مسألة وفصول : وجوب الرجم على الزاني المحصن وثبوت ذلك عن رسول الله A وشروط الاحصان .
مسألة : قال أبو القاسم C : واذا زنى الحر المحصن أو الحرة المحصنة جلدا ورجما حتى يموتا في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله C والرواية الأخرى يرجمان ولا يجلدان .
الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة : .
الفصل الأول : في وجوب الرجم على الزاني المحصن رجلا كان أو امرأة وهذا قول عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار في جميع الأعصار ولا نعلم فيه مخالفا الا الخوارج فانهم قالوا : الجلد للبكر والثيب لقول الله تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } وقالوا لا يجوز ترك كتاب الله الثابت بطريق القطع واليقين لاخبار آحاد يجوز الكذب فيها ولأن هذا يفضي الى نسخ الكتاب بالسنة وهو غير جائز .
ولنا أنه ثبت الرجم عن رسول الله A بقوله وفعله في أخبار تشبه المتواتر وأجمع عليه أصحاب رسول الله A على ما سنذكره في أثناء الباب في مواضعه إن شاء الله تعالى وقد أنزله الله تعالى في كتابه وإنما نسخ رسمه دون حكمه فروي عن عمر بن الخطاب Bه أنه قال : ان الله تعالى بعث محمدا A بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأتها وعقلتها ووعيتها ورجم رسول الله A ورجمنا بعده فاخشى إن طال بالناس زمان ان يقول قائل ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى فالرجم حق على من زنى اذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف وقد قرأ بها : [ الشيخ والشيخة اذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم ] متفق عليه أما آية الجلد فنقول بها فان الزاني يجب جلده فان كان ثيبا رجم مع الجلد والآية لم تتعرض لنفيه وإلى هذا أشار علي Bه حين جلد شراحة ثم رجمها وقال : جلدتها بكتاب الله تعالى ثم رجمتها بسنة رسول الله A ثم لو قلنا إن الثيب لا يجلد لكان هذا تخصيصا للآية العامة وهذا سائغ بغير خلاف فان عمومات القرآن في الاثبات كلها مخصصة وقولهم إن هذا نسخ ليس بصحيح وإنما هو تخصيص ثم لو كان نسخا لكان نسخا بالآية التي ذكرها عمر Bه وقد روينا أن رسل الخوارج جاءوا عمر عبد العزيز C فكان من جملة ما عابوا عليه الرجم وقالوا : ليس في كتاب الله إلا الجلد وقالوا الحائض أوجبتم عليها قضاء الصوم دون تالصلاة والصلاة أوكد فقال لهم عمر : وأنتم لا تأخذون إلا بما في كتاب الله ؟ قالوا : نعم قال : فأخبروني عن عدد الصلوات المفروضات وعدد أركانها وركعاتها ومواقيتها أين تجدونه في كتاب الله تعالى ؟ وأخبروني عما تجب الزكاة فيه ومقاديرها ونصبها ؟ فقالوا : انظرنا فرجعوا يومهم ذلك فلم يجدوا شيئا مما سألهم عنه في القرآن فقالوا لم نجده في القرآن قال : فكيف ذهبتم إليه ؟ قالوا : لأن النبي A فعله وفعله المسلمون بعده فقال لهم : فكذلك الرجم وقضاء الصوم فان النبي A رجم ورجم خلفاؤه بعده والمسلمون وأمر النبي A بقضاء الصوم دون الصلاة وفعل ذلك نساؤه ونساء أصحابه إذا ثبت هذا فمعنى الرجم أن يرمى بالحجارة وغيرها حتى يقتل بذلك قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن المرجوم يدام عليه الرجم حتى يموت ولأن إطلاق الرجم يقتضي القتل به كقوله تعالى : { لتكونن من المرجومين } وقد رجم رسول الله A اليهوديين اللذين زنيا وماعزا والغامدية حتى ماتوا .
فصل : وإذا كان الزاني رجلا أقيم قائما ولم يوثق بشيء ولم يحفر له سواء ثبت الزنا ببينة أو إقرار لا نعلم فيه خلافا لأن النبي A لم يحفر لماعز قال أبو سعيد : [ لما أمر رسول الله A برجم ماعز خرجنا به الى البقيع فوالله ما حفرنا له ولا أوثقناه ولكنه قام لنا ] رواه أبو داود ولأن الحفر له ودفن بعضه عقوبة لم يرد بها الشرع في حقه فوجب أن لا تثبت وإن كان امرأة فظاهر كلام احمد أنها لا يحفر لها أيضا وهو الذي ذكره القاضي في الخلاف وذكر في المجرد أنه إن ثبت الحد بالاقرار لم يحفر لها وإن ثبت بالبينة حفر لها إلى الصدر قال ابو الخطاب : وهذا أصح عندي وهو قول أصحاب الشافعي لما روى أبو بكر وبريدة [ أن النبي A رجم امرأة فحفر لها الى التندوة ] رواه أبو داود ولأنه استر لها ولا حاجة الى تمكينها من الهرب لكون الحد ثبت بالبينة فلا يسقط بفعل من جهتها بخلاف الثابت بالاقرار فإنها تترك على حال لو أرادت الهرب تمكنت منه لأن رجوعها عن اقرارها مقبول .
ولنا أن أكثر الاحاديث على ترك الحفر فان النبي A لم يحفر للجهنية ولا لماعز ولا لليهوديين والحديث الذي احتجوا به غير معمول به ولا يقولون به فان التي نقل عنه الحفر لها ثبت حدها باقرارها ولا خلاف بيننا فيها فلا يسوغ لهم الاحتجاج به مع مخالفتهم له إذا ثبت هذا فان ثياب المرأة تشد عليها كيلا تنكشف وقد روى أبو داود باسناده عن عمران بن حصين قال : فامر بها النبي A فشدت عليها ثيايها ولأن ذلك استر لها .
فصل : والسنة أن يدور الناس حول المرجوم فإن كان الزنا ثبت ببينة فالسنة ان يبدأ الشهود بالرجم وإن كان ثبت باقرار بدأ به الإمام أو الحاكم إن كان ثبت عنده ثم يرجم الناس بعده وروى سعيد باسناده عن علي Bه أنه قال : الرجم رجمان فما كان منه باقرار فأول من يرجم الإمام ثم الناس وما كان ببينة فأول من يرجم البينة ثم الناس ولأن فعل ذلك أبعد لهم من التهمة في الكذب عليه فان هرب منهم وكان الحد ثبت ببينة اتبعوه حتى يقتلوه وإن كان ثبت بإقرار تركوه لما [ روي أن ماعز بن مالك لما وجد مس الحجارة خرج يشتد فلقيه عبد الله بن أنيس وقد عجز أصحابه فنزع له بوظيف بعير فرماه به فقتله ثم أتى النبي A فذكر ذلك له فقال : هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه ؟ ] رواه أبو داود ولأنه يحتمل الرجوع فيسقط عنه الحد فان قتله قاتل في هربه فلا شيء عليه لحديث ابن أنيس حين قتل ماعزا ولأنه قد ثبت زناه باقراره فلا يزول ذلك باحتمال الرجوع وان لم يقتل واتي به الامام فكان مقيما على اعترافه رجمه وإن رجع عنه تركه .
الفصل الثاني : أنه يجلد ثم يرجم في إحدى الروايتين فعل ذلك علي Bه وبه قال ابن عباس وأبي بن كعب و أبو ذر ذكر ذلك عبد العزيز عنهما واختاره وبه قال الحسن و اسحاق و داود و ابن المنذر والرواية الثانية يرجم ولا يجلد روي عن عمر وعثمان أنهما رجما ولم يجلدا وروي عن ابن مسعود أنه قال : إذا اجتمع حدان لله تعالى فيهما القتل أحاط القتل بذلك وبهذا قال النخعي و الزهري و الأوزاعي و مالك و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي واختار هذا ابو اسحاق الجوزجاني و أبو بكر الأثرم ونصراه في سننهما [ لأن جابرا روى أن النبي A رجم ماعزا ولم يجلده ورجم الغامدية ولم يجلدها ] و [ قال : واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فان اعترفت فارجمها ] متفق عليه ولم يأمره بجلدها وكان هذا آخر الامرين من رسول الله A فوجب تقديمه قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يقول : في حديث عبادة أنه اول حد نزل وان حديث ماعز بعده رجمه رسول الله A ولم يجلده وعمر رجم ولم يجلد ونقل عنه اسماعيل بن سعيد نحو هذا ولأنه حد فيه قتل فلم يجتمع معه جلد كالردة ولأن الحدود إذا اجتمعت وفيها قتل سقط ما سواه فالحد أولى .
ووجه الرواية قوله تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } وهذا عام ثم جاءت السنة بالرجم في حق الثيب والتغريب في حق البكر فوجب الجمع بينهما وإلى هذا أشار علي Bه بقوله : جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله A وقد صرح النبي A بقوله في حديث عبادة : [ والثيب بالثيب الجلد والرجم ] وهذا الصريح الثابت بيقين لا يترك إلا بمثله والأحاديث الباقية ليست صريحة فانه ذكر الرجم ولم يذكر الجلد فلا يعارض به الصريح بدليل أن التغريب يجب بذكره في هذا الحديث وليس بمذكور في الآية ولأنه زان فيجلد كالبكر ولأنه قد شرع في حق البكر عقوبتان الجلد والتغريب فيشرع في حق المحصن أيضا عقوبتان الجلد والرجم فيكون الرجم مكان التغريب فعلى هذه الرواية يبدأ بالجلد أولا ثم يرجم فان والى بينهما جاز لأن إتلافه مقصود فلا تضر الموالاة بينهما وإن جلده يوما ورجمه في آخر جاز فان عليا Bه جلد شراحة يوم الخميس ثم رجمها يوم الجمعة ثم قال : جلدتها بكتاب الله تعالى ورجمتها بسنة رسول الله A .
الفصل الثالث : ان الرجم لا يجب إلا على المحصن باجماع أهل العلم وفي حديث عمر : إن الرجم حق على من زنى وقد أحصن وقال النبي A : [ لا يحل دم امرىء مسلم إلا باحدى ثلاث ] ذكر منها [ أو زنى بعد إحصان ] وللاحصان شروط سبعة : أحدها : الوطء في القبل ولا خلاف في اشتراطه لأن النبي A قال : [ الثيب بالثيب الجلد والرجم ] والثيابة تحصل بالوطء في القبل فوجب اعتباره ولا خلاف في أن عقد النكاح الخالي عن الوطء به إحصان سواء حصلت فيه خلوة أو وطء دون الفرج أو في الدبر أو لم يحصل شيء من ذلك لأن هذا لا تصير به المرأة ثيبا ولا تخرج به عن حد الأبكار الذين حدهم جلد مائة وتغريب عام بمقتضى الخبر ولا بد ان يكون وطأ حصل به تغييب الحشفة في الفرج لأن ذلك حد الوطء الذي يتعلق به أحكام الوطء .
الثاني : أن يكون في نكاح لأن النكاح يسمى إحصانا بدليل قول الله تعالى : { المحصنات من النساء } يعني المتزوجات ولا خلاف بين أهل العلم في أن الزنا ووطء الشبهة لا يصير به الواطىء محصنا ولا نعلم خلافا في أن التسري لا يحصل به الاحصان لواحد منهما لكونه ليس بنكاح ولا يثبت فيه أحكامه .
الثالث : أن لا يكون النكاح صحيحا وهذا قول أكثر أهل العلم منهم عطاء و قتادة و مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وقال أبو ثور يحصل الاحصان بالوطء في نكاح فاسد وحكي ذلك عن الليث و الاوزاعي لأن الصحيح والفاسد سواء في أكثر الأحكام مثل وجوب المهر والعدة وتحريم الربيبة وأم المرأة ولحاق الولد فكذلك في الاحصان .
ولنا أنه وطء في غير ملك فلم يحصل به الإحصان كوطء الشبهة ولا نسلم ثبوت ما ذكروه من الأحكام وإنما ثبتت بالوطء فيه وهذه ثبتت في كل وطء وليست مختصة بالنكاح إلا أن النكاح ههنا صار شبهة فصار الوطء فيه كوطء الشبهة سواء الرابع الحرية وهي شرط في قول أهل العلم كلهم إلا أبا ثور قال : العبد والامة هما محصنان يرجمان إذا زنيا إلا أن يكون إجماع يخالف ذلك وحكي عن الأوزاعي في العبد تحته حرة هو محصن يرجم إذا زنا وان كان تحته أمة لم يرجم وهذه أقوال تخالف النص والاجماع فان الله تعالى قال { فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } والرجم لا ينتصف وإيجابه كله يخالف النص مع مخالفة الاجماع المنعقد قبله إلا أن يكون إذا عتقا بعد الاصابة فهذا فيه اختلاف سنذكره إن شاء الله تعالى وقد وافق الأوزاعي على أن العبد إذا وطىء الأمة ثم عتقا لم يصيرا محصنين وهو قول الجمهور وزاد فقال في المملوكين اذا أعتقا وهما متزوجان ثم وطئها الزوج : لا يصيران محصنين بذلك الوطء وهو أيضا قول شاذ خالف أهل العلم به فان الوطء وجد منهما حال كمالهما فحصنهما كالصبيين إذا بلغا الشرط الخامس والسادس البلوغ والعقل فلو وطىء وهو صبي أو مجنون ثم بلغ أو عقل لم يكن محصنا هذا قول أكثر أهل العلم ومذهب الشافعي ومن أصحابه من قال يصير محصنا وكذلك العبد إذا وطىء في رقه ثم عتق يصير محصنا لأن هذا وطء يحصل به الاحلال للمطلق ثلاثا فحصل به الاحصان كالموجود حال الكمال .
ولنا قوله عليه السلام : [ والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ] فاعتبر الثيوبة خاصة ولو كانت تحصل قبل ذلك لكان يجب عليه الرجم قبل بلوغه وعقله وهو خلاف الاجماع ويفارق الإحصان الإحلال لأن اعتبار الوطء في حق المطلق يحتمل أن يكون عقوبة له بتحريمها عليه حتى يطأها غيره ولأن هذا مما تأباه الطباع ويشق على النفوس فاعتبره الشارع زجرا على الطلاق ثلاثا وهذا يستوي فيه العاقل والمجنون بخلاف الإحصان فإنه اعتبر لكمال النعمة في حقه فإن من كملت النعمة في حقه كانت جنايته أفحش وأحق بزيادة العقوبة والنعمة في العاقل البالغ أكمل والله أعلم .
الشرط السابع : أن يوجد الكمال فيهما جميعا حال الوطء فيطأ الرجل العاقل الحر امرأة عاقلة حرة وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه ونحوه قول عطاء و الحسن و ابن سيرين و النخعي و قتادة و الثوري و اسحاق قالوه في الرقيق وقال مالك : إذا كان أحدهما كاملا صار محصنا إلا الصبي إذا وطىء الكبيرة لم يحصنها ونحوه عن الأوزاعي واختلف عن الشافعي فقيل له قولان : أحدهما كقولنا والثاني أن الكامل يصير محصنا وهذا قول ابن المنذر لأنه حر بالغ عاقل وطىء في نكاح صحيح فصار محصنا كما لو كان الآخر مثله وقال بعضهم : إنما القولان في الصبي دون العبد فانه يصير محصنا قولا واحدا إذا كان كاملا .
ولنا أنه وطء لم يحصن به أحد المتواطئين فلم يحصن الآخر كالتسري ولأنه متى كان أحدهما ناقصا لم يكمل الوطء فلا يحصل به الاحصان كما لو كانا غير كاملين وبهذا فارق ما قاسوا عليه