فصول التوكيل في استيفاء القصاص والعفو وفروع فيه .
فصل : وإذا وكل من يستوفي القصاص صح توكيله نص عليه أحمد C فإن وكله ثم غاب وعفا عن القصاص واستوفى الوكيل نظرنا فإن كان عفوه بعد القتل لم يصح لأن حقه قد استوفي وإن كان قتله وقد علم الوكيل به قد قتله ظلما فعليه القود كما لو قتله ابتداء وإن قتله قبل العلم بعفو الموكل فقال أبو بكر : لا ضمان على الوكيل لأنه لا تفريط منه فإن العفو حصل على وجه لا يمكن الوكيل استدراكه فلم يلزمه ضمان كما لو عفا بعد ما رماه وهل يلزم الموكل الضمان ؟ فيه قولان : أحدهما : لا ضمان عليه لأن عفوه غير صحيح لما ذكرنا من حصوله في حال لا يمكنه استدراك الفعل فوقع القتل مستحقا له فلم يلزمه ضمان ولأن العفو إحسان فلا يقتضي وجوب الضمان والثاني : عليه الضمان لأن قتل المعفو عنه حصل بأمره وتسليطه على وجه لا ذنب للمباشر فيه فكان الضمان على الآمر كما لو أمر عبده الأعجمي بقتل معصوم .
وقال غير ابي بكر في صحة العفو وجهان بناء على الراويتين في الوكيل هل ينعزل بعزل الموكل أو لا ؟ ولـ لشافعي قولان كالوجهين فإن قلنا لا يصح العفو فلا ضمان على أحد لأنه قتل من يجب قتله بأمر يستحقه وإن قلنا يصح العفو فلا قصاص فيه لأن الوكيل قتل من يعتقد إباحة قتله بسبب هو معذور فيه فأشبه ما لو قتل في دار الحرب من يعتقده حربيا وتجب الدية على الوكيل لأنه لو علم لوجب عليه القصاص فإذا لم يعلم تعلق به الضمان كما لو قتل مرتدا قد أسلم قبل علمه بإسلامه ويرجع بها على الموكل لأنه غره بتسليطه على القتل بتفريطه في ترك إعلامه بالعفو فيرجع عليه كالغار في النكاح بحرية أمة أو تزوج معيبة ويحتمل أن لا يرجع عليه لأن العفو إحسان منه فلا يقتضي الرجوع عليه فعلى هذا تكون الدية على عاقلة الوكيل وهذا اختيار أبي الخطاب لأن هذا جرى مجرى الخطأ فأشبه ما لو قتل في دار الحرب مسلما يعتقده حربيا .
وقال القاضي : هو في مال الوكيل لأنه عن عمد محض وهذا لا يصح لأنه لو كان عمدا محضا لأوجب القصاص ولأنه يشترط في العمد المحض أن يكون عالما بحال المحل وكونه معصوما ولم يوجد هذا وإن قال هو عمد الخطأ فعمد تحمله العاقلة ذكره الخرقي ودل عليه [ خبر المرأة التي قتلت جاريتها وجنينها بمسطح فقضى النبي A بالدية على عاقلتها ] واختلف أصحاب الشافعي على هذين الوجهين فعلى قول القاضي إن كان الموكل عفا إلى الدية فله الدية في تركة الجاني ولورثة الجاني مطالبة الوكيل بديته وليس للموكل مطالبة الوكيل بشيء فإن قيل فقد قلتم فيما إذا كان القصاص لأخوين فقتله أحدهما فعليه نصف الدية ولأخيه مطالبته به في وجه قلنا ثم أتلف حقه فرجع ببدله عليه وههنا أتلفه بعد سقوط حق الموكل عنه فافترقا وإن قلنا إن الوكيل يرجع الموكل احتمل أن تسقط الديتان لأنه لا فائدة في ان يأخذها الورثة من الوكيل ثم يدفعوها إلى الموكل ثم يردها الموكل إلى الوكيل فيكون تكليفا لكل واحد منهم بغير فائدة ويحتمل أن يجب ذلك لأن الدية الواجبة في ذمة الوكيل لغير من للوكيل الرجوع عليه وإنما تتساقط الديتان إذا كان لكل واحد من الغريمين على صاحبه مثل ما له عليه ولأنه قد تكون الديتان مختلفتين بأن يكون أحد المقتولين رجلا والآخر امرأة فعلى هذا يأخذ ورثة الجاني ديته من الوكيل ويدفعون إلى الموكل دية وليه ثم يرد الموكل إلى الوكيل قدر ما غرمه وإن أحال ورثة الجاني الموكل على الوكيل بدية وليهم صح فإن كان الجاني أقل دية مثل أن تكون امرأة قتلت رجلا فقتلها الوكيل فلورثتها إحالة الموكل بديتها لأنه القدر الواجب لهم على الوكيل فيسقط عن الوكيل والموكل جميعا ويرجع الموكل على ورثتها بنصف دية وليه وإن كان الجاني رجلا قتل امرأة فقتله الوكيل فلورثة الجاني إحالة الموكل بدية المرأة لأن الموكل لا يستحق عليهم أكثر من ديتها ويطالبون الوكيل بنصف دية الجاني ثم يرجع به على الموكل .
فصل : وإذا جني على الإنسان فيما دون النفس جناية توجب القصاص فعفا عن القصاص ثم سرت الجناية إلى نفسه فمات لم يجب القصاص وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وحكي عن مالك أن القصاص واجب لأن الجناية صارت نفسا ولم يعف عنها .
ولنا أنه يتعذر اسيتفاء القصاص في النفس دون ماعفا فسقط في النفس كما لو عفا بعض الأولياء ولأن الجناية إذا لم يكن فيها قصاص مع إمكانه لم يجب في سرايتها كما لو قطع يد مرتد ثم اسلم ثم مات منها نظرنا فإن كان عفا على مال فله الدية كاملة وإن عفا على غير مال وجبت الدية إلا أرش الجرح الذي عفا عنه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : تجب الدية كاملة لأن الجناية صارت نفسا وحقه في النفس لا فيما عفا عنه وإنما سقط القصاص للشبهة وإن قال عفوت عن الجناية لم يجب شيء لأن الجناية لا تختص بالقطع وقال القاضي فيما إذا عفا عن القطع : ظاهر كلام أحمد أنه لا يجب شيء وبه قال أبو يوسف و محمد لأنه قطع غير مضمون فكذلك سرايته .
ولنا أنها سراية جناية أوجبت الضمان فكانت مضمونة كما لو لم يعف وإنما سقطت ديتها بعفوه عنها فيختص السقوط بما عفا عنه دون غيره والمعفو عنه نصف الدية لأن الجناية أوجبت نصف الدية فإذا عفا سقط وأوجب دون ما لم يجب فإذا صارت نفسا وجب بالسراية نصف الدية ولم يسقط أرش الجرح فيما إذا لم يعف وإنما تكملت الدية بالسراية .
فصل : فإن كان الجرح لا قصاص فيه كالجائفة ونحوها فعفا عن القصاص فيه ثم سرى إلى النفس فلوليه القصاص لأن القصاص لم يجب في الجرح فلم يصح العفو عنه وإنما وجب القصاص بعد عفوه وله العفو عن القصاص وله كمال الدية وإن عفا عن دية الجرح صح وله بعد السراية دية النفس إلا أرش الجرح ولا يمتنع وجوب القصاص في النفس مع أنه لا يجب كمال الدية بالعفو عنه كما لو قطع يدا فاندملت واقتص منها ثم انتقضت وسرت إلى النفس فله القصاص في النفس وليس له العفو إلا على نصف الدية وإن قطع يده من نصف الساعد فعفا عن القصاص ثم سرى فعلى قول أبي بكر : لا يسقط القصاص في النفس لأن القصاص لم يجب فهو كالجائفة ومن جوز له القصاص من الكوع أسقط القصاص في النفس كما لوكان القطع من الكوع وقال المزني : لا يصح العفو عن يدة الجرح قبل اندماله فلو قطع يدا فعفا عن ديتها وقصاصها ثم اندملت لم تسقط ديتها وسقط قصاصها لأن القصاص قد وجب فيها فصح العفو عنه بخلاف الدية وليس بصحيح لأن دية الجرح إنما وجبت بالجناية إذ هي السبب ولهذا لو جنى على طرف عبد ثم باعه قبل موته كان أرش الطرف لبائعه لا لمشتريه وتأخير المطالبة به لا يلزم منه عدم الوجوب وامتناع صحة العفو كالدين المؤجل لا تملك المطالبة به ويصح العفو عنه كذا ههنا .
فصل : وإن قطع يده فعفا عنه ثم عاد الجاني فقتله فلوليه القصاص وهذا ظاهر مذهب الشافعي وقال بعضهم : لا قصاص لأن العفو حصل عن بعضه فلا يقتل به كما لو سرى القطع إلى نفسه .
ولنا أن القتل انفرد عن القطع فعفوه عن القطع لا يمنع ما يلزم بالقتل كما لو كان القاطع غيره وإن اختار الدية فقال القاضي : إن كان العفو عن الطرف إلى غير دية فله بالقتل نصف الدية وهو ظاهر مذهب الشافعي لأن القتل إذا تعقب الجناية قبل الاندمال كان كالسراية ولذلك لو لم يعف لم يجب أكثر من ية والقطع يدخل في القتل في الدية دون القصاص ولذلك لو أراد القصاص كان له أن يقطع ثم يقتل ولو صار الأمر إلى الدية لم يجب إلا دية واحدة وقال أبو الخطاب : له العفو إلى دية كاملة وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأن القطع منفرد عن القتل فلم يدخل حكم أحدهما في الآخر كما لو اندمل ولأن القتل موجب للقتل فأوجب الدية كاملة كما لو لم يتقدمه عفو وفارق السراية فإنها لم توجب قتلا ولأن السراية عفي عن سببها والقتل لم يعف عن شيء منه ولا عن سببه سواء فيما ذكرنا كان العافي عن الجرح أخذ دية طرفه أو لم يأخذها .
فصل : وإن قطع أصبعا فعفا المجني عليه عن القصاص ثم سرت الجناية إلى الكف ثم اندمل الجرح لم يجب القصاص لما ذكرنا في النفس ولأن القصاص سقط في الأصبع بالعفو فصارت اليد ناقصة لا تؤخذ بها الكاملة ثم إن كان العفو إلى الدية وجبت الدية كلها وإن كان على غير مال خرج فيه من الخلاف ما ذكرنا فيما إذا قطع يدا فعفا المجني عليه ثم سرى إلى نفسه فعلى هذا تجب ههنا دية الكف لا دية الأصبع ذكره أبو الخطاب وهو مذهب الشافعي وقال القاضي : ظاهر كلام أحمد أن لا يجب شيء وهو قول أبي يوسف ومحمد لأن العفو عن الجناية عفو عما يحدث منها وقد قال القاضي : إن القياس فيما إذا قطع اليد ثم سرى إلى النفس أن يجب نصف الدية فيلزمه أن يقول مثل ذلك ههنا .
فصل : فإن قال : عفوت عن الجناية وما يحدث منها صح عفوه ولم يكن له في سرايتها قصاص ولا دية في ظاهر كلام أحمد وسواء عفا بلفظ العفو أو الوصية وممن قال بصحة عفو المجروح عن دمه مالك و طاوس و الحسن و قتادة و الأوزاعي وقال أصحاب الشافعي : إذا قال : عفوت عن الجناية وما يحدث منها ففيه قولان : أحدهما : أنه وصية فيبنى على الوصية للقاتل وفيها قولان : أحدهما : لا يصح فتجب دية النفس إلا دية الجرح والثاني : يصح فإن خرجت من الثلث سقط وإلا سقط منها ما خرج من الثلث ووجب الباقي والقول الثاني : ليس بوصية لأنه إسقاط في الحياة فلا يصح وتلزمه دية النفس إلا دية الجرح .
ولنا أنه اسقط حقه بعد انعقاد سببه فسقط كما لو أسقط الشفعة بعد البيع إذا ثبت هذا فلا فرق بين أن يخرج من الثلث أو لم يخرج لأن ما وجب العمد القود في إحدى الروايتين أو أحد شيئين في الرواية الأخرى فما تعينت الدية ولا تعينت الوصية بمال ولذلك صح العفو من المفلس إلى غير مال وأما جناية الخطأ فإذا عفا عنها وعما يحدث منها اعتبر خروجها من الثلث سواء عفا بلفظ العفو أو الوصية أو الإبراء أو غيرها فإن خرجت من الثلث صح عفوه في الجميع وإن لم تخرج من الثلث سقط عنه من ديتها ما احتمله الثلث وبهذا قال مالك و الثوري و أصحاب الرأي ونحوه قال عمر بن عبد العزيز و الأوزاعي و إسحاق لأن الوصية ههنا بمال .
فصل : فإن اختلف الجاني والولي أو المجني عليه فقال الجاني : عفوت مطلقا وقال المجني عليه : بل عفوت إلى مال أو قال : عفوت عن الجناية وما يحدث منها قال : بل عفوت عنها دون ما يحدث منها فالقول قول المجني عليه أو وليه إن كان الخلاف معه لأن الأصل عدم العفو عن الجميع وقد ثبت العفو عن البعض بإقراره فيكون القول في عدم سقوطه قوله