مسألة وفصول : من شرب مسكرا جلد ثمانين وأحكام ذلك .
مسألة : قال : ومن شرب مسكرا قل أو كثر جلد ثمانين جلدة إذا شربها وهو مختار لشربها وهو يعلم أن كثيرها يسكر .
الكلام في هذه المسألة في فصول : .
الفصل الأول : أن كل مسكر حرام قليله وكثيره وهو خمر حكمه حكم عصير العنب في تحريمه ووجوب الحد على شاربه وروي تحريم ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة وسعد بن أبي وقاص وأبي بن كعب وأنس وعائشة Bهم وبه قال عطاء و طاوس و مجاهد و القاسم و قتادة وعمر بن عبد العزيز و مالك و الشافعي و أبو ثور و أبو عبيد و إسحاق وقال أبو حنيفة في عصير العنب : إذا طبخ فذهب ثلثاه ونقيع التمر والزبيب إذا طبخ وإن لم يذهب ثلثاه ونبيذ الحنطة والذرة والشعير ونحو ذلك نقيعا كان أو مطبوخا كل ذلك حلال إلا ما بلغ السكر فأما عصير العنب إذا اشتد وقذف زبده وطبخ فذهب أقل من ثلثيه ونقيع التمر والزبيب إذا اشتد بغير طبخ فهذا محرم قليله وكثيره لما روى ابن عباس عن النبي A قال : [ حرمت الخمرة لعينها والمسكر من كل شراب ] .
ولنا ما روى ابن عمر قال : قال رسول الله A : [ كل مسكر خمر وكل خمر حرام ] وعن جابر قال : قال رسول الله A : [ ما أسكر كثيره وقليله حرام ] رواهما أبو داود و الأثرم وغيرهما وعن عائشة قالت : سمعت رسول الله A يقول : [ كل مسكر حرام - قال - وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام ] رواه أبو داود وغيره وقال عمر Bه : نزل تحريم الخمر وهي من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل متفق عليه ولأنه مسكر أشبه عصير العنب فأما حديثهم فقال أحمد : ليس في الرخصة في المسكر حديث صحيح وحديث ابن عباس رواه سعيد بن مسعر عن أبي عون عن ابن شداد عن ابن عباس قال : والمسكر من كل شراب وقال ابن المنذر : جاء أهل الكوفة بأحاديث معلولة ذكرناها مع عللها وذكر الأثرم أحاديثهم التي يحتجون بها عن النبي A والصحابة فضعفها كلها ولين عللها وقد قيل إن خبر ابن عباس موقوف عليه مع انه يحتمل أنه أراد بالسكر المسكر من كل شراب فإنه يروي هو وغيره عن النبي A أنه قال : [ كل مسكر حرام ] .
الفصل الثاني : أنه يجب الحد على من شرب قليلا من المسكر أو كثيرا ولا نعلم بينهم خلافا في ذلك في عصير العنب غير المطبوخ في سائرها فذهب إمامنا إلى التسوية بين عصير العنب وكل مسكر وهو قول الحسن وعمر بن عبد العزيز و قتادة و الأوزاعي و مالك و الشافعي وقالت طائفة : لا يحد إلا أن يسكر منهم أبو وائل و النخعي وكثير من أهل الكوفة وأصحاب الرأي وقال أبو ثور : من شربه معتقدا تحريمه حد ومن شربه متأولا فلا حد عليه لأنه مختلف فيه فأشبه النكاح بلا ولي .
ولنا ما روي عن النبي A أنه قال : [ من شرب الخمر فاجلدوه ] رواه أبو داود وغيره وقد ثبت أن كل مسكر خمر فيتناول الحديث قليله وكثيره ولأنه شراب فيه شدة مطربة فوجب الحد بقليله كالخمر والاختلاف فيه لا يمنع وجوب الحد فيها بدليل ما لو اعتقد تحريمها وبهذا فارق النكاح بلا ولي ونحوه من المختلف فيه وقد حد عمر قدامة بن مظعون وأصحابه مع اعتقادهم حل ما شربوه والفرق بين هذا وبين سائر المختلف فيه من وجهين : .
أحدهما : أن فعل المختلف فيه ههنا داعية إلى فعل ما أجمع على تحريمه وفعل سائر المختلف فيه يصرف عن جنسه من المجمع على تحريمه الثاني أن السنة عن النبي A قد استفاضت بتحريم هذا المختلف فيه فلم يبق فيه لأحد عذر في اعتقاد إباحته بخلاف غيره من المجتهدات قال أحمد بن القاسم : سمعت أبا عبد الله يقول في تحريم المسكر عشرون وجها عن النبي A في بعضها : [ كل مسكر خمر ] وبعضها : [ كل مسكر حرام ] .
فصل : وان ثرد بالخمر أو اصطبغ به أو طبخ به لحما فأكل من مرقته فعليه الحد لأن عين الخمر موجودة وكذلك إن لت به سويقا فأكله وإن عجن به دقيقا ثم خبزه فأكله لم يحد لأن النار أكلت أجزاء الخمر فلم يبق إلا أثره وإن احتقن بالخمر لم يحد لأنه ليس بشرب ولا أكل ولأنه لم يصل إلى حلقه فأشبه ما لو داوى به جرحه وإن استعط به فعليه الحد لأنه أوصله الى باطنه من حلقه ولذلك نشر الحرمة في الرضاع دون الحقنة وحكي عن أحمد أن على من احتقن به لأنه أوصله إلى جوفه والأول أولى لما ذكرناه والله أعلم .
الفصل الثالث : في قدر الحد وفيه روايتان : إحداهما أنه ثمانون وبهذا قال مالك و الثوري و أبو حنيفة ومن تبعهم لاجماع الصحابة فإنه روي أن عمر استشار الناس في حد الخمر فقال عبد الرحمن بن عوف : اجعله كأخف الحدود ثمانين فضرب عمر ثمانين وكتب به إلى خالد وأبي عبيدة بالشام وروي أن عليا قال في المشورة : إنه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى فحدوه حد المفتري روى ذلك الجوزجاني و الدارقطني وغيرهما .
والرواية الثانية : أن الحد أربعون وهو اختيار أبي بكر ومذهب الشافعي لأن عليا جلد الوليد بن عقبة أربعين ثم قال : جلد النبي A أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي رواه مسلم وعن أنس قال : [ أتي رسول الله A برجل قد شرب الخمر فضربه بالنعال نحوا من أربعين ثم أتي به أبو بكر فصنع مثل ذلك ثم أتي به عمر فاستسار الناس في الحدود فقال ابن عوف : أقل الحدود ثمانون فضربه عمر ] متفق عليه وفعل النبي A حجة لا يجوز تركه بفعل غيره ولا ينعقد الاجماع على ما خالف فعل النبي وأبي بكر وعلي Bهما فتحمل الزيادة عن عمر على أنها تعزير يجوز فعلها إذ رآه الإمام .
الفصل الرابع : ان الحد إنما يلزم من شربها مختارا لشربها فإن شربها مكرها فلا حد عليه لا اثم سواء أكره بالوعيد والضرب أو الجىء إلى شربها بأن يفتح فوه وتصب فيه فان النبي A قال : [ عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] وكذلك المضطر اليها لدفع غصة بها إذا لم يجد مائعا سواها فان الله تعالى قال في آية التحريم : { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } وإن شربها لعطش نظرنا فإن كانت ممزوجة بما يروي من العطش أبيحت لدفعه عند الضرورة كما تباح الميتة عند المخمصة وكاباحتها لدفع الغصة وقد روينا في حديث عبد الله بن حذافة انه أسره الروم فحبسه طاغيتهم في بيت فيه ماء ممزوج بخمر ولحم خنزير مشوي ليأكله ويشرب الخمر وتركه ثلاثة أيام فلم يفعل ثم أخرجوه حين خشوا موته فقال : والله لقد كان الله أحله لي فاني مضطر ولكن لم أكن لأشمتكم بدين الاسلام وإن شربها صرفا أو ممزوجة بشيء يسير لا يروي من العطش أو شربها للتداوي لم يبح له ذلك وعليه الحد وقال أبو حنيفة : يباح شربها لهما و للشافعية وجهان كالمذهبين ووجه ثالث يباح شربها للتداوي دون العطش لأنها حال ضرورة فأبيحت فيها لدفع الغصة وسائر ما يضطر إليه .
ولنا ما روى الامام أحمد باسناده [ عن طارق بن سويد أنه سأل رسول الله A فقال : إنما أصنعها للدواء فقال : إنه ليس بدواء ولكنه داء ] وباسناده عن مخارق أن [ النبي A دخل على أم سلمة وقد نبذت نبيذا في جرة فخرج والنبيذ يهدر فقال : ما هذا ؟ فقالت : فلانة اشتكت بطنها فنقعت لها فدفعه برجله فكسره وقال : إن الله لم يجعل فيما حرم عليكم شفاء ] ولأنه محرم لعينه فلم يبح للتداوي كلحم الخنزير ولأن الضرورة لا تندفع به فلم يبح كالتداوي بها فيما لا تصلح له .
الفصل الخامس : أن الحد إنما يلزم من شربها عالما أن كثيره يسكر فأما غيره فلا حد عليه لأنه غير عالم بتحريمها ولا قاصد إلى ارتكاب المعصية بها فأشبه من زفت إليه غير زوجته وهذا قول عامة أهل العلم فأما من شربها غير عالم بتحريمها فلا حد عليه أيضا لأن عمر وعثمان قالا : لا حد إلا على من علمه ولأنه غير عالم بالتحريم أشبه من لم يعلم أنها خمر وإذا ادعى الجهل بتحريمها نظرنا فإن كان ناشئا ببلد الاسلام بين المسلمين لم تقبل دعواه لأن هذا لا يكاد يخفى على مثله فلا تقبل دعواه فيه وإن كان حديث عهد باسلام أو ناشئا ببادية بعيدة عن البلدان قبل منه لأنه يحتمل ما قاله .
فصل : ولا يجب الحد حتى يثبت شربه بأحد شيئين : الإقرار أو البينة ويكفي في الإقرار مرة واحدة في قول عامة أهل العلم لأنه حد لا يتضمن إتلافا فأشبه حد القذف واذا رجع عن إقراره قبل رجوعه لأنه حد لله سبحانه فقبل رجوعه عنه كسائر الحدود ولا يعتبر مع الإقرار وجود رائحة .
وحكي عن أبي حنيفة : لا حد عليه إلا أن توجد رائحة ولا يصح لأنه أحد بينتي الشرب فلم يعتبر معه وجود الرائحة كالشهادة ولأنه قد يقر بعد زوال الرائحة عنه ولأنه إقرار بحد فاكتفي به كسائر الحدود .
فصل : ولا يجب الحد بوجود رائحة من فيه في قول أكثر أهل العلم منهم الثوري و أبو حنيفة و الشافعي وروى أبو طالب عن أحمد أنه يحد بذلك وهو قول مالك لأن ابن مسعود جلد رجلا وجد منه رائحة الخمر .
وروي عن عمر أنه قال : إني وجدت من عبيد الله ريح شراب فأقر أنه شرب الطلا فقال عمر : إني سائل عنه فإن كان يسكر جلدته ولأن الرائحة تدل على شربه فجرى مجرى الإقرار والأول أولى لأن الرائحة يحتمل أنه تمضمض بها أو حسبها ماء فلما صارت في فيه مجها أو ظنها لا تسكر أو كان مكرها أو أكل نبقا بالغا أو شرب شراب التفاح فانه يكون منه كرائحة الخمر وإذا احتمل ذلك لم يجب الحد لاذي يدرأ بالشبهات وحديث عمر حجة لنا فانه لم يحده بوجود الرائحة ولو وجب ذلك لبادر إليه عمر والله أعلم .
فصل : وإن وجد سكران أو تقيأ الخمر فعن أحمد : لا حد عليه لاحتمال أن يكون مكرها او لم يعلم أنها تسكر وهذا مذهب الشافعي ورواية أبي طالب عنه في الحد بالرائحة يدل على وجوب الحد ههنا بطريق الأولى لأن ذلك لا يكون إلا بعد شربها فأشبه ما لو قامت البينة عليه بشربها .
وقد روى سعيد : حدثنا هشيم حدثنا المغيرة عن الشعبي قال : لما كان من أمر قدامة ما كان جاء علقمة الخصي فقال : أشهد أني رأيته يتقيؤها فقال عمر : من قاءها فقد شربها فضربه الحد .
وروى حصين بن المنذر الرقاشي قال : شهدت عثمان وأتي بالوليد بن عقبة فشهد عليه حمران ورجل آخر فشهد أحدهما أنه رآه شربها وشهد الآخر أنه رآه يتقيؤها فقال عثمان : انه لم يتقيأها حتى شربها فقال لعلي : أقم عليه الحد فأمر علي عبد الله بن جعفر فضربه راواه مسلم وفي رواية له فقال عثمان : لقد تنطعت في الشهادة وهذا بمحضر من علماء الصحابة وسادتهم ولم ينكر فكان إجماعا ولأنه يكفي في الشهادة عليه أنه شربها ولا يتقيؤها أو يسكر منها حتى يشربها .
فصل : وأما البينة فلا تكون إلا رجلين عدلين مسلمين يشهدان أنه مسكر ولا يحتاجان إلى بيان نوعه لأنه لا ينقسم إلى ما يوجب الحد وإلى ما لا يوجبه بخلاف الزنا فانه يطلق على الصريح وعلى دواعيه ولهذا قال النبي A : [ العينان تزنيان واليدان تزنيان والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ] فلهذا احتاج الشاهدان الى تفسيره وفي مسألتنا لا يسمى غير المسكر مسكرا فلم يفتقر إلى ذكر نوعه ولا يفتقر في الشهادة إلى ذكر عدم الإكراه ولا ذكر علمه أنه مسكر لأن الظاهر الاختيار والعلم وما عداهما نادر بعيد فلم يحتج الى بيانه ولذلك لم يعتبر ذلك في شيء من الشهادات ولم يعتبره عثمان في الشهادة على الوليد بن عقبة ولا اعتبره عمر في الشهادةعلى قدامة بن مظعون ولا في الشهادة على المغيرة بن شعبة ولو شهدا بعتق أو طلاق لم يفتقر إلى ذكر الاختيار كذا ههنا