كتاب قتال أهل البغي : وفيه خمس فوائد .
والأصل في هذا الباب قول الله سبحانه : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } إلى قوله { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } ففيها خمس فوائد : .
أحدها أنهم لم يخرجوا بالبغي عن الإيمان فانه سماهم مؤمنين الثانية أنه أوجب قتالهم الثالثة أنه أسقط قتالهم إذا فاءوا إلى أمر الله الرابعة أنه أسقط عنهم التبعة فيما أتلفوه في قتالهم الخامسة أن الآية أفادت جواز قتال كل من منع حقا عليه وروى عبد الله بن عمرو وقال : سمعت رسول الله A يقول : [ من أعطى إماما صفقة يده وثمرة فؤاده فليطعه ما استطاع فان جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر ] رواه مسلم وروى عرفجة قال : قال رسول الله A : [ ستكون هنات وهنات - ورفع صوته ألا ومن خرج على أمتي وهم جميع فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان ] فكل من ثبتت إمامته وجبت طاعته وحرم الخروج عليه وقتاله لقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } وروى عبادة بن الصامت قال : بايعنا رسول الله A على السمع والطاعة في المنشط والمكره وأن لا ننازع الأمر أهله وروي عن النبي A أنه قال : [ من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فميتته جاهلية ] رواه ابن عبد البر من حديث أبي هريرة وأبي ذر وابن عباس كلها بمعنى واحد وأجمعت الصحابة Bهم على قتال البغاة فان أبا بكر Bه قاتل مانعي الزكاة وعلي Bه قاتل أهل الجمل وصفين وأهل النهروان .
والخارجون عن قبضة الامام أصناف أربعة : احدها قوم امتنعوا من طاعته وخرجوا عن قبضته بغير تأويل فهؤلاء قطاع طريق ساعون في الارض بالفساد ياتي حكمهم في باب مفرد .
الثاني : قوم لهم تأويل إلا أنهم نفر يسير لا منعة لهم كالواحد والاثنين والعشرة ونحوهم فهؤلاء قطاع طريق في قول أكثر أصحابنا وهو مذهب الشافعي لان ابن ملجم لما جرح عليا قال للحسن ان برئت رأيت رأيي وان مت فلا تمثلوا به فلم يثبت بفعله حكم البغاة ولأننا لو أثبتنا للعدد اليسير حكم البغاة في سقوط ضمان ما أتلفوه أفضى إلى إتلاف أموال الناس وقال أبو بكر : لا فرق بين الكثير والقليل وحكمهم حكم البغاة إذا خرجوا عن حكم الامام .
الثالث : الخوارج الذين يكفرون بالذنب ويكفرون عثمان وعليا وطلحا والزبير وكثيرا من الصحابة ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم إلا من خرج معهم فظاهر قول الفقهاء من أصحابنا المتأخرين أنهم بغاة حكمهم حكمهم وهذا قول أبي حنيفة و الشافعي وجمهور الفقهاء وكثير من أهل الحديث و مالك يرى استتابتهم فان تابوا وإلا قتلوا على إفسادهم لا على كفرهم وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنهم كفار مرتدون حكمهم حكم المرتدين وتباح دماؤهم وأموالهم فان تحيزوا في مكان وكانت لهم منعة وشوكة صاروا أهل حرب كسائر الكفار وان كانوا في قبضة الامام استتابهم كاستتابة المرتدين فان تابوا وإلا ضربت أعناقهم وكانت أموالهم فيئا لا يرثهم ورثتهم المسلمون لما روى أبو سعيد قال : سمعت رسول الله A يقول : [ يخرج قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وأعمالكم مع أعمالهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر في النصل فلا يرى شيئا وينظر في القدح فلا يرى شيئا وينظر في الريش فلا يرى شيئا ويتمارى في الفوق ] رواه مالك في موطئه و البخاري في صحيحه وهو حديث صحيح ثابت الإسناد وفي لفظ قال : [ يخرج في قوم آخر الزمان أحداث الاسنان سفهاء الاحلام يقولون من خير قول البرية يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتهم فاقتلهم فان قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة ] رواه البخاري وروى معناه من وجوه يقول فكما خرج هذا السهم نقيا خاليا من الدم والفرث لم يتعلق منها بشيء كذلك خروج هؤلاء من الدين يعني الخوارج وعن أبي أمامة أنه رأى رؤوسا منصوبة على درج مسجد دمشق فقال : كلاب النار شر قتلى تحت أديم السماء خير قتلى من قتلوه ثم قرأ : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } الى آخر الآية فقيل له انت سمعته من رسول الله A ؟ قال : لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا أو أربعا حتى عد سبعا ما حدثتكموه قال الترمذي : هذا حديث حسن ورواه ابن ماجة عن سهل عن ابن عيينة عن أبي غالب انه سمع أبا امامة يقول : شر قتلى قتلوا تحت أديم السماء وخير قتلى من قتلوا كلاب أهل النار كلاب أهل النار كلاب أهل النار قد كان هؤلاء مسلمين فصاروا كفارا قلت : يا أبا أمامة هذا شيء تقوله ؟ قال : بل سمعت رسول الله A .
وعن علي Bه في قوله تعالى : { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا } قال : هم أهل النهروان وعن أبي سعيد في حديث آخر عن النبي A قال [ هم شر الخلق والخليقة لإن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ] وقال : [ لا يجاوز إيمانهم حناجرهم ] وأكثر الفقهاء على أنهم بغاة ولا يرون تكفيرهم قال ابن المنذر : لا أعلم أحدا وافق أهل الحديث على تكفيرهم وجعلهم كالمرتدين وقال ابن عبد البر في الحديث الذي رويناه قوله : [ يتمارى في الفوق ] يدل على انه لم يكفرهم لأنهم علقوا من الاسلام بشيء بحيث يشك في خروجهم منه وروي عن علي أنه لما قاتل أهل النهر قال لاصحابه : لا تبدأوهم في القتال وبعث اليهم أقيدونا بعبد الله بن خباب قالوا : كلنا قتله فحينئذ استحل قتالهم لاقرارهم على أنفسهم بما يوجب قتلهم وذكر ابن عبد البر عن علي Bه أنه سئل عن أهل النهر : أكفار هم ؟ قال : من الكفر فروا قيل : فمنافقون ؟ قال : إن المنافقين لا يذكون الله إلا قليلا قيل : فما هم ؟ قال : هم قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا وبغوا علينا وقاتلونا فقاتلناهم ولما جرحه ابن ملجم قال للحسن : أحسنوا إساره فان عشت فأنا ولي دمي وإن مت فضربة كضربتي وهذا رأي عمر بن عبد العزيز فيهم وكثير من العلماء والصحيح إن شاء الله ان الخوارج يجوز قتلهم ابتداء والاجهاز على جريحهم لأمر النبي A بقتلهم ووعده بالثواب من قتله فان عليا Bه قال : لولا أن ينظروا لحدثتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان محمد A ولان بدعتهم وسوء فعلهم يقتضي حل دمائهم بدليل ما أخبر به النبي A من عظم ذنبهم وأنهم شر الخلق والخليقة وأنهم يمرقون من الدين وأنهم كلاب النار وحثه على قتلهم واخباره بأنه لو أدركهم لقتلهم قتل عاد فلا يجوز الحاقهم بمن أمر النبي A بالكف عنهم وتورع كثير من أصحاب النبي A عن قتالهم ولا بدعة فيهم .
الصنف الرابع : قوم من أهل الحق يخرجون عن قبضة الامام ويرومون خلعه لتأويل سائغ وفيهم منعة يحتاج في كفهم إلى جمع الجيش فهؤلاء البغاة الذين نذكر في هذا الباب حكمهم وواجب على الناس معونة إمامهم في قتال البغاة لما ذكرنا في أول الباب ولأنهم لو تركوا معونته لقهره أهل البغي وظهر الفساد في الأرض