مسائل وفصول ما تحمله العاقلة من الديات وما لا تحمله .
مسألة : قال : والعاقلة لا تحمل العبد ولا العمد ولا الصلح ولا الاعتراف ولا ما دون الثلث .
في هذه المسألة خمس مسائل : .
المسألة الأولى : أن العاقلة لا تحمل العبد يعني إذا قتل العبد قاتل وجبت قيمته في مال القاتل ولا شيء على عاقلته خطأ كان أو عمدا وهذا قول ابن عباس و الشعبي و الثوري و مكحول و النخعي و البتي و مالك و الليث و ابن أبي ليلى و إسحاق و أبي ثور وقال عطاء و الزهري و الحكم و حماد و أبو حنيفة : تحمله العاقلة لأنه آدمي يجب بقتله القصاص والكفارة فحملت العاقلة بدله كالحر وعن الشافعي كالمذهبين ووافقنا أبوحنيفة في دية أطرافه .
ولنا ما [ روى ابن عباس عن النبي A أنه قال : لا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا ] وروي عن ابن عباس موقوفا عليه ولم نعرف له في الصحابة مخالفا فيكون إجماعا ولأن الواجب فيه قيمة تختلف باختلاف صفاته فلم تحمله العاقلة كسائر القيم ولأنه حيوان لا تحمل العاقلة قيمة أطرافه فلم تحمل الواجب في نفسه كالفرس وبهذا فارق الحر .
المسألة الثانية : أنها لا تحمل العمد سواء كان مما يجب القصاص فيه أو لا يجب ولا خلاف في أنها لا تحمل دية ما يجب فيه القصاص وأكثر أهل العلم على أنها لا تحمل العمد بكل حال وحكي عن مالك أنها تحمل الجنايات التي لا قصاص فيها كالمأمومة والجائفة وهذا قول قتادة لأنها جناية لا قصاص فيها اشبهت جناية الخطأ .
ولنا حديث ابن عباس ولأنها جناية عمد فلا تحملها العاقلة كالموجب للقصاص وجناية الأب على ابنه ولأن حمل العاقلة إنما يثبت في الخطأ لكون الجاني معذورا تخفيفا عنه ومواساة له والعامد غير معذور فلا يستحق التخفيف ولا المعاونة فلم يوجد فيه المقتضي وبهذا فارق العمد الخطأ ثم يبطل ما ذكروه بقتل الأب ابنه فإنه لا قصاص فيه ولا تحمله العاقلة .
فصل : وإن اقتص بحديدة مسمومة فسرى إلى النفس ففيه وجهان : أحدهما : تحمله العاقلة لأنه ليس بعمد محض أشبه عمد الخطأ والثاني : لا تحمله لأنه قتله بآلة يقتل مثلها غالبا فأشبه من لا قصاص له ولو وكل في استيفاء القصاص ثم عفا فقتله الوكيل من غير علم بعفوه فقال القاضي لا تحمله العاقلة لأنه عمد قتله وقال أبو الخطاب : تحمله العاقلة لأنه لم يقصد الجناية ومثل هذا يعد خطأ بدليل ما لو قتل في دار الحرب مسلما يظنه حربيا فإنه عمد قتله وهو أحد نوعي الخطأ وهذا أصح ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين .
فصل : وعمد الصبي والمجنون خطأ تحمله العاقلة وقال الشافعي في أحد قوليه : لا تحمله لأنه عمد يجوز تأديبهما عليه فأشبه القتل من البالغ .
ولنا أنه لا يتحقق منهما كمال القصد فتحمله العاقلة كشبه العمد ولأنه قتل لا يوجب القصاص لأجل العذر فأشبه الخطأ وشبه العمد وبهذا فارق ما ذكروه ويبطل ما ذكروه بشبه العمد .
المسألة الثالثة : أنها لا تحمل الصلح ومعناه أن يدعي عليه القتل فينكره ويصالح المدعي على مال فلا تحمله العاقلة لأنه مال ثبت بمصالحته واختياره فلم تحمله العاقلة كالذي ثبت باعترافه وقال القاضي : معناه أن يصالح الأولياء عن دم العمد إلى الدية والتفيسر الأول لأن هذا عمد فيستغنى عنه بذكر العمد وممن قال لا تحمل العاقلة الصلح ابن عباس و الزهري و الشعبي و الثوري و الليث و الشافعي وقد ذكرنا حديث ابن عباس فيه ولأنه لو حملته العاقلة أدى إلى أن يصالح بمال غيره ويوجب عليه حقا بقوله .
المسألة الرابعة : أنها لا تحمل الاعتراف وهو أن يقر الإنسان على نفسه بقتل خطأ أو شبه عمد فتجب الدية عليه ولا تحمله العاقلة ولا نعلم فيه خلافا وبه قال ابن عباس و الشعبي و الحسن و عمر بن عبد العزيز و الزهري و سليمان بن موسى و الثوري و مالك و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق و أصحاب الرأي وقد ذكرنا حديث ابن عباس فيه ولأنه لو وجب عليهم لوجب بإقرار غيرهم ولا يقبل إقرار شخص على غيره ولأنه يتهم في أن يواطىء من يقر له بذلك ليأخذ الدية من عاقلته فيقاسمه إياها إذا ثبت هذا فإنه يلزمه ما اعترف به وتجب الدية عليه حالة في ماله في قول أكثرهم .
وقال أبو ثور وابن عبد الحكم : لا يلزمه شيء ولا يصح إقراره لأنه مقر على غيره لا على نفسه ولأنه لم يثبت موجب إقراره فكان باطلا كما لو أقر على غيره بالقتل .
ولنا قوله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله } ولأنه مقر على نفسه بالجناية الموجبة للمال فصح إقراره كما لو أقر بإتلاف مال أو بما لا تحمل ديته العاقلة ولأنه محل مضمون فيضمن إذا اعترف به كسائر المحال وإنما سقطت عنه الدية في محل الوفاق لتحمل العاقلة لها فإذا لم تحملها وجبت عليه كجناية المرتد .
المسألة الخامسة : أنها لا تحمل ما دون الثلث وبهذا قال سعيد بن المسيب و عطاء و مالك و إسحاق و عبد العزيز وعمر بن أبي سلمة وبه قال الزهري وقال : لا تحمل الثلث أيضا وقال الثور و أبو حنيفة : تحمل السن والموضحة وما فوقها لأن النبي A جعل الغرة التي في الجبين على العاقلة وقيمتها نصف عشر الدية ولا تحمل ما دون ذلك لأنه ليس فيه أرش مقدر والصحيح عن الشافعي أنها تحمل الكثير والقليل لأن من حمل الكثير حمل القليل كالجاني في العمد .
ولنا ما [ روي عن عمر Bه أنه قضى في الدية أن لا تحمل منها شيء حتى تبلغ عقل المأمومة ] ولأن مقتضى الأصل وجوب الضمان على الجاني لأنه موجب جنايته وبدل متلفه فكان عليه كسائر المتلفات والجنايات وإنما خولف في الثلث فصاعدا تخفيفا عن الجاني لكونه كثيرا به [ قال النبي A : الثلث كثير ] ففيما دونه يبقى على قضية الأصل ومقتضى الدليل وهذا حجة على الزهري لأن النبي A جعل الثلث كثيرا فأما دية الجنين فلا تحملها العاقلة إلا إذا مات مع أمه من الضربة لكون ديتهما جميعا موجب جناية تزيد على الثلث وأن سلمنا وجوبها على العاقلة فلأنها دية آدمي كاملة .
فصل : وتحمل العاقلة دية الطرف إذا بلغ الثلث وهو قول من سمينا في المسألة التي قبل هذا وحكي عن الشافعي أنه قال في القديم : لا تحمل مادون الدية لأن ذلك يجزي محرى ضمان الأموال بدليل أنه لا تجب فيه كفارة .
ولنا قول عمر Bه ولأن الواجب دية جناية على حر تزيد على الثلث فحملتها العاقلة كدية النفس لأنه كثير يجب ضمانا الحر أشبه ما ذكرنا وما ذكره يبطل بما إذا جنى على الأطراف بما يوجب الدية أو زيادة عليها .
فصل : وتحمل العاقلة دية المرأة بغير خلاف بينهم فيها وتحمل من جراحها ما بلغ أرشه ثلث دية الرجل كدية أنفها وما دون ذلك كدية يدها لا تحمله العاقلة وكذلك الحكم في دية الكتابي ولا تحمل دية المجوسي لأنها دون الثلث ولا دية الجنين إن مات منفردا أو مات قبل موت أمه نص عليه أحمد لأنه دون الثلث وإن مات مع أمه حملتها العاقلة نص عليه لأن وجوب ديتهما حصل في حال واحدة بجناية واحدة مع زيادتهما على الثلث فحملتها العاقلة كالدية الواحدة .
فصل : وإن كان الجاني ذميا فعقله على عصبته من أهل دينه المعاهدين في إحدى الروايتين وهو قول الشافعي وفي الأخرى لا يتعاقلون لأن المعاقلة في حق المسلم عللا خلاف الأصل تخفيفا عنه ومعونة له فلا يلحق به الكافر لأن المسلم أعظم حرمة وأحق بالمواساة والمعونة من الذمي ولهذا وجبت الزكاة على المسلمين مواساة لفرائهم ولم تجب على أهل الذمة لفقرائهم فتبقى في حق الذمي على الأصل ووجه الرواية الأولى أنهم عصبة يرثونه فيعقلون عنه كعصبة المسلم من المسلمين ولا يعقل عنه عصبته المسلمون لأنهم لا يرثونه ولا الحربيون لأن المولاة والنصر منقطعة بينهم ويحتمل أن يعقلوا عنه إذا قلنا إنهم يرثونه لأنهم أهل دين واحد يرث بعضهم بعضا ولا يعقل يهودي عن نصراني ولا نصراني عن يهودي لأنهم لا موالاة بينهم وهم أهل ملتين مختلفتين ويحتمل أن يتعاقلا بناء على الروايتين في توارثهما .
فصل : وإن تنصر يهودي أو تهود نصراني وقلنا أنه يقر عليه عقل عنه عصبته من أهل الدين الذي انتقل إليه وهل يعقل عنه الذين انتقل عن دينهم على وجهين وإن قلنا لا يقر لم يعقل عنه أحد لأنه كالمرتد والمرتد لا يعقل عنه أحد لأنه ليس بمسلم فيعقل عنه المسلمون ولا ذمي فيعقل عنه أهل الذمة وتكون جنايته في ماله وكذلك كل من لا تحمل عاقلته جنايته يكون موجبها في ماله كسائر الجنايات التي لا تحملها العاقلة .
فصل : ولو رمى ذمي صيدا ثم أسلم ثم أصاب السهم آدميا فقتله لم يعقله المسلمون لأنه لم يكن مسلما حال رميه ولا المعاهدون لأنه قتله وهو مسلم فيكون في مال الجاني وهكذا لو رمى وهو مسلم ثم ارتد ثم قتل السهم إنسانا لم يعقله أحد ولو جرح ذمي ذميا ثم أسلم الجارح ومات المجروح وكان أرش جراحه يزيد على الثلث فعقله على عصبته من أهل الذمة وما زاد على أرش الجرح لا يحمله أحد ويكون في مال الجاني كما ذكرنا وإن لم يكن أرش الجرح مما تحمله العاقلة فجميع الدية على الجاني وكذلك الحكم إذا جرح مسلما ثم ارتد ويحتمل أن تحمل الدية كلها العاقلة في المسألتين لأن الجناية وجدت وهو ممن تحل العاقلة جنايته ولهذا وجب القصاص في المسألة الأولى إذا كان عمدا ويحتمل أن لا تحمل العاقلة شيئا لأن الأرش إنما يستقر باندمال الجرح أو سرايته