مسألة وفصول : إذا كان بينهم عداوة ولوث فادعى أولياؤه على واحد وبيان اللوث المشترط في القسامة وتقسيم الأيمان وحكم الإقرار بالقتل .
مسألة : قال : فان كان بينهم عداوة ولوث فادعى أولياؤه على واحد حلف الأولياء على قاتله خمسين يمينا واستحقوا دمه إذا كانت الدعوى عمدا .
الكلام في هذه المسألة في فصول أربعة : .
الفصل الأول : في اللوث المشترط في القسامة واختلفت الرواية عن أحمد فيه فروي عنه أن اللوث هو العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه كنحو ما بين الأنصار ويهود خيبر وما بين القبائل والأحياء واهل القرى الذين بينهم الدماء والحروب وما بين أهل العدل وما بين الشرطة واللصوص وكل من بينه وبين المقتول ضغن يغلب على الظن أنه قتله نقل مهنا عن أحمد فيمن وجد قتيلا في المسجد الحرام ينظر من بينه وبينه في حياته شئ يعني ضغنا يؤحذون به ولم يذكر القاضي في اللوث غير العداوة إلا أنه قال في الفريقين يقتتلان فينكشفون عن قتيل فاللوث على الطائفة واللوث على طائفة القتيل إذا ثبت هذا فإنه لا يشترط مع العداوة أن لا يكون في الموضع الذي به القتيل غير العدو نص عليه أحمد في رواية مهنا التي ذكرناها وكلام الخرقي يدل عليه أيضا واشترط القاضي أن لا يوجد القتيل في موضع عدو لا يختلط بهم غيرهم وهذا مذهب الشافعي لأن الأنصاري قتل في خيبر ولم يكن فيها إلا اليهود وجميعهم أعداء ولأنه متى اختلط بهم غيرهم احتمل ان يكون القاتل ذلك الغير ثم ناقض القاضي قوله فقال في قوم ازدحموا في مضيق فافترقوا عن قتيل : إن كان في القوم من بينه وبينهم عداوة وأمكن أن يكون هو قتله لكونه بقربه فهو لوث فجعل العداوة لوثا مع وجود غير العدو .
ولنا أن النبي A لم يسأل الأنصار هل كان بخيبر غير اليهود أم لا مع أن الظاهر وجود غيرهم فيها لأنها كانت أملاكا للمسلمين يقصدونها لأخذ غلات أملاكهم منها وعمارتها والاطلاع عليها والامتيار منها ويبعد أن تكون مدينة على جادة تخلو من غير أهلها وقول الأنصار : ليس لنا بخيبر عدو إلا يهود يدل على أنه قد كان بها غيرهم ممن ليس بعدو ولأن اشتراكهم في العداوة لا يمنع من وجود اللوث في حق واحد وتخصيصه بالدعوى مع مشاركة غيره في احتمال قتله فلأن يمنع ذلك وجود من يبعد منه القتل أولى وما ذكروه من الاحتمال لا ينفي اللوث فإن اللوث لا يشترط فيه يقين القتل من المدعى عليه ولا ينافيه الاحتمال ولو تيقن القتل من المدعى عليه لما احتيج إلى الأيمان ولو اشترط نفي الاحتمال لما صحت الدعوى على واحد من جماعة لأنه يحتمل أن القاتل غيره ولا على الجماعة كلهم لأنه يحتمل أن لا يشترط الجميع في قتله والرواية الثانية عن أحمد أن اللوث ما يغلب على الظن صدق المدعي وذلك من وجوه أحدها العداوة المذكورة والثاني أن يتفرق جماعة عن قتيل فيكون ذلك لوثا في حق كل واحد منهم فان ادعى الولي على واحد فأنكر كونه مع الجماعة فالقول قوله مع يمينه ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأن الأصل عدم ذلك إلا أن يثبت ببينة الثالث أن يزدحم الناس في مضيق فيوجد فيهم قتيل فظاهر كلام أحمد أن هذا ليس بلوث فانه قال فيمن مات بالزحام يوم الجمعة فديته في بيت المال وهذا قول إسحاق وروي ذلك عن عمر وعلي فإن سعيدا روى في سننه عن ابراهيم قال : قتل رجل في زحام الناس بعرفة فجاء أهله إلى عمر فقال : بينتكم على من قتله فقال علي : يا أمير المؤمنين لا يطل دم امرىء مسلم إن علمت قاتله وإلا فأعطه ديته من بيت المال قال أحمد فيمن وجد مقتولا في المسجد الحرام : ينظر من كان بينه وبينه شيء في حياته يعني عداوة يؤخذون فلم يجعل الحضور لوثا وإنما جعل اللوث العداوة وقال الحسن و الزهري فيمن مات في الزحام : ديته على من حضر لأن قتله حصل منهم وقال مالك : دمه هدر لأنه لا يعلم له قاتل ولا وجد لوث فيحكم بالقسامة .
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز انه كتب اليه في رجل وجد قتيلا لم يعرف قاتله فكتب اليهم ان من القضايا قضايا لا يحكم فيها إلا في الدار الآخرة وهذا منها .
الرابع : أن يوجد قتيل لا يوجد بقربه إلا رجل معه سيف أو سكين ملطخ بالدم ولا يوجد غيره ممن يغلب على الظن أنه قتله مثل أن يرى رجلا هاربا يحتمل أنه القاتل أو سبعا يحتمل ذلك فيه .
الخامس : أن يقتتل فئتان فيفترقون عن قتيل من إحداهما فاللوث على الأخرى ذكره القاضي فان كانوا بحيث لا تصل سهام بعضهم بعضا فاللوث على طائفة القتيل هذا قول الشافعي .
وروي عن أحمد أن عقل القتيل على الذين نازعوهم فيما اذا اقتتلت الفئتان إلا أن يدعوا على واحد بعينه وهذا قول مالك وقال ابن أبي ليلى على الفريقين جميعا لأنه يحتمل أنه مات من فعل أصحابه فاستوى الجميع فيه وعن أحمد في قوم اقتتلوا فقتل بعضهم وجرح بعضهم فدية المقتولين على المجروحين تسقط منها دية الجراح وإن كان فيهم من لا جرح فيه فهل عليه من الديات شيء ؟ على وجهين ذكرهما ابن حامد .
السادس : أن يشهد بالقتل عبيد ونساء فهذا فيه عن أحمد روايتان : احداهما : أنه لوث لأنه يغلب على الظن صدق المدعي في دعواه فأشبه العداوة .
والثانية : ليس بلوث لأنها شهادة مردودة فلم تكن لوثا كما لو شهد به كفار وإن شهد به فساق أو صبيان فهل يكون لوثا ؟ على وجهين : .
احدهما : ليس بلوث لأنه لا يتعلق بشهادتهم حكم فلا يثبت اللوث بها كشهادة الاطفال والمجانين والثاني يثبت بها اللوث لأنها شهادة يغلب على الظن صدق المدعي فأشبه شهادة النساء والعبيد وقول الصبيان معتبر في الاذن في دخول الدار وقبول الهدية ونحوها وهذا مذهب الشافعي ويعتبر أن يجيء الصبيان متفرقين لئلا يتطرق اليهم التواطؤ على الكذب فهذه الوجوه قد ذكر عن أحمد أنها لوث لأنها يغلب على الظن صدق المدعي أشبهت العداوة وروي أن هذا ليس بلوث وهو ظاهر كلامه في الذي قتل في الزحام لأن اللوث إنما يثبت بالعداوة بقضية الأنصاري القتيل بخيبر ولا يجوز القياس لأن الحكم ثبت بالمظنة ولا يجوز القياس في المظان لأن الحكم إنما يتعدى بتعدي سببه والقياس في المظان جمع بمجرد الحكمة وغلبة الظنون والحكم والظنون تختلف ولا تأتلف وتنخبط ولا تنضبط وتختلف باختلاف القرائن والأحوال والأشخاص فلا يمكن ربط الحكم بها ولا تعديته بتعديها ولأنه يعتبر في التعدية والقياس التساوي بين الأصل والفرع في المقتضي ولا سبيل الى يقين التساوي بين الظنين مع كثرة الاحتمالات وترددها فعلى هذه الرواية حكم هذه الصور حكم غيرها مما لا لوث فيه .
فصل : وإن شهد رجلان على رجل أنه قتل أحد هذين القتيلين لم تثبت هذه الشهادة ولم يكن لوثا عند أحد علمائنا قوله وإن شهدا أن هذا القتيل قتله أحد هذين الرجلين أو شهد أحدهما أن هذا قتله وشهد الآخر أنه أقر بقتله أو شهد أحدهما أن هذا قتله بسيف وشهد الآخر أنه قتله بسكين لم تثبت الشهادة ولم يكن لوثا هذا قول القاضي واختياره والمنصوص عن أحمد فيما إذا شهد أحدهما بقتله والآخر بالاقرار بقتله أنه يثبت القتل واختار أبو بكر ثبوت القتل ههنا وفيما إذا شهد أحدهما أنه قتله بسيف وشهد الآخر أنه قتله بسكين لأنهما اتفقا على القتل واختلفا في صفته وقال الشافعي : هو لوث في هذه الصورة في أحد القولين وفي الصورتين اللتين قبلها هو لوث لأنها شهادة يغلب على الظن صدق المدعي أشبهت شهادة النساء والعبيد ولنا أنها شهادة مردودة للاختلاف فيها فلم يكن لوثا كالصورة الاولى .
فصل : وليس من شرط اللوث أن يكون بالقتيل أثر وبهذا قال مالك و الشافعي وعن أحمد أنه شرط وهذا قول حماد و أبي حنيفة و الثوري لأنه اذا لم يكن به أثر احتمل أنه مات حتف أنفه .
ولنا أن النبي A لم يسأل الأنصار هل كان بقتيلهم أثر أو لا ؟ ولأن القتل يحصل بما لا أثر له كغم الوجه والخنق وعصر الخصيتين وضربة الفؤاد فأشبه من به أثر ومن به أثر قد يموت حتف أنفه لسقطته أو صرعته أو يقتل نفسه فعلى قول من اعتبر الأثر ان خرج الدم من أذنه فهو لوث لأنه لا يكون الا بالخنق له او أمر أصيب به وان خرح من أنفه فهل يكون لوثا ؟ على وجهين .
الفصل الثاني : أن القسامة لاتثبت ما لم يتفق الأولياء على الدعوى فان كذب بعضهم بعضا فقال أحدهم قتله هذا وقال الآخر لم يقتله هذا أو قال بل قتله هذا الآخر لم تثبت القسامة نص عليه أحمد وسواء كان المكذب عدلا أو فاسقا وذكر عن الشافعي أن القسامة لا تبطل بتكذيب الفاسق لأن قوله غير مقبول .
ولنا أنه مقر على نفسه بتبرئة من ادعى عليه أخوه فقبل كما لو ادعى دينا لهما وإنما لا يقبل قوله على غيره فأما على نفسه فهو كالعدل لأنه لا يتهم في حقها فأما إن لم يكذبه ولم يوافقه في الدعوى مثل أن قال أحدهما قتله هذا وقال الآخر لا نعلم قاتله فظاهر كلام الخرقي أن القسامة لا تثبت لاشتراطه ادعاء الأولياء على واحد وهذا قول مالك وكذلك إن كان أحد الوليين غائبا فادعى الحاضر دون الغائب أو ادعيا جميعا على واحد ونكل أحدهما عن الايمان لم يثبت القتل في قياس قول الخرقي ومقتضى قول أبي بكر و القاضي ثبوت القسامة وكذلك مذهب الشافعي لأن أحدهما لم يكذب الآخر فلم تبطل القسامة كما لو كان أحد الوارثين امرأة أو صغيرا فعلى قولهم يحلف المدعي خمسين يمينا ويستحق نصف الدية لأن الأيمان ههنا بمنزلة البينة ولا يثبت شيء من الحق الا بعد كمال البينة فأشبه ما لو ادعى أحدهما دينا لأبيهما فانه لا يستحق نصيبه من الدين إلا أن يقيم بينة كاملة وذكر أبو الخطاب فيما إذا كان أحدهما غائبا أن الاول فيه وجهان : .
أحدهما : أنه يحلف خمسا وعشرين يمينا وهذا قول ابن حامد لأن الايمان مقسومة عليه وعلى أخيه بدليل ما لو كانا حاضرين متفقين في الدعوى ولا يحلف الانسان عن غيره فلا يلزمه أكثر من حصته فاذا حضر الغائب أقسم خمسا وعشرين يمينا وجها واحدا لأنه يبني على أيمان أخيه وذكر أبو بكر و القاضي في نظير هذه المسألة أن الأول يحلف خمسين يمينا وهل يحلف الثاني خمسين أو خمسا وعشرين ؟ على وجهين : .
أحدهما : يقول : يحلف خمسين لأن أخاه لم يستحق إلا بخمسين فكذلك هو .
ولنا أنهما لم يتفقا في الدعوى فلم تثبت القسامة كما لو كذبه ولأن الحق في محل الوفاق إنما يثبت بأيمانهما التي أقيمت مقام البينة ولا يجوز أن يقوم أحدهما مقام الآخر في الأيمان كما في سائر الدعاوى فعلى هذا إن قدم الغائب فوافق أخاه أو عاد من لم يعلم فقال : قد عرفته هو الذي عينه أخي أقسما حينئذ وإن قال أحدهما قتله هذا وقال الآخر قتله هذا وفلان فعلى قول الخرقي لا تثبت القسامة لأنها لا تكون إلا على واحد وعلى قول غيره يحلفان على من اتفقا عليه ويستحقان نصف الدية ولا يجب القود لأنه انما يجب في الدعوى على واحد ويحلفان جميعا على هذا الذي اتفقا عليه على حسب دعواهما ويستحقان نصف الدية ولا يجب أكثر من نصف الدية لأن أحدهما يكذب الآخر في النصف الآخر فبقي اللوث في حقه في نصف الدم الذي اتفقا عليه ولم يثبت في النصف الذي كذبه أخوه فيه ولا يحلف الآخر على الآخر لأن أخاه كذبه في دعواه عليه وان قال أحدهما قتل أبي زيد وآخر لا أعرفه وقال الآخر قتله عمرو وآخر لا أعرفه لم تثبت القسامة في ظاهر قول الخرقي لأنها لا تكون إلا على واحد ولأنهما ما اتفقا في الدعوى على واحد ولا يمكن أن يحلفا على من لم يتفقا في الدعوى عليه والحق إنما ثبت في محل الوفاق بأيمان الجميع فكيف يثبت في الفرع بأيمان البعض ؟ وقال أبو بكر و القاضي : تثبت القسامة وهذا مذهب الشافعي لأنه ليس ههنا تكذيب فانه يجوز أن يكون الذي جهله كل واحد منهما هو الذي عرفه أخوه فيحلف كل واحد منهما على الذي عينه خمسين يمينا ويستحق ربع الدية فان عاد كل واحد منهما فقال : قد عرفت الذي جهله وهو الذي عينه أخي حلف أيضا على الذي حلف عليه أخوه وأخذ منه ربع الدية ويحلف خمسا وعشرين يمينا لأنه يبني على أيمان أخيه فلم يلزمه أكثر من خمس وعشرين كما لو عرفه ابتداء وفيه وجه آخر أنه يحلف خمسين يمينا لأن أخاه حلف خمسين يمينا و للشافعي في هذا قولان كالوجهين ويجيء في المسألة وجه آخر وهو أن الاول لا يحلف أكثر من خمسة وعشرين يمينا لأنه إنما يحلف على ما يستحقه والذي يستحقه النصف فيكون عليه نصف الأيمان كما لو حلف أخوه معه وإن قال كل واحد منهما الذي كنت جهلته غير الذي عينه أخي بطلت القسامة التي أقسماها لأن التكذيب يقدح في اللوث فيرد كل واحد منهما ما أخذ من الدية وإن كذب أحدهما اخاه ولم يكذبه الآخر بطلت قسامة المكذب دون الذي لم يكذب .
فصل : وإن قال الولي بعد القسامة : غلطت ما هذا الذي قتله أو ظلمته بدعواي القتل عليه أو قال : كان هذا المدعى عليه في بلد آخر يوم قتل وليي وكان بينهما بعد لا يمكن أن يقتله إذا كان فيه بطلت القسامة ولزمه رد ما أخذه لأنه مقر على نفسه فقبل إقراره وإن قال ما أخذته حرام سئل عن ذلك فإن قال أردت أنني كذبت في دعواي عليه بطلت قسامته أيضا وإن قال أردت أن الأيمان تكون في جنبة المدعى عليه كمذهب أبي حنيفة لم تبطل القسامة لأنها ثبتت باجتهاد الحاكم فيقدم على اعتقاده وان قال هذا مغصوب وأقر بمن غصب منه لزمه رده عليه ولا يقبل قوله على من أخذه منه لأن الانسان لا يقبل اقراره على غيره وإن لم يقر به لأحد لم ترفع يده عنه لأنه لم يتعين مستحقه وإن اختلفا في مراده بقوله فالقول قوله لأنه أعرف بقصده .
فصل : وإن أقام المدعي عليه بينة أنه كان يوم القتل في بلد بعيد من بلد المقتول لا يمكن مجيئه منه اليه في يوم واحد بطلت الدعوى وان قالت البينة نشهد أن فلانا لم يقتله لم تسمع هذه الشهادة لأنه نفي مجرد فان قالا ما قتله فلان بل قتله فلان سمعت لأنها شهدت باثبات تضمن النفي فسمعت كما لو قالت ما قتله فلان لأنه كان يوم القتل في بلد بعيد .
فصل : فان جاء رجل فقال ما قتله هذا المدعى عليه بل أنا قتلته فكذبه الولي لم تبطل دعواه وله القسامة ولا يلزمه رد الدية إن كان أخذها لأنه قول واحد ولا يلزم المقر شيء لأنه أقر لمن يكذبه وإن صدقه الولي أو طالبه بموجب القتل لزمه رد ما أخذه وبطلت دعواه على الأول لأن ذلك جرى مجرى الاقرار ببطلان الدعوى وهل له مطالبة المقر ؟ فيه وجهان : .
أحدهما : له مطالبته لأنه أقر له بحق فملك مطالبته به كسائر الحقوق والثاني ليس له مطالبته لأن دعواه على الأول انفراده بالقتل إبراء لغيره فلا يملك مطالبة من أبرأه والمنصوص عن أحمد C أنه يسقط القود عنهما وله مطالبة الثاني بالدية فانه قال في رجل شهد عليه شاهدان بالقتل فأخذ ليقتاد منه فجاء رجل فقال ما قتله هذا أنا قتلته : فالقود يسقط عنهما والدية على الثاني ووجه ذلك ما روي أن رجلا ذبح رجلا في خربة وتركه وهرب وكان قصاب قد ذبح شاة وأراد ذبح أخرى فهربت منه الى الخربة فتبعها حتى وقف على القتيل والسكين بيده ملطخة بالدم فأخذ على تلك الحال وجيء به إلى عمر Bه فأمر بقتله فقال القاتل في نفسه : يا ويله قتلت نفسا ويقتل بسببي آخر فقام فقال : أنا قتلته ولم يقتله هذا فقال عمر : إن كان قد قتل نفسا فقد أحيا نفسا ودرأ عنه القصاص ولأن الدعوى على الأول شبهة في درء القصاص عن الثاني وتجب الدية عليه لإقراره بالقتل الموجب لها وهذا القول أصح وأعدل مع شهادة الأثر بصحته .
الفصل الثالث : أن الأولياء اذا ادعوا القتل على من بينه وبين القتيل لوث شرعت اليمين في حق المدعين أولا فيحلفون خمسين يمينا على المدعى عليه ان قتله وثبت حقهم قبله فان لم يحلفوا استحلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرىء وبهذا قال يحيى بن سعيد وربيعة وأبو الزناد و مالك و الشافعي وقال الحسن : يستحلف المدعى عليهم أولا خمسين يمينا ويبرؤون وإن أبوا أن يحلفوا استحلف خمسون من المدعين أن حقنا قبلكم ثم يعطون الدية لقول النبي A : [ ولكن اليمين على المدعى عليه ] رواه مسلم وفي لفظ [ البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ] رواه الشافعي في مسنده وروى أبو داود باسناده [ عن سليمان بن يسار عن رجال من الانصار أن النبي A قال لليهود وبدأ بهم : يحلف منكم خمسون رجلا فأبوا فقال للأنصار : استحقوا قالوا : نحلف على الغيب يا رسول الله فجعلها رسول الله A على اليهود لأنه وجد بين أظهرهم ] ولأنها يمين في دعوى فوجبت في جانب المدعى عليه ابتداء كسائر الدعاوى .
وقال الشعبي و النخعي و الثوري وأصحاب الرأي : يستحلف خمسون رجلا من أهل المحلة التي وجد فيها القتيل بالله ما قتلناه ولا علمنا قاتلا ويغرمون الدية لقضاء عمر بذلك ولم نعرف له في الصحابة مخالفا فكان إجماعا وتكلموا في حديث سهل بما روى أبو داود عن محمد بن ابراهيم بن الحارث التيمي عن عبد الرحمن ونجيد ابن قبطي أحد بني حارثة [ قال محمد بن ابراهيم : وايم الله ما كان سهل بأعلم منه ولكنه كان أسن منه قال : والله ما قال رسول الله A احلفوا على ما لا علم لكم به ولكنه كتب إلى يهود حين كلمته الأنصار : إنه وجد بين أبياتكم قتيل فدوه فكتبوا يحلفون بالله ما قتلوه ولا يعلمون له قاتلا فوداه رسول الله A من عنده ] .
ولنا حديث سهل وهو صحيح متفق عليه ورواه مالك في موطئه وعمل به وما عارضه من الحديث لا يصح لوجوه أحدها : أنه نفي فلا يرد به قول المثبت والثاني : أن سهلا من أصحاب رسول الله A شاهد القصة وعرفها حتى أنه قال : ركضتني ناقة من تلك الإبل والآخر يقول برأيه وظنه من غير أن يرويه عن أحد ولا حضر القصة والثالث : أن حديثنا مخرج في الصحيحين متفق عليه وحديثهم بخلافه .
والرابع : أنهم لا يعملون بحديثهم ولا حديثنا فكيف يحتجون بما هو حجة عليهم فيما خالفوه فيه ؟ وحديث سليمان بن يسار عن رجال من الأنصار ولم يذكر لهم صحبة فهو أدنى لهم من حديث محمد بن ابراهيم وقد خالف الحديثين جميعا فكيف يجوز أن يعتمد عليه ؟ وحديث [ اليمين على المدعى عليه ] لم ترد به هذه القصة لأنه يدل على أن الناس لا يعطون بدعواهم وهنا قد أعطوا بدعواهم على أن حديثنا أخص منه فيجب تقديمه ثم هو حجة عليهم لكون المدعين أعطوا بمجرد دعواهم من غير بينة ولا يمين منهم وقد رواه ابن عبد البر باسناده عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي A قال : [ البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة ] وهذه الزيادة يتعين العمل بها لأن الزيادة من الثقة مقبولة ولأنها أيمان مكررة فيبدأ فيها بأيمان المدعين كاللعان إذا ثبت هذا فإن أيمان القسامة خمسون مرددة على ما جاءت به الأحاديث الصحيحة وأجمع عليه أهل العلم لا نعلم أحدا خالف فيه .
الفصل الرابع : أن الأولياء اذا حلفوا استحقوا القود اذا كانت الدعوى عمدا إلا أن يمنع منه مانع روي ذلك عن ابن الزبير وعن عمر بن عبد العزيز وبه قال مالك و أبو ثور و ابن المنذر وعن معاوية و ابن عباس و الحسن و اسحاق لا تجب بها الدية لقول النبي A لليهود : [ إما أن تدوا صاحبكم وإما أن تؤذنوا بحرب من الله ] ولأن أيمان المدعين إنما هي بغلبة الظن وحكم الظاهر فلا يجوز إشاطة الدم بها لقيام الشبهة المتمكنة منها ولأنها حجة لا يثبت بها النكاح ولا يجب بها .
القصاص كالشاهد واليمين و للشافعي قولان كالمذهبين .
ولنا قول النبي A : [ يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته ] وفي رواية مسلم [ فيسلم اليكم ] وفي لفظ [ وتستحقون دم صاحبكم ] فأراد دم القاتل لأن دم القتيل ثابت لهم قبل اليمين والرمة الحبل الذي يربط به من عليه القود ولأنها حجة يثبت بها العمد فيجب بها القود كالبينة وقد روى الأثرم باسناده عن عامر الاحول أن النبي A أقاد بالقسامة الطائفة وهذا نص ولأن الشارع جعل القول قول المدعي مع يمينه احتياطا للدم فان لم يجب القود سقط هذا المعنى