مسألة وفصول : في الجزية والهدنة وشروطهما والضيافة .
مسألة : قال : والمأخوذ منهم الجزية على ثلاث طبقات فيؤخذ من أدونهم اثنا عشر درهما ومن أوسطهم أربعة وعشرون درهما ومن أيسرهم ثمانية وأربعون درهما .
الكلام في هذه المسألة في فصلين : .
الفصل الأول في تقدير الجزية والثاني في كمية مقدارها فأما الأول ففيه ثلاث روايات : .
إحداها : أنها مقدرة بمقدر لا يزاد عليه ولا ينقص منه وهذا قول أبي حنيفة و الشافعي لأن النبي A فرضها مقدرة بقوله لمعاذ : [ خذ من كل حالم دينارا أو عدله مغافر ] وفرضها عمر مقدرة بمحضر من الصحابة فلم ينكر فكان إجماعا .
والثانية : أنها غير مقدرة بل يرجع فيها الى اجتهاد الامام في الزيادة والنقصان قال الأثرم : قيل لابي عبد الله : فيزداد اليوم فيه وينقص ؟ يعني الجزية قال : نعم يزاد فيه وينقص على قدر طاقتهم على قدر ما يرى الامام وذكر أنه زيد عليهم فيما مضى درهمان فجعله خمسين قال الخلال : العمل في قول أبي عبد الله على ما رواه الجماعة بأنه لا بأس للامام أن يزيد في ذلك وينقص على ما رواه عنه أصحابه في عشرة مواضع فاستقر قوله على ذلك .
وهذا قول الثوري و أبي عبيد لأن النبي A أمر معاذا أن يأخذ من كل حالم دينارا وصالح أهل نجران على ألفي حلة النصف في صفر والنصف في رجب رواهما أبو داود وعمر جعل الجزية على ثلاث طبقات : على الغني ثمانية وأربعين درهما وعلى المتوسط أربعة وعشرين درهما وعلى الفقير اثني عشر درهما وصالح بني تغلب على مثلي ما على المسلمين من الزكاة وهذا يدل على أنها إلى رأي الامام لولا ذلك لكانت على قدر واحد في جميع هذه المواضع ولم يجز أن تختلف قال البخاري : قال ابن عيينة عن أبي نجيح : قلت لمجاهد : ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار ؟ قال : جعل ذلك من أجل اليسار ولأنها عوض فلم تقدر كالأجرة .
والرواية الثالثة : أن أقلها مقدر بدينار وأكثرها غير مقدر وهو اختيار أبي بكر فتجوز الزيادة ولا يجوز النقصان لأن عمر زاد على ما فرض رسول الله A ولم ينقص منه وروي أنه زاد على ثمانية وأربعين فجعلها خمسين .
الفصل الثاني : أننا اذا قلنا بالرواية الأولى وانها مقدرة فقدرها في حق الموسر ثمانية وأربعون درهما وفي حق المتوسط أربعة وعشرون وفي حق الفقير اثنا عشر وهذا قول أبي حنيفة وقال مالك : هي في حق الغني أربعون درهما أو أربعة دنانير وفي حق الفقير عشرة دراهم أو دينار وروي ذلك عن عمر وقال الشافعي : الواجب دينار في حق كل واحد لحديث معاد أن النبي صلى الله عليبه وسلم أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا : رواه أبو داود وغيره الا أن المستحب جعلها على ثلاث طبقات كما ذكرناه لنخرج من الخلاف قالوا : وقضاء النبي A أولى بالاتباع من غيره .
ولنا حديث عمر Bه وهو حديث لا شك في صحته وشهرته بين الصحابة Bهم وغيرهم ولم ينكره منكر ولا خلاف فيه وعمل به من بعده من الخلفاء Bهم فصار إجماعا لا يجوز الخطأ عليه وقد وافق الشافعي على استحباب العمل به وأما حديث معاذ فلا يخلو من وجهين : .
أحدهما : أنه فعل ذلك لغلبة الفقر عليهم بدليل قول مجاهد لأن ذلك من أجل اليسار .
والوجه الثاني : أن يكون التقدير غير واجب بل هو موكول إلى اجتهاد الامام ولأن الجزية وجبت صغارا أو عقوبة فتختلف باختلاف أحوالهم كالعقوبة في البدن منهم من يقتل ومنهم من يسترق ولا يصح كونها عوضا عن سكنى الدار لأنها لو كانت كذلك لوجبت على النساء والصبيان والزمنى والمكافيف .
فصل : وحد اليسار في حقهم ما عده الناس غنى في العادة وليس بمقدر لأن التقديرات بابها التوقيف ولا توقيف في هذا فيرجع فيه إلى العادة والعرف .
فصل : إذا بذلوا الجزية لزم قبولها وحرم قتالهم لقول الله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } إلى قوله { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } فجعل اعطاء الجزية غاية لقتالهم فمتى بذلوها لم يجز قتالهم وقول النبي صلى اله عليه وسلم : [ فادعهم إلى أداء الجزية فان أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ] وإن قلنا ان الجزية غير مقدرة الأكثر لم يحرم قتالهم حتى يجيبوا إلى بذل ما لا يجوز طلب أكثر منه مما يحتمله حالهم .
فصل : وتجب الجزية في آخر كل حول وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة : تجب بأوله ويطالب بها عقيب العقد وتجب الثانية في أول الحول الثاني لقول الله تعالى : { حتى يعطوا الجزية } .
ولنا أنه مال يتكرر بتكرر الحول أو يؤخذ في آخر كل حول فلم يجب بأوله كالزكاة والدية وأما الآية فالمراد بها التزام إعطائها دون نفس الاعطاء ولهذا يحرم قتالهم بمجرد بذلها قبل أخذها .
فصل : وتؤخذ الجزية مما يسر من أموالهم ولا يتعين أخذها من ذهب ولا فضة نص عليه أحمد وهو قول الشافعي وأبي عبيد وغيرهم لأن النبي A لما بعث معاذا إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله مغافر وكان النبي A يأخذ من نصارى نجران ألفي حلة وكان عمر يؤتى ينعم كثيرة يأخذها من الجزية .
وروي عن علي Bه أنه كان يأخذ الجزية من كل صنعة من متاعه من صاحب الإبر إبرا ومن صاحب المسال مسالا ومن صاحب الحبال حبالا ثم يدعو الناس فيعطيهم الذهب والفضة فيقتسمونه ثم يقول : خذوا فاقتسموا فيقولون : لا حاجة لنا فيه فيقول : أخذتم خياره وتركتم شراره لتحملنه وإذا ثبت هذا فانه يؤخذ بالقيمة لقوله عليه السلام : [ أو عدله مغافر ] .
فصل : ولا يصح عقد الذمة والهدنة إلا من الامام أو نائبه وبهذا قال الشافعي ولا نعلم فيه خلافا لأن ذلك يتعلق بنظر الإمام وما يراه من المصلحة ولأن عقد الذمة عقد مؤبد فلم يجز أن يفتات به على الإمام فإن فعله غير الإمام أو نائبه لم يصح لكن إن عقده على ما لا يجوز أن يطلب منهم أكثر منه لزم الإمام إجابتهم إليه وعقدها عليه .
فصل : ويجوز أن يشرط عليهم في عقد الذمة ضيافة من يمر بهم من المسلمين لما روى الامام أحمد باسناده عن الأحنف بن قيس أن عمر شرط عليهم ضيافة يوم وليلة وأن يصلحوا القناطر وإن قتل رجل من المسلمين بأرضهم فعليهم ديته قال ابن المنذر : وروي عن عمر أنه قضى على أهل الذمة ضيافة من يمر بهم من المسلمين ثلاثة أيام وعلف دوابهم وما يصلحهم .
وروي أن النبي A ضرب على نصارى أيلة ثلثمائة دينار وكانوا ثلثمائة نفس في كل سنة وأن يضيفوا من مر بهم من المسلمين ثلاثة أيام ولأن في هذا ضربا من المصلحة لأنهم ربما امتنعوا من مبايعة المسلمين إضرارا بهم فاذا شرطت عليهم الضيافة أمن ذلك وإن لم تشرط الضيافة عليهم لم تجب ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي ومن أصحابنا من قال : تجب بغير شرط لوجوبها على المسلمين والأول أصح لأنه أداء مال فلم يجب بغير رضاهم كالجزية فان شرطها عليهم فامتنعوا من قبولها لم تعقد لهم الذمة وقال الشافعي : لا يجوز قتالهم عليها .
ولنا أنه شرط سائغ امتنعوا من قبوله فقوتلوا عليه كالجزية .
فصل : ذكر القاضي أنه شرط الضيافة فانه يبين أيام الضيافة وعدد من يضاف من الرجالة والفرسان فيقول : تضيفون في كل سنة مائة يوم عشرة من المسلمين من خبز كذا وأدم كذا وللفرس من التبن كذا ومن الشعير كذا فان شرط الضيافة مطلقا صح في الظاهر لأن عمر Bه شرط عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين من غير عدد ولا تقدير قال أبو بكر : إذا أطلق مدة الضيافة فالواجب يوم وليلة لأن ذلك الواجب على المسلمين ولا يكلفونهم الذبيحة ولا ضيافتهم بأرفع من طعامهم لأنه يروى عن عمر أنه شكا اليه أهل الذمة أن المسلمين يكلفونهم الذبيحة فقال : أطعموهم مما تأكلون وقال الأوزاعي : ولا يكلفون الذبيحة ولا الشعير .
وقال القاضي : إذا وقع الشرط مطلقا لم يلزمهم الشعير ويحتمل أن يلزمهم ذلك للخيل لأن العادة جارية به فهو كالخبز للرجل وللمسلمين النزول في الكنائس والبيع فان عمر Bه صالح أهل الشام على أن يوسعوا أبواب بيعهم وكنائسهم لمن يجتاز بهم من المسلمين ليدخلوها ركبانا فان لم يجدوا مكانا فلهم النزول في الأفنية وفضول المنازل وليس لهم تحويل صاحب المنزل منه والسابق إلى منزل أحق له ممن يأتي بعده فان امتنع بعضهم من القيام بما شرط عليه أجبر عليه فان امتنع الجميع أجبروا فان لم يمكن إلا بالمقاتلة قوتلوا فان قاتلوا فقد نقضوا العهد .
فصل : وتقسم الضيافة بينهم على قدر جزيتهم فان جعل الضيافة مكان الجزية جاز لما روي أن عمر Bه كتب لراهب من أهل الشام : إنني إن وليت هذه الأرض أسقطت عنك خراجك فلما قدم الجابية وهو أمير المؤمنين جاءه بكتابه فعرفه وقال : إنني جعلت لك ما ليس لي ولكن اختر إن شئت أداء الخراج وان شئت أن تضيف المسلمين فاختار الضيافة ويشترط عليه ضيافة يبلغ قدرها أقل الجزية إذا قلنا الجزية مقدرة الاقل لئلا ينقص خراجه عن أقل الجزية وذكر أن من الشروط الفاسدة اشتراط الاكتفاء بضيافتهم عن جزيتهم لأن الله تعالى أمر بقتالهم ممدودا الى إعطاء الجزية فان لم يعطها كان قتالهم مباحا ووجه الأول أن هذا اشتراط مال يبلغ قدر الجزية فجار كما لو شرط عليهم عدل الجزية مغافر .
فصل : وإذا شرط في عقد الذمة شرطا فاسدا مثل أن يشترط أن لا جزية عليهم أو إظهار المنكر أو إسكانهم الحجاز أو إدخالهم الحرم ونحو هذا فقال القاضي : يفسد العقد به لأنه شرط فعل محرم فأفسد العقد كما لو شرط قتال المسلمين ويحتمل أن يفسد الشرط وحده ويصح العقد بناء على الشروط الفاسدة في البيع والمضاربة