أن المأذون فيه مستثنى من يمينه غير داخل فيها فكيف يبر ألا ترى أنه لو قال لها أن كلمت رجلا إلا أخاك أو غير أخيك فأنت طالق فكلمت أخاها ثم كلمت رجلا آخر فإنها تطلق ولا تنحل يمينه بتكليمها أخاها ؟ .
والثاني : أن المحلوف عليه خروج موصوف بصفة ولا تنحل اليمين بوجود ما لم توجد فيه الصفة ولا يحنث به فلا يتعلق بما عداه بر ولا حنث كما لو قال خرجت عريانه فأنت طالق أو أن خرجت راكبة فأنت طالق فخرجت مستترة ماشية لم يتعلق به بر ولا حنث ولأنه لو قال لها إن كلمت رجلا فاسقا أو من غير محارمك فأنت طالق لم يتعلق بتكليمها لغير من هو موصوف بتلك الصفة بر ولا حنث فكذلك في الأفعال وقولهم تعلقت اليمين بخروج واحد قلنا إلا أنه خروج موصوف بصفة فلا تنحل اليمين بوجود غيره ولا يحنث به .
وأما قول أصحاب أبي حنيفة أن الألفاظ الثلاثة ليست من ألفاظ الاستثناء قلنا قوله إلا أن آذن لك من ألفاظ الاستثناء واللفظتان الأخريان في معناه في إخراج المأذون ن يمينه فكان حكمهما كحكمه هذا الكلام فيما إذا أطلق فإن نوى تعليق الطلاق على خروج واحد تعلقت يمينه به وقبل قوله في الحكم لأنه فسر لفظه بما يحتمله إحتمالا غير بعيد وإن أذن لها مرة واحدة ونوى الإذن في كل مرة فهو على ما نوى وقد نقل عبد الله بن أحمد عن ابيه إذا حلف أن لا تخرج امرأته إلا بإذنه أذن لها مرة فهو أذن لكل مرة وتكون يمينه على ما نوى وإن قال كلما خرجت فهو بإذني أجزأه مرة واحدة وإن نوى بقوله إلى أن آذن لك أو حتى آذن لك والغاية وأن الخروج المحلوف عليه ما قبل الغاية دون ما بعدها قبل قوله وانحلت يمينه بالإذن لنيته فإن مبني الأيمان على النية .
فصل : وإن قال إن خرجت بغير إذني فأنت طالق فأذن لها ثم نهاها فخرجت طلقت لأنها خرجت بغير إذنه وكذلك إن قال إلا بإذني وقال بعض أصحاب الشافعي لا يحنث لأنه قد أذن ولا يصح لأن نهيه قد ابطل إذنه فصارت خارجة بغير إذنه وكذلك لو أذن لوكيله في بيع ثم نهاه عنه فباعه كان باطلا وإن قال إن خرجت بغير إذني لغير عيادة مريض فأنت طالق فخرجت لعيادة مريض ثم تشاغلت بغيره أو قال إن خرجت إلة غير الحمام بغير إذني فأنت طالق فخرجت إلى الحمام ثم عدلت إلى غيره ففيه وجهان : .
أحدهما : لا يحنث لأنها ما خرجت لغير عيادة مريض ولا إلى غير الحمام وهذا مذهب الشافعي .
الثاني : يحنث لأن قصده في الغالب ألا تذهب إلى غير الحمام وعيادة لمريض وقد ذهبت إلى غيرهما ولأن حكم الاستدامة حكم الابتداء ولهذا لو حلف ألا يدخل دارا هو داخلها فأقام فيها حنث في أحد الوجهين وإن قصدت بخروجها الحمام وغيره أو العيادة وغيرها حنث لأنها خرجت لغيرهما وإن قال إن خرجت لا لعيادة مريض فأنت طالق فخرجت لعيادة مريض وغيره لم يحنث لأن الخروج لعيادة مريض وغيره لم يحنث لأن الخروج لعيادة المريض وإن قصدت معه غيره وإن قال إن خرجت بغير إذني فأنت طالق ثم أذن لها ولم تعلم فخرجت ففيه وجهان : .
أحدهما : تطلق وبه قال أبو حنيفة و مالك و محمد بن الحسن .
والثاني : لا يحنث وهو قول الشافعي و ابي يوسف لأنها أخرجت بعد وجود الأذن من جهته فلم يحنث كما لو علمت به ولأنه لو عزل وكيله انعزل وإن لم يعلم بالغزل فكذلك تصير مأذونا لها وإن لم تعلم ووجه الأول إن الأذن إعلام وكذلك قيل في قوله : { آذنتكم على سواء } أي أعلمتكم فاستويا في العلم { وأذان من الله ورسوله } أي أعلام : { فأذنوا بحرب من الله ورسوله } فاعلموا به واشتقاقه من الإذن يعني أوقعته في أذنك واعلمتك به ومع عدم العلم لا يكون إعلاما فلا يكون إذنا ولأن إذن الشارع في أوامره ونواهيه لا يثبت إلا بعد العلم بها كذلك إذن الآدمي وعلى هذا يمنع وجود الإذن من جهته .
فصل : فإن حلف عليه أن لا تخرج من هذه الدار إلا بإذنه فصعدت سطحها أو خرجت إلى صحنها لم يحنث لأنها لم تخرج من الدار وإن حلف لا تخرج من البيت فخرجت إلى الصحن أو إلى سطحه حنث وهذا مقتضى مذهب الشافعي و أبي ثور وأصحاب الرأي ولو حلف على زوجته لا تخرج ثم حملها فأخرجها فإن أمكنها الامتناع فلم تمتنع حنث وقال الشافعي لا يحنث لأنها لم تخرج إنما أخرجت .
ولنا أنها خرجت مختارة فحنث كما لو أمرت من حملها والدليل على خروجها إن الخروج الانفصال من داخل إلى خارج وقد وجد ذلك وما ذكره يبطل بما إذا أمرت من حملها فأما إن لم يمكنها الامتناع فيحتمل أن لا يحنث وهو قول أصحاب الشافعي و أبي ثور وأصحاب الرأي لأن الخروج لا ينسب إليها فأشبه ما لو حملها غير الحالف ويحتمل أن يحنث لأنه مختار لفعل ما حلف على تركه وإن حلف لا تخرجي إلا بإذن زيد فمات زيد ولم يأذن فخرجت حنث الحالف لأنه علقه على شرط ولم يوجد ولا يجوز فعل المشروط .
مسألة : قال : ولو حلف ألا يأكل هذا الرطب فأكله تمرا حنث وكذلك كل ما تولد من ذلك الرطب .
وجملة ذلك أنه إذا حلف على شيء عينه بالإشارة مثل أن حلف لا يأكل هذ الرطب لم يخل من حالين أحدهما : أن يأكله رطبا فيحنث بلا خلاف بين الجميع لكونه فعل ما حلف على تركه صريحا الثاني : ان تتغير صفته وذلك يقسم خمسة أقسام .
أحدها : أن تستحيل اجزاؤه ويتغير اسمه مثل أن يحلف لا أكلت هذه البيضة فصارت فرخا أو لا اكلت هذه الحنطة فصارت زرعا فأكله فهذا لا يحنث لأنه زال واستحالت أجزاؤه وعلى قياسه إذا حلف لا شربت هذا الخمر فصارت خلا فشربه .
القسم الثاني : تغيرت صفته وزال اسمه مع بقاء أجزائه مثل أن يحلف لا آكل هذا الرطب فصار تمرا ولا أكلم هذا الصبي فصار شيخا ولا آكل هذا الحمل فصار كبشا أو لا آكل هذا الرطب فصار دبسا أو خلا أو ناطقا أو غيره من الحلواء ولا يأكل هذه الحنطة فصارت دقيقا أو سويقا أو خبزا أو هريسة أو لا أكلت هذا العجين أو هذا الدقيق فصار خبزا أو لا أكلت هذا اللبن فصار سمنا أو جبنا أو كشكا أو لا دخلت هذه الدار فصارت مسجدا أو حماما أو فضاء ثم دخلها أو أكله حنث في جميع ذلك وبه قال أبو حنيفة فيما إذا حلف لا كملت هذا الصبي فصار شيخا ولا أكلت هذا الحمل فصار كبشا ولا دخلت هذه الدار فدخلها بعد تغيرها وقال به أبو يوسف في الحنطة إذا صارت دقيقا ولـ لشافعي في الرطب إذا صار تمرا والصبي إذا صار شيخا والحمل إذا صار كبشا وجهان وقالوا في سائر الصور لا يحنث لأن اسم المحلوف عليه وصورته زالت فلم يحنث كما لو حلف لا يأكل هذه البيضة فصارت فرخا .
ولنا أن عين المحلوف عليه باقية فحنث بها كما لو حلف لا أكلت هذا الحمل فأكل لحمه أو لا لبست هذا الغزل فصار ثوبا فلبسه أو لا لبست هذا الرداء فلبسه بعد أن صار قميصا أو سراويل وفارق البيضة إذا صارت فرخا لأن أجزاءها استحالت فصارت عينا أخرى ولم تبق عينها ولأنه لا اعتبار بالإسم مع التعيين كما لو حلف لا كلمت زيدا هذا فغير اسمه لا كلمت صاحب هذ الطيلسان فكلمه بعد بيعه ولأنه متى اجتمع التعيين مع غيره مما رعف به كان الحكم للتعيين كما لو اجتمع مع الإضافة .
القسم الثالث : تبدلت الإضافة مثل أن حلف لا كلمت زوجة زيد هذه ولا عبده هذا ولا دخلت داره هذه فطلق الزوجة وباع العبد والدار فكلمهما ودخل الدار حنث وبه قال مالك و الشافعي و محمد وزفر وقال أبو حنيفة و أبو يوسف لا يحنث إلا في الزوجة لأن الدار لا توالي ولا تعادي وإنما الامتناع لأجل مالكها فتعلقت اليمين بها مع بقاء ملكه عليها وكذلك العبد في الغالب .
ولنا أنه إذا اجتمع في اليمين التعيين والإضافة كان الحكم للتعيين كما لو قال والله لا كلمت زوجة فلان ولا صديقه وما ذكروه لا يصح في العبد لأنه يوالي ويعادي ويلزمه في الدار إذا أطلق ولم يذكر مالكها فإنه يحنث بدخولها بعد بيع مالكها إياها .
القسم الرابع : إذا تغيرت صفته بما يزيل اسمه ثم عادت كمقص انكسر ثم أعيد وقلم انكسر ثم بري وسفينة تفصمت ثم أعيدت ودار هدمت ثم بنيت واسطوانة نقضت ثم أعيدت فإنه يحنث لأن أجزاءها واسمها موجود فأشبه ما لو لم تتغير .
القسم الخامس : إذا تغيرت صفته بما لم يزل اسمه كلحم شوي أو طبخ وعبد بيع ورجل مرض فإنه يحنث به بلا خلاف نعلمه لأن الإسم الذي علق عليه اليمين لم يزل ولا زال التغير فحنث به كما لو لم يتغير حاله .
فصل : وإن قال والله لا كلمت سعدا زوج هند أو سيد صبيح أو صديق عمرو أو مالك هذه الدار أو صاحب هذا الطيلسان أو لا كلمت هند امرأة سعد أ وصبيحا عبده أو عمرا صديقه فطلق الزوجة وباع العبد والدار والطيلسان وعادى عمرا وكلمهم حنث لأنه متى اجتمع الإسم والإضافة غلب الإسم بجريانه مجرى التعيين لتعريف المحل .
فصل : ومتى نوى بيمينه في هذه الأشياء ما دام على تلك الصفة أو الإضافة أو لم يتغير فيمينه على ما نواه ل [ قوله عليه السلام : وإنما لامرىء ما نوى ] والله أعلم .
مسألة : قال : ولو حلف ألا يأكل تمرا فأكل رطبا لم يحنث .
وجملة ذلك أنه إذا لم يعين المحلوف ولم ينو بيمينه ما يخالف ظاهر اللفظ ولا صرفه السبب عنه تعلقت يمينه بما تناوله الإسم الذي علق يمينه ولم يتجاوزه فإذا حلف ألا يأكل تمرأ لم يحنث إذا أكل رطبا ولا بسرا ولا بلحا وإذا حلف لا يأكل رطبا لم يحنث إذا أكل تمرا ولا بسرا ولا بلحا ولا سائر ما لا يسمى رطبا وهذا مذهب الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافا .
فصل : ولو حلف لا يأكل عبنا فأكل زبيبا أو دبسا أو خلا أو ناطفا أو لا يكلم شابا فكلم شيخا أو لا يشتري جديا فاشترى تيسا أو لا يضرب عبدا فضرب عتيقا لم يحنث بغير خلاف لأن اليمين تعلقت بالصفة دون العين ولم توجد الصفة فجرى مجرى قوله لا أكلت هذه التمرة فأكل غيرها .
فصل : فإن حلف لا يأكل رطبا فأكل منصفا وهو الذي بعضه بسر وبعضه تمر أو مذنبا وهو الذي بدأ فيه الإرطاب من ذنبه وباقيه بسر أو حلف لا يأكل بسرا فأكل ذلك حنث وبهذا قال أبو حنيفة ومحمد و الشافعي وقال أبو يوسف وبعض أصحاب الشافعي لا يحنث لأنه لا يسمى رطبا ولا تمرا .
ولنا أنه أكل رطبا وبسرا فحنث كما لو أكل نصف رطبة ونصف بسرة منفردتين وما ذكروه لا يصح فإن القدر الذي أرطب رطب والباقي بسر ولو أنه حلف لا يأكل الرطب فأكل القدر الذي أرطب من النصف حنث ولو حلف لا يأكل البسر فأكل البسر الذي في النصف حنث وإن أكل البسر من يمينه على الرطب وأكل الرطب من يمينه على البسر لم يحنث واحد منهما وإن حلف واحد ليأكلن رطبا وآخر ليأكلن بسرا فأكل الحالف على أكل الرطب ما في المنصف من الرطبة وأكل الآخر باقيها برا جميعا وإن حلف ليأكلن رطبة أو بسرة أو لا يأكل ذلك فأكل منصفا لم يبر ولم يحنث لأنه ليس فيه رطبة ولا بسرة .
فصل : وإن حلف لا يأكل لبنا فأكل من لبن الانعام أو الصيد أو لبن آدمية حنث لأن الإسم يتناوله حقيقة وعرفا وسواء كان حليبا أو رائبا أو مائعا أو مجمدا لأن الجميع لبن ولا يحنث بأكل الجبن والسمن والمصل والأقط والكشك ونحوه فإن أكل زبدا لم يحنث نص عليه وقال القاضي يحتمل أن يقال في الزبد إن ظهر فيه لبن حنث لا بأكله زبدا وإلا فلا كما قلنا فيمن حلف لا يأكل سمنا فأكل خبيصا فيه سمن وهذا مذهب الشافعي وإن حلف ألا يأكل زبدا فأكل سمنا أو لبنا لم يظهر فيه الزبد لم يحنث وإن كان الزبد ظاهرا فيه حنث وإن أكل جبنا لم يحنث وكذلك سائر ما يصنع من اللبن وإن حلف لا يأكل سمنا فأكل زبدا أو لبنا أو شيئا مما يصنع من اللبن سوى السمن لم يحنث وإن أكل السمن منفردا أو في عصيدة أو حلواء أو طبيخ فظهر فيه طعمه حنث ولذلك إذا حلف لا يأكل لبنا فأكل طبيخا فيه لبن أو لا يأكل خلا فأكل طبيخا فيه خل يظهر طعمه فيه حنث وبهذا قال الشافعي وقال بعض أصحابه لا يحنث لأنه لم يفرده بالأكل ولا يصح لأنه أكل المحلوف عليه وأضاف إليه غيره فحنث كما لو أكله ثم كل غيره .
فصل : وإن حلف لا يأكل شعيرا فأكل حنطة فيها حبات شعير حنث لأنه أكل شعيرا فحنث كما لو حلف لا يأكل رطبا فأكل منصفا ويحتمل أن لا يحنث لأنه يستهلك في الحنطة فأشبه السمن في الخبيص وإن نوى بيمينه ألا يأكل الشعير منفردا أو كان سبب يمينه يقتضي ذلك أو يقتضي أكل شعير يظهر أثر أكله لم يحنث إلا بذلك لما قدمنا .
فصل : فإن حلف لا يأكل فاكهة حنث بأكل كل ما يسمى فاكهة وهي كل ثمرة تخرج من الشجرة يتفكه بها من العنب والرطب والرمان والسفرجل والتفاح والكمثرى والخوخ والمشمش والأترج والتوت والنبق والموز والجوز والجميز وبهذا قال الشافعي و أبو يوسف ومحمد بن الحسن وقال أبو حنيفة و أبو ثور لا يحنث بأكل ثمرة النخل والرمان لقول الله تعالى : { فيهما فاكهة ونخل ورمان } والمعطوف يغاير المعطوف عليه .
ولنا أنهما ثمرة شجرة يتفكه بهما فكانا من الفاكهة كسائر ما ذكرنا ولأنهما في عرف الناس فاكهة ويسمى بائعهما فاكهانيا وموضع بيعهما دار الفاكهة والأصل في العرف الحقيقة والعطف لشرفهما وتخصيصهما كقوله تعالى : { من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال } وهما من الملائكة فأما يابس هذه الفواكه كالزبيب والتمر والتين والمشمش اليابس والإجاص ونحوها فهو من الفاكهة لأنه ثمر شحرة يتفكه بها ويحتمل أنه ليس منها لأنه يدخر ومنه ما يقتات فأشبه الحبوب والزيتون ليس بفاكهة لأنه لا يتفكه بأكله وإنما المقصود زيته وما يؤكل منه يقصد به التأدم لا التفه والبطم في معناه لأن المقصود زيته ويحتمل أنه فاكهة لأنه ثمر شجر يؤكل غضا ويابسا على جته فأشبه التوت والبلوط ليس بفاكهة لأنه لا يتفكه به وإنما يؤكل عند المجاعة أو التداوي وكذلك سائر ثمر شجر البر الذي لا يستطاب كالزعرور الأحمر وثمر القيقب والعفص وحب الآس ونحوه وإن كان فيها ما يستطاب كحب الصنوبر فهو فاكهة لأنه ثمر شجرة يتفكه به .
فصل : فأما القثاء والخيار والقرع والباذنجان فهو من الخضر وليس بفاكهة وفي البطيخ وجهان .
أحدهما : هو من الفاكهة ذكره القاضي وهو قول الشافعي و أبي ثور لأنه ينضج ويحلو أشبه ثمر الشجر .
الثاني : ليس من الفاكهة لأنه ثمر بقلة أشبه الخيار والقثاء وأما ما يكون في الأرض كالجزر واللفت والفجل والقلقاس والسوطل ونحوه فليس شيء من ذلك فاكهة لأنه لا يسمى بها ولا هو في معناها .
فصل : وإن حلف لا يأكل أدما حنث بأكل كل ما جرت العادة بأكل الخبز به لأن هذا معنى التأدم وسواء في هذا ما يصطبغ كالطبيخ والمرق والخل والزيت والسمن والشيرج واللبن قال الله تعالى في الزيت : { وصبغ للآكلين } وقال عليه السلام : [ نعم الادام الخل ـ وقال ـ ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة ] رواه ابن ماجة أو من الجامدات كالشواء والجبن والباقلاء والزيتون والبيض وبهذا قال الشافعي و أبو ثور و أبو يوسف : ما لا يصطبغ به فليس بأدم لأن كل واحد منهما يرفع إلى ا لفم منفردا .
ولنا قول النبي A : [ سيد الإدام اللحم ] وقال : [ سيد ادامكم الملح ] رواه ابن الماجة لأنه يؤكل به الخبز عادة فكان ادما كالذي يصطبغ به ولأن كثيرا مما ذكرنا لا يؤكل في العادة وحده إنما بعد للتأدم به وأكل الخبز به فكان أدما كالخل واللبن وقولهم أنه يرفع إلى الفم وحده مفردا عنه جوابان أحدهما : أن منه ما يرفع مع الخبز كالملح ونحوه .
والثاني : أنهما يحتمعان في الفم والمضغ والبلع الذي هو حقيقة الأكل فلا يضر افتراقهما قبله فأما التمر ففيه وجهان .
أحدهما : هو أدم لما [ روى يوسف عن عبد الله بن سلام قال : رأيت رسول الله A وضع تمرة على كسرة وقال : هذه ادام هذه ] رواه أبو داود وذكره الإمام أحمد .
والثاني : ليس بأدم لأنه لا يؤتدم به عادة إنما يؤكل قوتا أو حلاوة وإن أكل الملح مع الخبز فهو ادام لما ذكرنا من الخبز ولأنه يؤكل به الخبز ولا يؤكل منفردا عادة أشبه الجبن والزيتون .
فصل : فإن حلف لا يأكل طعاما فأكل ما يسمى طعاما من قوت وأدم وحلواء وتمر وجامد ومائع حنث قال الله تعالى : { كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه } وقال تعالى : { ويطعمون الطعام على حبه } يعني على محبة الطعام لحاجتهم إليه وقيل على حب الله تعالى وقال الله تعالى : { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير } وسمى النبي A : [ اللبن طعاما ] وقال : [ إنما يخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم ] وفي الماء وجهان : .
أحدهما : هو طعام لقول الله تعالى : { إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني } والطعام ما يطعم ولأن النبي A سمى اللبن طعاما وهو مشروب فكذلك الماء .
والثاني : ليس بطعام لأنه لا يسمى طعاما ولا يفهم من إطلاق اسم الطعام ولهذا يعطف عليه فيقال طعام وشراب وقال النبي A : [ إني لا أعلم ما يجزىء من الطعام والشراب إلا اللبن ] ورواه ابن ماجة ويقال باب الأطعمة والأشربة ولأنه إن كان طعاما في الحقيقة فليس بطعام في العرف فلا يحنث بشربه لأن مبني الأيمان على العرف لكون الحالف في الغالب لا يريد بلفظه إلا ما يعرفه فإن أكل دواء ففيه وجهان : .
أحدهما : يحنث لأنه يطعم حال الاختيار وهذا مذهب الشافعي .
والثاني : لا يحنث لأنه لا يدخل في إطلاق اسم الطعام ولا يؤكل إلا عند الضرورة فإن أكل من نبات الأرض ما جرت العادة بأكله حنث وإن أكل ما لا يجزئه عادة كورق الشجر ونشارة الخشب احتمل وجهين : .
أحدهما : يحنث لأنه قد أكله فأشبه ما جرت العادة بأكله ولأنه روي عن عتبة بن غزوان أنه قال : لقد رأيتنا مع رسول الله A سابع سبعة مالنا طعام إلا ورق الحبلة حتى قرحت أشداقنا والثاني : لا يحنث لأنه لا يتناوله اسم الطعام في العرف .
فصل : فإن حلف لا يأكل قوتا فأكل خبزا أو تمرا أو زبيبا أو لحما أو لبنا حنث لأن كل واحد من هذه يقتات في بعض البلدان ويحتمل أن لا يحنث إلا بأكل ما يقتاته أهل بلده لأن يمينه تنصرف إلى القوت لمتعارف عندهم في بلدهم ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين وإن أكل سويقا أو استف دقيقا حنث لأنه لا يقتات كذلك ولهذا قال بعض اللصوص .
( لا تخبزا خبزا وبسابسا ... ولا تطيلا بمقام حبسا ) .
وإن أكل حبا يقتات خبزه لأنه يسمى قوتا ولذلك روي أن النبي A كان يدخر قوت عياله لسنة وإنما يدخر الحب ويحتمل أن لا يحنث لأنه لا يقتات كذلك وإن أكل عنبا أو حصرما أو خلا لم يحنث لأنه لم يصر قوتا .
فصل : فإن حلف لا يملك مالا حنث بملك كل ما يسمى مالا سواء كان من الأثمان أو غيرها من العقار والأثاث والحيوان وبهذا قال الشافعي وعن أحمد أنه إذا نذر الصدقة بجميع ماله إنما يتناول نذره الصامت من ماله ذكرها ابن أبي موسى لأن إطلاق المال ينصرف إليه .
وقال ابو حنيفة لا يحنث إلا أن ملك مالا زكويا استحسانا لأن الله تعالى قال : { وفي أموالهم حق للسائل والمحروم } فلم يتناول إلا الزكوية .
ولنا أن غير الزكوية أموال قال الله تعالى : { أن تبتغوا بأموالكم } وهي مما يجوز ابتغاء النكاح بها [ وقال أبو طلحة للنبي A أن أحب أموالي إلي بيرجاء يعني حديقة وقال عمر أصبت مالا بأرض خيبر لم أصب مالا قط أنفس عندي منه وقال أو قتادة اشتريت مخرفا فكان أول مال تأثلته وفي الحديث : خير المال سكة مأبورة أو مهرة مأمورة ] ويقال خير المال عين خرارة في أرض خوارة ولأنه يسمى مالا فحنث به كالزكوي وأما قوله : { وفي أموالهم حق } فالحق ههنا غير الزكاة لأن هذه الآية مكية نزلت قبل فرض الزكاة فإن الزكاة إنما فرضت بالمدينة ثم لو كان الحق الزكاة فلا حجة فيها فإن الحق إذا كان في بعض المال فهو في المال كما إن من هو في بيت من دار أو في بلدة فهو في الدار والبلدة قال الله D : { وفي السماء رزقكم وما توعدون } ولا يلزم أن يكون في كل أقطارها ثم لو اقتضى هذا العموم لوجب تخصيصه فإن ما دون النصاب مال ولا زكاة فيه فإن حلف لا مال له وله دين حنث ذكره أبو الخطاب وهو قول الشافعي وقال أبو حنيفة لا يحنث لأنه لا ينتفع به .
ولنا أنه ينعقد عليه حول الزكاة ويصح اخراجها عنه ويصح التصرف فيه بالابراء والحوالة والمعاوضة عنه لمن هو في ذمته والتوكيل في استيفائه فيحنث به كالمودع وإن كان له مال مغصوب حنث لأنه باق على ملكه فإن كان له مال ضائع ففيه وجهان أحدهما : يحنث لأن الأصل بقاؤه على ملكه والثاني : لا يحنث لأنه لا يعلم بقاؤه وإن ضاع على وجه قد يئس من عوده كالذي يسقط في بحر لم يحنث لأن وجوده كعدمه ويحتمل أن لا يحنث في كل موضع لا يقدر على أخذ ماله كالمجحود والمغصوب والذي على غير مليء لأنه لا نفع فيه وحكمه حكم المعدوم في جواز الأخذ من الزكاة وانتفاء وجوب أدائها عليه عنه وإن تزوج لم يحنث لأنه ما يملكه ليس بمال وإن وجب له حق شفعة لم يحنث لأنه لم يثبت له الملك به وإن استأجر عقارا أو غيره لم يحنث لأنه لا يسمى مالكا لمال .
مسألة : قال : ولو حلف لا يأكل لحما فأكل الشحم أو المخ أو الدماغ لم يحنث إلا أن يكون أراد اجتناب الدسم فيحنث بأكل الشحم .
وجملته أن الحالف على ترك أكل اللحم لا يحنث بأكل ما ليس بلحم من الشحم والمخ وهو الذي في العظام والدماغ وهو الذي في الرأس في قحفه ولا الكبد والطحال والرئة والقلب والكرش والمصران والقانصة ونحوها وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة و مالك يحنث بأكل هذا كله لأنه لحم حقيقة ويتخذ منه ما يتخذ من اللحم فأشبه لحم الفخذ .
ولنا أنه لا يسمى لحما وينفرد عنه بإسمه وصفته ولو أمر وكيله بشراء لحم فاشترى هذا لم يكن ممتثلا لأمره ولا بنفذ الشراء للموكل فلم يحنث بأكله كالبقل [ وقد دل على أن الكبد والطحال ليستا بلحم قول النبي A : أحلت لنا ميتتان ودمان أما الدمان فالكبد والطحال ] ولا نسلم أنه لحم حقيقة بل هو من الحيوان مع اللحم كالعظم والدم فأما إن قصد اجتناب الدسم حنث بأكل الشحم لأن له دسما وكذلك المخ وكل ما فيه دسم .
فصل : ولا يحنث بأكل الآلية وقال بعض أصحاب الشافعي يحنث لأنها نابته في اللحم وتشبهه في الصلابة وليس بصحيح لأنها لا تسمى لحما ولا يقصد بها ما يقصد به وتخالفه في اللون والذوب والطعم فلم يحنث بأكلها كشحم البطن فأما الشحم الذي على الظهر والجنب وفي تضاعيف اللحم فلا يحنث بأكله في ظاهر كلام الخرقي فإنه قال اللحم لا يخلو من شحم يشير إلى ما يخالط اللحم مما تذيبه النار وهذا كذلك وهذا قول طلحة العاقولي وممن قال هذا شحم أبو يوسف ومحمد وقال القاضي هو لحم يحنث بأكله ولا يحنث بأكله من حلف لا يأكل شحما وهذا مذهب الشافعي لأنه لا يسمى شحما ولا بائعه شحاما ولا يفرد عن اللحم مع الشحم ويسمى بائعه ويسمى لحاما سمينا ولو وكل في شراء لحم فاشتراه الوكيل لزمه ولو اشتراه الوكيل في شراء الشحم لم يلزمه .
ولنا قوله تعالى : { ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم } ولأنه يشبه الشحم في صفته وذوبه ويسمى دهنا فكان شحما كالذي في البطن ولا نسلم أنه لا يسمى شحما ولا أنه يسمى بمفرده لحما وإنما يسمى اللحم الذي هو عليه لحما سمينا ولا يسمى بائعه شحاما لأنه لا يباع بمفرده وإنما يباع تبعا للحم وهو تابع له في الوجود والبيع فلذلك سمي بائعه لحاما ولم يسم شحاما لأنه سمي بما هو الأصل فيه دون التبع .
فصل : وإن أكل المرق لم يحنث ذكره أبو الخطاب قال وقد روي عن احمد أنه قال لا يعجبني الأكل من المرق وهذا على طريق الورع وقال ابن أبي موسى والقاضي يحنث لأن المرق لا يخلو من أجزاء اللحم الذائبة وقد قيل المرق أحد اللحمين .
ولنا أنه ليس بلحم حقيقة ولا يطلق عليه اسمه فلم يحنث به كالكبد ولا نسلم أن أجزاء اللحم فيه وإنما فيه ماء اللحم ودهنه وليس ذلك بلحم وأما المثل فإنما أريد به المجاز كما في نظائره من قولهم : الدعاء أحد الصدقتين وقلة العيال أحد اليسارين وهذا دليل على أنها ليست بلحم لأنه جعلها غير اللحم الحقيقي .
فإن أكل رأسا أو كارعا فقد روي عن أحمد ما يدل على أنه لا يحنث لأنه روي عنه ما يدل على أن من حلف لا يشتري لحما فاشترى راسا أو كارعا لا يحنث إلا أن ينوي أن لا يشتري من الشاة شيئا قال القاضي لأن إطلاق اسم اللحم لا يتناول الرؤوس والكوارع ولو وكله في شراء لحم فاشترى رأسا أو كارعا لم يلزمه ويسمى بائع ذلك رآسا ولا يسمى لحاما وقال أبو الخطاب يحنث بأكل لحم الخد لأنه لحم حقيقة وحكي عن أبي موسى أنه لا يحنث إلا أن ينويه باليمن وإن أكل اللسان احتمل وجهين أحدهما : يحنث لأنه لحم حقيقة والثاني : لا يحنث لأنه ينفرد عن اللحم بإسمه وصفته فأشبه القلب .
مسألة : قال : فإن حلف ألا يأكل الشحم فأكل اللحم حنث لأن اللحم لا يخلو من شحم .
ظاهر كلام الخرقي أن الشحم كل ما يذوب بالنار مما في الحيوان فظاهر الآية والعرف يشهد لقوله وهذا ظاهر قول أبي الخطاب وطلحة وقال به أبو يوسف ومحمد بن الحسن فعلى هذا لا يكاد لحم يخلو من شيء منه وإن قل فيحنث به وقال القاضي الشحم هو الذي في الجوف من شحم الكلى أو غيره وإن أكل من كل شيء من الشاة من لحمها الأحمر والأبيض والألية والكبد والطحال والقلب فقال شيخنا لا يحنث يعني ابن حامد لأن اسم الشحم لا يقع عليه وهو قول أبي حنيفة و الشافعي وقد سبق الكلام في أن شحم الظهر والجنب شحم فيحنث به وأما أن أكل لحما أحمر وحده لا يظهر فيه شيء من الشحم فظاهر كلام الخرقي أنه يحنث لأنه لا يخلو من شحم وإن قل ويظهر في الطبخ فإنه يبين على وجه المرق وإن قل وبهذا يفارق من حلف لا يأكل سمنا فأكل خبيصا فيه سمن لا يظهر فيه طعمة ولا لونه فإن هذا قد يظهر الدهن فيه وقال غير الخرقي من اصحابنا لا يحنث وهو الصحيح لأنه لا يسمى شحما ولا يظهر فيه طعمة ولا لونه والذي يظهر في المرق قد فارق اللحم فلا يحنث بأكل اللحم الذي كان فيه .
فصل : ويحنث بالأكل من الألية في ظاهر كلام الخرقي وموافقيه لأنها دهن يذوب بالنار ويباع مع الشحم ولا يباع مع اللحم وعلى قول القاضي وموافقيه ليست شحما ولا لحما فلا يحنث به الحالف على تركها .
مسألة : قال : وإذا حلف ألا يأكل لحما ولم يرد لحما بعينه فأكل من لحم الانعام أو الطيور أو السمك حنث .
أما إذا أكل من لحم الانعام أو الصيد أو الطائر فإنه يحنث في قول عامة علماء الأمصار وأما السمك فظاهر المذهب أنه يحنث بأكله وبهذا قال قتادة و الثوري و مالك و أبو يوسف وقال ابن أبي موسى في الإرشاد لا يحنث به إلا أن ينويه وهو قول أبي حنيفة و الشافعي و أبي ثور لأنه لا ينصرف إليه إطلاق اسم اللحم ولو وكل وكيلا في شراء اللحم فاشترى له سمكا لم يلزمه ويصح أن ينفى عنه الإسم فيقول ما أكلت لحما وإنما أكت سمكا فلم يتعلق به الحنث عند الإطلاق كما لو حلف لأقعدت تحت سقف فإنه لا يحنث بالقعود تحت السماء وقد سماها الله تعالى سقفا محفوظا لأنه مجاز كذا ههنا .
ولنا قول الله تعالى : { وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا } وقال : { ومن كل تأكلون لحما طريا } ولأنه من جسم حيوان ويسمى لحما فحنث بأكله كلحم الطائر وما ذكروه يبطل بلحم الطائر وإما السماء فإن الحالف ألا يقعد تحت سقف لا يمكنه التحرز من القعود تحتها فيعلم أنه لم يردها بيمينه ولأن التسمية ثم مجاز وههنا هي حقية لكونه من جسم حيوان يصلح للأكل فكان الإسم فيه حقيقة كلحم الطائر حيث قال الله تعالى : { ولحم طير مما يشتهون } .
فصل : ويحنث بأكل اللحم المحرم كلحم الميتة والخنزير والمغصوب وبه قال ابو حنيفة وقال الشافعي في أحد الوجهين لا يحنث بأكل المحرم باصله لأن يمينه تنصرف إلى ما يحل لا إلى ما يحرم فلم يحنث بما لا يحل وكما لو حلف لا يبيع فباع بيعا فاسدا لم يحنث .
ولنا أن هذا لحم حقيقة وعرفا فيحنث بأكله كالمغصوب وقد سماه الله تعالى لحما فقال : { ولحم الخنزير } وما ذكروه يبطل بما إذا حلف لا يلبس ثوبا فلبس ثوب حرير وأما البيع الفاسد فلا يحنث به لأنه ليس ببيع في الحقيقة