مسألتان وفصلان كيفية الحكومة في ديات الجراح .
مسألة : قال : والحكومة أن يقوم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به ثم يقوم وهي به قد برأت فما نقصته الجناية فله مثله من الدية كأن قيمته وهو عبد صحيح عشرة وقيمته وهو عبد به الجناية تسعة فيكون فيه عشر ديته .
هذا الذي ذكره الخرقي C في تفسير الحكومة قول أهل العلم كلهم لا نعلم بينهم فيه خلافا وبه قال الشافعي و العنبري و أصحاب الرأي وغيرهم قال ابن المنذر : كل من نحفظ عنه من أهل العلم يرى أن معنى قولهم حكومة أن يقال : إذا أصيب الإنسان بجرح لا عقل له معلوم كم قيمة هذا الجروح لو كان عبدا لم يجرح هذا الجرح فإذا قيل مائة دينار قيل : وكم قيمته وقد أصابه هذا الجرح وانتهى برؤه ؟ قيل خمسة وتسعون فالذي يجب على الجاني نصف عشر الدية وإن قالوا تسعون فعشر الدية وإن زاد أو نقص فعلى هذا المثال وإنما كان كذلك لأن جملته مضمونة بالدية فأجزاؤه مضمونة منها كما أن المبيع لما كان مضمونا على البائع بالثمن كان أرش عيبه مقدرا من الثمن فيقال كم قيمته لا عيب فيه فقالوا عشرة فيقال : كم قيمته وفيه العيب فإذا قيل تسعة عل أنه نقص عشر قيمته فيجب أن ترد من الثمن عشرة أي قدر كان ونقدره عبدا ليمكن تقويمه ونجعل العبد أصلا للحر فيما لا موقت فيه والحر أصلا للعبد فيما فيه توقيت .
مسألة : قال : وعلى هذا ما زاد من الحكومة أو نقص إلا أن تكون الجناية في رأس أو وجه فيكون أسهل مما وقت فيه فلا يجاوز به أرش الموقت .
يعني لو نقصته الجناية أكثر من عشر قيمته لوجب أكثر من عشر ديته ولو نقصته أقل من العشر مثل أن نقصته نصف عشر قيمته لوجب نصف عشر ديته إلا إذا شجه دون الموضحة فبلغ أرش الجراح بالحكومة أكثر من أرش الموضحة لم يجب الزائد فلو جرحه في وجهه سمحاقا فنقصته عشر قيمته فمقتضى الحكومة وجوب عشر من الإبل ودية الموضحة خمس فههنا يعلم غلط المقوم لأن الجراحة لو كانت موضحة لم تزد على خمس مع أنها سمحاق وزيادة عليها فلأن لا يجب في بعضها زيادة على خمس أولى وهذا قول أكثر أهل العلم وبه يقول الشافعي و أصحاب الرأي وحكي عن مالك أنه يجب ما تخرجه الحكومة كائنا ما كان لأنها جراحة لا مقدر فيها فوجب فيها ما نقص كما لو كانت في سائر البدن .
ولنا أنها بعض الموضحة لأنه لو أوضحه لقطع ما قطعته هذه الجراحة ولا يجوز أن يجب في بعض الشيء أكثر مما يجب فيه ولأن الضرر في الموضحة أكثر والشين أعظم والمحل واحد فإذا لم يزد أرش الموضحة على خمس كان ذلك تنبيها على أن لا يزيد ما دونها عليها وأما سائر البدن فما كان فيه موقت كالأعضاء والعظام المعلومة والجائفة فلا يزاد جرح عظم على ديته مثاله جرح أنملة فبلغ أرشها بالحكومة خمسا من الإبل فإنه يرد إلى دية الأنملة وإن جنى عليه في جوفه دون الجائفة لم يزد على أرش الجائفة وما لم يكن كذلك وجب ما أخرجته الحكومة لأن المحل مختلف فإن قيل : فقد وجب في بعض البدن أكثر مما وجب في جميعه ووجب في منافع اللسان أكثر من الواجب فيه قلنا : إنا وجبت دية النفس عوضا عن الروح وليست الأطراف بعضها بخلاف مسألتنا هذا ذكره القاضي ويحتمل كلام الخرقي أن يختص امتناع الزيادة بالرأس والوجه لقوله إلا أن تكون الجناية في رأس أو وجه فلا يجاوز به أرش الموقت .
فصل : وإذا أخرجت الحكومة في شجاج الرأس التي دون الموضحة قدر أرش الموضحة أو زيادة عليه فظاهر كلام الخرقي أنه يجب أرش الموضحة وقال القاضي : يجب أن تنقص عنها شيئا على حسب ما يؤدي إليه الاجتهاد وهذا مذهب الشافعي لئلا يجب في بعضها ما يجب في جميعها ووجه قول الخرقي أن مقتضى الدليل وجوب ما أخرجته الحكومة وإنما سقط الزائد على أرش الموضحة لمخالفته النص أو تنبيه النص ففيما لم يزد يجب البقاء على الأصل ولأن ما ثبت بالتنبيه يجوز أن يساوي المنصوص عليه في الحكم ولا يلزم أن يزيد عليه كما أنه نص على وجوب فدية الأذى في حق المعذور ولم تلزم زيادتها في حق من لا عذر له ولا يمتنع أن يجب في البعض ما يجب في الكل بدليل وجوب دية الأصابع مثل دية اليد كلها وفي حشفة الذكر مثل ما في جميعه فإن هذا وجب بالتقدير الشرعي لا بالتقويم قلنا : إذا ثبت الحكم بنص الشارع لم يمتنع ثبوت مثله بالقياس عليه والاجتهاد المؤدي إليه وفي الجملة فالحكومة دليل ترك العمل بها في الزائد لمعنى مفقود في المساوي فيجب العمل فيه بها لعدم المعارض ثم وإن صح ما ذكروه فينبغي أن ينقص أدنى ما تحصل به المساواة المحذورة ويجب الباقي عملا بالدليل الموجب له والله أعلم .
فصل : ولا يكون التقويم إلا بعد برء الجرح لأن أرش الجرح المقدر إنما يستقر بعد برئه فإن لم تنقصه الجناية شيئا بعد البرء مثل أن قطع أصبعا أو يدا زائدة أو قلع لحية امرأة فلم ينقصه ذلك بل زاده حسنا فلا شيء على الجاني لأن الحكومة لأجل جبر النقص ولا نقص ههنا فأشبه ما لو لطم وجهه فلم يؤثر وإن زادته الجناية حسنا فالجاني محسن بجنايته فلم يضمن كا لو قطع سلعة أو ثؤلولا وبط خراجا ويحتمل أن يضمن قال القاضي : نص أحمد على هذا لأن هذا جزء مضمون فلم يعر عن ضمان كما لو أتلف قدر الأرش فازداد به جمالا أو لم ينقصه شيئا فعلى هذا يقوم في هذا أقرب الأحوال إلى البرء لأنه لما سقط اعتبار قيمته بعد برئه قوم في أقرب الأحوال إليه كولد المغرور لما تعذر تقويمه في البطن قوم عند الوضع لأنه أقرب الأحوال التي أمكن تقويمه إلى كونه في البطن وإن لم ينقص في تلك الحال قوم والدم جار لأنه لا بد من نقص للخوف عليه ذكره القاضي ولأصحاب الشافعي وجهان كما ذكرنا : وتقوم لحية المرأة كأنها الحية رجل في حال ينقصه ذهاب لحيته وإن أتلف سنا زائدة قوم وليس له سن ولا خلفها أصلي ثم يقوم وقد ذهبت الزائدة فإن كانت المرأة إذا قدرناه ابن عشرين نقصها ذهاب لحيتها يسيرا وإن قدرناها ابن أربعين نقصها كثيرا قدرناها ابن عشرين لأنه أقرب الأحوال إلى حال المجني عليه فأشبه تقويم الجرح الذي لا ينقص بعد الاندمال فإنا نقومه في أقرب أحوال النقص إلى حال الاندمال والأول أصح إن شاء الله فإن هذا لا مقدر فيه ولا ينقص شيئا فأشبه الضرب وتضمين النقص الحاصل حال جريان الدم إنما هو تضمين الخوف عليه وقد زال فأشبه ما لو لطمه فاصفر لونه حال اللطمة أو احمر ثم زال ذلك وتقدير المرأة رجلا لا يصح لأن اللحية زين للرجل وعيب فيها وتقدير ما يعيب بما يزين لا يصح وكذلك تقدير السن في حالة يراد زوالها بحالة تكره لا يجوز فإن الشيء يقدر بنظيره ويقاس على مثله لا على ضده ومن قال بهذا الوجه فإنما يوجب أدنى ما يمكن إيجابه وهو أقل نقص يمكن تقديره