مسألتان وفصلان في السبق والرهان .
مسألة : قال : وإذا أراد أن يستبقا أخرج أحدهما ولم يخرج الآخر فإن سبق من أخرج احرز سبقه ولم يأخذ من المسبوق شيئا وإن سبق من لم يخرج احرز سبق صاحبه .
وجملته أن المسابقة إذا كانت بين اثنين أو حزبين لم تخل أما أن يكون العوض منهما أو من غيرهما فإن كان من غريهما نظرت فإن كان من الإمام جاز سواء كان من ماله أو من بيت المال لأن في ذلك مصلحة وحثا على تعلم الجهاد ونفعا للمسلمين وإن كان غير إمام جاز له بذل العوض من ماله وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقال مالك لا يجوز بذل العوض من غير الإمام لأن هذا مما يحتاج إليه للجهاد فاختص به الإمام لتولية الولايات وتأمير الأمراء .
ولنا أنه بذل لماله فيما فيه مصلحة وقربة فجاز كما لو اشترى به خيلا وسلاحا فأما إن كان منهما أنه اشترط كون الجعل من أحدهما دون الآخر فيقول أن سبقتني فلك عشرة وإن سبقتك فلا شيء عليك فهذا جائز وحكي عن مالك أنه لا يجوز لأنه قمار .
ولنا أن أحدهما يختص بالسبق فجاز كما لو أخرجه الإمام ولا يصح ما ذكره لأن القمار أن لا يخلو كل واحد منهما من أن يغنم أ ويغرم وههنا لا خطر على أحدهما فلا يكون قمارا فإذا سبق المخرج أحرز سبقه ولا شيء له على صاحبه وإن سبق الآخر أخذ سبق المخرج فملكه وكان كسائر ماله لأنه عوض في الجعالة فيملك فيها كالعوض المجهول في رد الضالة والآبق وإن كان العوض في الذمة فهو دين يقضى به عليه ويجبر على تسليمه إن كان موسرا وإن أفلس ضرب مع الغرماء .
فصل : والمسابقة عقد جائز ذكره ابن حامد وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وقال في الآخر هو لازم إن كان العوض منهما وجائز إذا كان من أحدهما أو من غيرهما وذكره القاضي احتمالا لأنه عقد من شرطه أن يكون العوض والمعوض معلومين فكان لازما كالإجارة .
ولنا أنه عقد على ما لا تتحقق القدرة على تسليمه فكان جائزا كرد الآبق فإنه عقد على الإصابة ولا يدخل تحت قدرته وبهذا فارق الإجارة فعلى هذا لكل واحد من المتعاقدين الفسخ قبل الشروع في المسابقة وإن أراد أحدهما الزيادة فيها أو النقصان منها لم يلزم الآخر إجابته وأما بعد الشروع في المسابقة فإن كان لم يظهر لأحدهما فضل على الآخر جاز الفسخ لكل واحد منهما وإن ظهر لأحدهما فضل مثل أن يسبقه بفرسه في بعض المسابقة أو يصيب بسهامه أكثر منه فللفاضل الفسخ ولا يجوز للمفضول لأنه لو جاز له ذلك لفات غرض المسابقة لأنه متى بان له سبق صاحبه له فسخها وترك المسابقة فلا يحصل المقصود وقال أصحاب الشافعي إذا قلنا العقد جائز ففي جواز الفسخ من المفضول وجهان .
فصل : ويشترط أن يكون العوض معلوما لأنه مال في عقد فكان معلوما كسائر العقود ويكون معلوما بالمشاهدة أو بالقدر والصفة على ما تقدم في غير موضع ويجوز أن يكون حالا ومؤجلا كالعوض في البيع ويجوز أن يكون بعضه حالا وبعضه مؤجلا فلو قال أن نضلتني فلك دينار حال وقفيز حنطة بعد شهر جاز وصح النضال لأن ما جاز أن يكون حالا ومؤجلا جاز أن يكون بعضه حالا وبعضه مؤجلا كالثمن غير أنه يحتاج إلى صفة الحنطة بما تصير به معلومة .
فصل : فإن شرط أن يطعم السبق أصحابه فالشرط فاسد لأنه عوض على عمل فلا يستحق غير العامل كالعوض في رد الآبق ولا يفسد العقد وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي يفسد .
ولنا أنه عقد لا تقف صحته على تسمية بدل فلم يفسد بالشرط الفاسد كالنكاح وذكر القاضي أن الشروط الفاسدة في المسابقة تنقسم قسمين .
أحدهما : ما يخل بشرط صحة العقد نحو أن يعود إلى جهالة العوض أو المسافة ونحوهما فيفسد العقد لأن العقد لا يصح مع فوات شرطه .
والثاني : ما لا يخل بشرط العقد نحو أن يشترط أن يطعم السبق أصحابه أو غيرهم أو يشرط أنه إذا نضل لا يرمي أبدا أو لا يرمي شهرا أو شرطا أن لكل واحد منهما أو لأحدهما فسخ العقد متى شاء بعد الشروع في العمل وأشباه هذا فهذه شروط باطلة في نفسها وفي العقد المقترن بها وجهان : .
أحدهما : صحته لأن العقد تم بأركانه وشروطه فإذا حذف الزائد الفاسد بقي العقد صحيحا .
والثاني : يبطل لأنه بذل العوض لهذا الغرض فإذا لم يحصل له غرضه لا يلزمه العوض وكل موضع فسدت المسابقة فإن كان السابق المخرج أمسك سبقه وإن كان الآخر فله أجر عمله لأنه عمل بعوص لم يسلم له فاستحق أجر المثل كالإجارة الفاسدة .
فصل : وإذا كان المخرج غير المتسابقين فقال لهما أو لجماعة أيكم سبق فله عشرة جاز لأن كل منهم يطلب أن يكون سابقا وأيهم سبق استحق العسرة وإن جاؤوا جميعا فلا شيء لواحد منهم لأنه لا سابق فيهم وإن قال لاثنين أيكما سبق فله عشرة وأيكما صلى فله عشرة لم يصح لأنه لا فائدة في طلب السبق فلا يحرص عليه لعدم فائدته فيه وإن قال : ومن صلى فله خمسة صح لأن كل واحد يطلب السبق لفائدته فيه بزيادة الجعل وإن كانوا أكثر من اثنين فقال من سبق فله عشرة ومن صلى فله كذلك صح لأن كل واحد منهم يطلب أن يكون سابقا أو مصليا والمصلي هو الثاني لأن رأسه عند صلي الآخر والصلوان هما العظمان الناتئان من جانبي الذنب وفي الأثر عن علي Bه أنه قال : سبق أبو بكر وصلى عمر وخبطتنا عشواء وقال الشاعر : .
( إن تبتدر غاية يوما لمكرمة ... تلق السوابق منا والمصلينا ) .
فإن قال للمجلي وهو الأول مائة وللمصلي وهو الثاني تسعون وللتالي وهو الثالث ثمانون وللنازع هو الرابع سبعون وللمرتاح وهو الخامس ستون وللحظي وهو السادس خمسون وللعاطف وهو السابع أربعون وللمؤمل وهو الثامن ثلاثون وللطيم وهو التاسع عشرون وللسكيت وهو العاشر عشرة وللفسكل وهو الآخر خمسة صح لأن كل واحد يطلب السبق فإذا فاته طلب ما يلي السابق والفسكل اسم للآخر ثم يستعمل هذا في غير المسابقة بالخيل تجوزا كما روي أن أسماء ابنة عميس كانت تزوجت جعفر بن أبي طالب وولدت له عبد الله ومحمدا وعونا ثم تزوجها أبو بكر الصديق فولدت له محمد بن أبي بكر ثم تزوجها علي بن أبي طالب فقالت له أن ثلاثة أنت آخرهم لأخيار فقال لولدها فسكلتني أمكم وإن جعل للمصلي أكثر من السابق أو مثله أو جعل للتالي أكثر من المصلي أو مثله أو لم يجعل للمصلي شيئا لم يجز لأن ذلك يفضي إلى أن لا يقصد السبق بل بقصد التأخر فيفوت المقصود .
فصل : إذا قال لعشرة من سبق منكم فله عشرة صح فإن جاؤوا معا فلا شيء لهم لأنه لم يوجد الشرط الذي يستحق به الجعل في واحد منهم وإن سبقهم واحد فله العشرة لوجود الشرط فيه وإن سبق اثنان فلهما العشرة وإن سبق تسعة وتأخر واحد فالعشرة للتسعة لأن الشرط وجد فيهم فكان الجعل بينهم كما لو قال من رد عبدي الآبق فله عسرة فرده تسعة ويحتمل أن يكون لكل واحد من السابقين عشرة لأن كل واحد منهم سابق قيستحق الجعل لكماله كما لو قال من رد عبدا لي فله عشرة فرد كل واحد عبدا وفارق ما لو قال من رد عبدي فرده تسعة لأن كل واحد منهم لم يرده إنما رده حصل من الكل ويصير هذا كما لو قال من قتل قتيلا فله سلبه فإن قتل كل واحد واحدا فلكل واحد سلب قتيله كاملا وإن قتل الجماعة واحدا فلجميعهم سلب واحد وههنا كل واحد له سبق مفرد فكان له الجعل كاملا فعلى هذا لو قال من سبق فله عشرة ومن صلى فله خمسة وصلى خمسة فعلى الأول من الوجهين للسابقين عشرة لكل واحد منهم درهمان وللمصلين خمسة لكل واحد منهم درهم وعلى الوجه الثاني لكل واحد من السابقين عشرة فيكون لهم خمسون ولكل واحد من الصلين خمسة فيكون لهم خمسة وعشرون ومن قال بالوجه الأول احتمل على قوله أن لا يصح العقد على هذا الوجه لأنه يحتمل أن يسبق تسعة فيكون لهم عشرة لكل واحد درهم وتسع ويصلي واحد فيكون له خمسة فيصير للمصلي من الجعل فوق ما للسابق فيفوت المقصود .
مسألة : قال : وإن أخرجا جميعا لم يجز إلا أن يدخلا بينهما محللا يكافىء فرسه فرسيهما أو بعيره بعيرهما أو رميه رمييهما فإن سبقهما أحرز سبقيهما وإن كان السابق أحدهما أحرز سبقه وأخذ سبق صاحبه فكان كسائر ماله ولم يأخذ من المحلل شيئا .
السبق بالفتح الجعل الذي يسابق عليه ويسمى الخطر والندب والقرع والرهن ويقال سبق إذا أخذ وإذا أعطى وهو من الأضداد ومتى استبق الاثنان والجعل بينهما فأخرج كل واحد منهما لم يجز وكان قمارا لأن كل واحد منهما لا يخلو من أن يغنم أو يغرم وسواء كان ما أخرجاه متساويا مثل أن يخرج كل واحد منهما عشرة أو متفاوتا مثل أن أخرج أحدهما عشرة والآخر خمسة ولو قال أن سبقتين فلك علي عشرة وإن سبقتك فلي عليك قفيز حنطة أو قال ان سبقتني فلك علي عشرة ولي عليك قفيز لم يجز لما ذكرناه فإن أدخلا بينهما محللا وهو ثالث لم يخرج شيئا جاز وبهذا قال سعيد بن المسيب و الزهري و الأوزاعي و إسحاق وأصحاب الرأي وحكي أشهب عن مالك أنه قال في المحلل لا أحبه وعن جابر بن زيد أنه قيل له أن أصحاب رسول الله A كانوا لا يرون بالدخيل بأسا قال هم أعف من ذلك ولنا ما روى أبو هريرة Bه أن النبي A قال : [ من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يؤمن أن يسبق فليس بقمار ومن أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار ] رواه أبو داود فجعله قمارا إذا أمن أن يسبق لأنه لا يخلو كل واحد منهما من أن يغنم أو يغرم وإذا لم يؤمن أن يسبق لم يكن قمارا لأن كل واحد منهما يجوز أن يخلو عن ذلك ويشترط أن يكون فرس المحلل مكافئا لفرسيهما أو بعيره مكافئا لبعيريهما ورميه لرمييهما فإن لم يكن مكافئا مثل أن يكون فرساهما جوادين وفرسه بطيء فهو قمار للخبر ولأنه مأمون سبقه فوجوده كعدمه وإن كان مكافئا لهما جاز فإن جاؤوا كلهم الغاية دفعة واحدة أحرز كل واحد منهما سبق نفسه ولا شيء للمحلل لأنه لا سابق فيهما وكذلك أن سبق المستبقان المحلل وإن سبق المحلل وحده أحرز السبقين بالاتفاق وإن سبق أحد المستبقين وحده أحرز سبق نفسه وأخذ سبق صاحبه ولم يأخذ من المحلل شيئا وإن سبق أحد المستبقين والمحلل أحرز السابق مال نفسه ويكون سبق المسبوق بين السابق والمحلل نصفين سواء كان المستبقون اثنين او أكثر حتى لو كانوا مائة وبينهم محلل لا سبق منه جاز وكذلك لو كان المحلل جماعة جاز لأنه لا فرق بين الأثنين والجماعة وهذا كله مذهب الشافعي .
فصل : ويشترط في المسابقة بالحيوان تحديد المسافة وأن يكون لابتداء عدوهما وآخرة غاية لا يختلفان فيها لأن الغرض معرفة أسبقهما ولا يعلم ذلك إلا بتساويهما في الغاية ولأن أحدهما قد يكون مقصرا في أول عدوه سريعا في انتهائه وقد يكون بضد ذلك فيحتاج إلى غاية تجمع حاليه ومن الخيل ما هو أصبر والقارح أصبر من غيره [ وقد روى ابن عمر أن رسول الله A سبق بين الخيل وفضل القرح في الغاية ] رواه أبو داود وسبق بين الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع وذك ستة أميال أو سبعة وبين التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق وذلك ميل أو نحوه فإن استبقا بغير غاية لينظرا أيهما يقف أو لا لم يجز لأنه يؤدي إلى أن لا يقف أحدهما حتى ينقطع فرسه ويتعذر الأشهاد على السبق فيه ويشترط في المسابقة إرسال الفرسين أو البعيرين دفعة واحدة فإن أرسل احدهما قبل الآخر ليعلم هل يدركه الآخر أو لا ؟ لم يجز هذ في المسابقة بعوض لأنه قد لا يدركه مع كونه أسرع منه لبعد المسافة بينهما ويكون عند أول المسافة من يشاهد ارسالهما ويرتبهما وعند الغاية من يضبط السابق منهما لئلا يختلفا في ذلك ويحصل السبق في الخيل بالرأس إذا تماثلت الأعناق فإن اختلفا في طول العنق أو كان ذلك في الإبل اعتبر السبق بالكتف لأن الاعتبار بالرأس متعذر فإن طويل العنق قد يسبق رأسه لطول عنقه لا لسرعة عدوه وفي الإبل ما يرفع راسه وفيها ما يمد عنقه فربما سبق رأسه لمد عنفه لا لسبقه فلذلك اعتبرنا الكتف فإن سبق رأس قصير العنق فهو سابق لأن من ضرورة ذلك كونه سابقا وإن سبق طويل العنق بأكثر مما بينهما في طول العنق فقد سبق وإن كان بقدره لم يسبقه وإن كان أقل فالآخر السابق ونحو هذا كله قول الشافعي وقال الثوري إذا سبق أحدهما بالأذن كان سابقا ولا يصح لأن أحدهما قد يرفع رأسه ويمد الآخر عنقه فيكون سابقا بإذنه لذلك لا لسبقه وان شرطا السبق باقدام معلومة كثلاثة أو أكثر أو أقل لم يصح وقال بعض أصحاب الشافعي يصح ويتخاطان ذلك كما في الرمي وليس بصحيح لأن هذا لا ينضبط ولا يقف الفرسان عند الغاية بحيث يعرف مساحة ما بينهما .
وقد [ روى الدار قطني بإسناده عن علي Bه عن النبي A قال لعلي : قد جعلت لك هذه السبقة بين الناس ] فخرج علي فدعا سراقة بن مالك فقال يا سراقة إني قد جعلت إليك ما جعل النبي A في عنقي من هذه السبقة في عنقك فإذا أتيت الميطان ـ قال أبو عبد الرحمن الميطان مرسلها من الغاية ـ فصف الخيل ثم ناد هل من مصلح للجام أو حامل لغلام أو طارح لجل فإذا لم يجبك أحد فكبر ثلاثا ثم خلها عند الثالثة فيسعد الله بسبقه من شاء من خلقه وكان علي يقعد على منتهى الغاية يخط خطا ويقيم رجلين متقابلين عند طرف الخط طرفيه بين ابهامي ارجلهما وتمر الخيل بين الرجلين ويقول لهما إذا خرج أحد الفرسين على صاحبه بطرف أذنيه أو أذن أو عذار فاجعلا السبقة له فإن شككتما فاجعلوا سبقهما نصفين فإذا قرنتم ثنتين فاجعلا الغاية من غاية اصغر الثنتين ولا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام وهذا الأدب الذي ذكره في هذا الحديث في ابتداء الإرسال وانتهاء الغاية من أحسن ما قيل في هذا وهو مروي عن أمير المؤمنين علي Bه في قضية أمره بها رسول الله A وفوضها إليه فينبغي أن تتبع ويعمل بها .
فصل : ويشترط في الرهان أن تكون الدابتان من جنس واحد فإن كانا من جنسين كالفرس والبعير لم يجز لأن البعير لا يكاد يسبق الفرس فلا يحصل الغرض من هذه المسابقة وإن كانا من نوعين كالعربي والبرذون أو البختي والعرابي ففيه وجهان : .
أحدهما : لا يصح ذكره أبو الخطاب لأن التفاوت بينهما في الجري معلوم بحكم العادة فأشبها الجنسين .
والثاني : يصح ذكره القاضي وهذا مذهب الشافعي لأنهما من جنس واحد وقد يسبق كل واحد منهما الآخر والضابط الجنس وقد وجد ويكفي في المظنة احتمال الحكمة ولو على بعد