مسألة وفصل ومن عفا من ورثة المقتول .
مسألة : قال : ومن عفا من ورثة المقتول عن القصاص لم يكن إلى القصاص سبيل وإن كان الباقي زوجا أو زوجة .
أجمع أهل العلم على إجازة العفو عن القصاص وأنه أفضل والأصل فيه الكتاب والسنة : أما الكتاب فقول الله تعالى في سياق قوله : { كتب عليكم القصاص في القتلى } { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } وقال تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } ـ إلى قوله { والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له } قيل في تفسيره : فهو كفارة للجاني يعفو صاحب الحق عنه وقيل : فهو كفارة للعافي بصدقته وأما السنة ف [ إن أنس بن مالك قال : ما رأيت رسول الله A رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو ] رواه أبو داود [ وفي حديثه في قصة الربيع بنت النضر حين كسرت سن جارية فأمر النبي A بالقصاص فعفا القوم ] .
إذا ثبت هذا فالقصاص حق لجميع الورثة من ذوي الأنساب والأسباب والرجال والنساء والصغار والكبار فمن عفا منهم صح عفوه وسقط القصاص ولم يبق لأحد إليه سبيل هذا قول أكثر أهل العلم منهم عطاء و النخعي و الحكم و حماد و الثوري و أبو حنيفة و الشافعي وروي معنى ذلك عن عمر و طاوس و الشعبي وقال الحسن و قتادة و الزهري و ابن شبرمة و الليث و الأوزاعي : ليس للنساء عفو والمشهور عن مالك أنه موروث للعصبات خاصة وهو وجه لأصحاب الشافعي لأنه ثبت لدفع العار فاختص به العصبات كولاية النكاح ولهم وجه ثالث أنه لذوي الأنساب دون الزوجين ل [ قول النبي A : من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين بين أن يقتلوا أو يأخذوا العقل ] وأهله ذوو رحمة .
وذهب بعض أهل المدينة إلى أن القصاص بعفو بعض الشركاء وقيل هو رواية عن مالك لأن حق غير العافي لا يرضى بإسقاطه وقد تؤخذ النفس ببعض النفس بدليل قتل الجماعة بالواحد .
[ ولنا عموم قوله عليه السلام : فأهله بين خيرتين وهذا عام في جميع أهله والمرأة من أهله بدليل قول النبي A : من يعذرني من رجل يبلغني أذاه في أهلي وما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي ] يريد عائشة [ وقال له أسامة : يا رسول الله أهلك ولا نعلم إلا خيرا ] وروى زيد بن وهب أن عمر أتى برجل قتل قتيلا فجاء ورثة المقتول ليقتلوه فقالت امرأة المقتول وهي أخت القاتل قد عفوت عن حقي فقال عمر الله أكبر عتق القتيل رواه أبو داود وفي رواية عن زيد قال : دخل رجل على امرأته فوجد عندها رجلا فقتلها فاستعدى إخوتها عمر فقال بعض إخوتها : قد تصدقت فقضى لسائرهم بالدية .
وروى قتادة أن عمر رفع إليه رجل قتل رحلا فجاء أولاد المقتول وقد عفا بعضهم فقال عمر لابن مسعود : ما تقول ؟ قال : إنه قد أحرز من القتل فضرب على كتفه وقال كنيف ملىء علما والدليل على أن القصاص لجميع الورثة ما ذكرناه في مسألة القصاص بين الصغير والكبير ولأن من ورث الدية ورث القصاص كالعصبة فإذا عفا بعضهم صح عفوه كعفوه عن سائر حقوقه وزوال الزوجية لا يمنع استحقاق القصاص كما لم يمنع استحقاق الدية وسائر حقوقه الموروثة ومتى ثبت أنه حق مشترك بين جميعهم سقط بإسقاط من كان من أهل الإسقاط منهم لأن حقه منه له فينفذ تصرفه فيه فإذا سقط سقط جميعه لأنه مما لا يتبعض كالطلاق والعتاق ولأن القصاص حق مشترك بينهم لا يتبعض مبناه على الدرء والإسقاط فإذا أسقط بعضهم سرى إلى الباقي كالعتق والمرأة أحد المستحقين فسقط بإسقاطها كالرجل ومتى عفا أحدهم فللباقين حقهم من الدية سواء عفا مطلقا أو إلى الدية وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي ولا أعلم لهما مخالفا ممن قال بسقوط القصاص وذلك لأن حقه من القصاص سقط بغير رضاه فثبت له البدل كما لو ورث القاتل بعض دمه أو مات ولما ذكرنا من خير عمر Bه .
فصل : فإن قتله الشريك الذي لم يعف عالما بعفو شريكه وسقوط القصاص به فعليه القصاص سواء حكم به الحاكم أو لم يحكم وبهذا قال أبو حنيفة و أبو ثور وهو الظاهر من مذهب الشافعي وقيل له قول آخر لا يجب القصاص لأن له فيه شبهة لوقوع الخلاف .
ولنا أنه قتل معصوما مكافئا له عمدا يعلم أنه لا يحق له فيه فوجب القصاص كما لو حكم بالعفو حاكم والاختلاف لا يسقط القصاص فإنه لو قتل مسلما بكافر قتلناه به مع الاختلاف في قتله وأما إن قتله قبل العلم بالعفو فلا قصاص عليه وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي في أحد قوليه : عليه القصاص لأنه قتل عمد عدوان لمن لا حق له في قتله .
ولنا أنه قتله معتقدا ثبوت حقه فيه مع أن الأصل بقاؤه فلم يلزمه قصاص كالوكيل إذا قتل بعد عفو الموكل قبل علمه بعفوه ولا فرق بين أن يكون الحاكم قد حكم بالعفو أو لم يحكم به لأن الشبهة موجودة مع انتفاء العلم معدومة عند وجوده وقال الشافعي : متى قتله بعد حكم الحاكم لزمه القصاص علم بالعفو أو لم يعلم وقد بينا الفرق بينهما ومتى حكمنا عليه بوجوب الدية إما لكونه معذورا وإما للعفو عن القصاص فإنه يسقط عنه منها ما قابل حقه على القاتل قصاصا ويجب عليه الباقي فإن كان الولي عفا إلى غير مال فالواجب لورثة القاتل ولا شيء عليهم وإن كان عفا إلى الدية فالواجب لورثة القاتل وعليهم نصيب العافي من الدية وقيل فيه : إن حق العافي من الدية على القاتل لا يصح لأن الحق لم يبق متعلقا بعينه وإنما الدية واجبة في ذمته فلم تنتقل إلى القاتل كما لو قتل غريمه .
فصل : فإن كان القاتل هو العافي فعليه القصاص سواء عفا مطلقا أو إلى مال وبهذا قال عكرمة و الثوري و مالك و الشافعي و ابن المنذر وروي عن الحسن : تؤخذ منه الدية ولا يقتل وقال عمر بن عبد العزيز : الحكم فيه إلى السلطان .
ولنا قوله تعالى : { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } قال ابن عباس و عطاء و الحسن و قتادة في تفسيرها أي بعد أخذه الدية وعن الحسن عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله A : [ لا أعفي من قتل بعد أخذه الدية ] ولأنه قتل معصوما مكافئا فوجب عليه القصاص كما لو لم يكن قتل .
فصل : وإذا عفا عن القاتل مطلقا صح ولم تلزمه عقوبة وبهذا قال الشافعي و إسحاق و ابن المنذر و أبو ثور وقال مالك و الليث و الأوزاعي : يضرب ويحبس سنة .
ولنا أنه إنما كان عليه حق واحد وقد أسقطه مستحقه فلم يجب عليه شيء آخر كما لو اسقط الدية عن القاتل خطأ