مسألة وفصول استيفاء القصاص من قاتل جماعة واستحقاق القصاص لجماعة في عضو .
مسألة : قال : وإذا قتل رجل اثنين واحدا بعد واحد فاتفق أولياء الجميع على القود أقيد لهما وإن اراد ولي الأول القود والثاني الدية أقيد الأول وأعطي أولياء الثاني الدية من ماله وكذلك إن أراد أولياء الأول الدية والثاني القود .
وجملة ذلك أنه إذا قتل اثنين فاتفق أولياؤهما على قتله بهما وإن أراد أحدهما القود والآخر الدية قتل لمن أراد القود وأعطي أولياء الثاني الدية من ماله سواء كان المختار للقود الثاني أو الأول وسواء قتلهما دفعة واحدة أو دفعتين فإن بادر أحدهما فقتله وجب للآخر الدية في ماله أيهما كان وقال أبو حنيفة و مالك : يقتل بالجماعة ليس لهم إلا ذلك فإن طلب بعضهم الدية فليس له وإن بادر أحدهم فقتل سقط حق الباقين لأن الجماعة لو قتلوا واحدا قتلوا به فكذلك إذا قتلهم واحد قتل بهم كالواحد بالواحد .
وقال الشافعي : لا يقتل إلا بواحد سواء اتفقوا على طلب القصاص أو لم يتفقوا لأنه إذا كان لكل واحد استيفاء القصاص فاشتركهم في المطالبة لا يوجب تداخل حقوقهم كسائر الحقوق .
ولنا على أبي حنيفة قول النبي A : [ فمن قتل له قتيل فأهله بين خيرتين : إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا العقل ] فظاهر هذا أن أهل كل قتيل يستحقون ما اختاروه من القتل أو الدية فإذا اتفقوا على القتل وجب لهم وإن اختار بعضهم الدية وجب له بظاهر الخبر ولأنهما جنايتان لا يتداخلان إذا كانتا خطأ أو أحدهما فلم يتداخلا في العمد كالجنايات على الأطراف وقد سلموها .
ولنا على الشافعي أنه محل تعلق به حقان لا يتسع لهما معا رضي المستحقان به عنهما فيكتفي به كما لو قتل عبد عبدين خطأ فرضي بأخذه عنهما ولأنهما رضيا بدون حقهما فجاز كما لو رضي صاحب الصحيحة بالشلاء أو ولي الحر بالعبد وولي المسلم بالكافر وفارق ما إذا كان القتل خطأ فإن الجناية تجب في الذمة والذمة تتسع لحقوق كثيرة وما ذكره مالك و أبو حنيفة فليس بصحيح فإن الجماعة قتلوا بالواحد لئلا يؤدي الاشتراك إلى إسقاط القصاص تغليظا للقصاص ومبالغة في الزجر وفي مسألتنا ينعكس هذا فإنه إذا علم أن القصاص واجب عليه بقتل واحد وإن قتل الثاني والثالث لا يزداد به عليه حق بادر إلى قتل من يريد قتله وفعل ما يشتهي فعله فيصير هذا كإسقاط القصاص عنه ابتداء مع الدية .
فصل : وإن طلب كل ولي قتله بوليه مستقلا من غير مشاركة قدم الأول لأن حقه أسبق ولأن المحل صار مستحقا له بالقتل الأول فإن عفا ولي الأول فلولي الثاني قتله وإن طالب ولي الثاني قبل طلب الأول بعث الحاكم إلى ولي الأول فأعلمه وإن بادر الثاني فقتله أساء وسقط حق الأول إلى الدية وإن كان ولي الأول غائبا أو صغيرا أو مجنونا انتظر وإن عفا أولياء الجميع إلى الديات فلهم ذلك وإن قتلهم دفعة واحدة وتشاحوا في المستوفى أقرع بينهم فقدم من تقع له القرعة لتساوي حقوقهم وإن بادر غيره فقتله استوفى حقه ويسقط حق الباقين إلى الدية وإن قتلهم متفرقا وأشكل الأول أو ادعى كل ولي أنه الأول ولا بينة لهم فأقر القاتل لأحدهم قدم بإقراره وإن لم يقر أقرعنا بينهم لاستواء حقوقهم .
فصل : وإن قطع يمينى رجلين فالحكم فيه كالحكم في الأنفس على ما ذكرنا من التفصيل والاختلاف إلا أن أصحاب الرأي قالوا : يقاد لهما جميعا ويغرم لهما دية اليد في ماله نصفين وهذا لا يصح لأنه يفضي إلى إيجاب القود في بعض العضو والدية في بعضه والجمع بين البدل والمبدل في محل واحد ولم يرد الشرع به ولا له نظير يقاس عليه .
فصل : وإن قطع يد رجل ثم قتل آخر ثم سرى القطع إلى نفس المقطوع فمات فهو قاتل لهما فإذا تشاحا في المستوفى للقتل قتل بالذي قتله لأن وجوب القتل عليه أسبق فإن القتل بالذي قطعه إنما وجب عند السراية وهي متأخرة عن قتل الآخر وأما القطع فإن قلنا إنه يستوفى منه مثل ما فعل فإنه يقطع له أولاد ثم يقتل للذي قتله ويجب للأول نصف الدية وإن قلنا لا يستوفى القطع وجبت له الدية كاملة ولم يقطع طرفه ويحتمل أن يجب له القطع على كل حال لأن القطع إنما يدخل في القتل عند استيفاء القتل فإذا تعذر استيفاء القتل وجب استيفاء الطرف لوجوب مقتضيه وعدم المانع من استيفائه كما لو لم يسر ولو كان قطع اليد لم يسر إلى النفس فإنه تقطع يده أولا ثم يقتل وسواء تقدم القطع أو تأخر وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقال مالك : يقتل ولا يقطع لأنه إذا قتل تلف الطرف فلا فائدة في القطع فأشبه ما لو كانا لواحد .
ولنا أنهما جنايتان على رجلين فلم يتداخلا كقطع يدي رجلين وما ذكره من القياس غير صحيح لأنه قد قال : لو قطع يد رجل ثم قتله يقصد المثلة به قطع وقتل ونحن نوافقه على هذا في رواية فقد حصل الإجماع منا ومنهم على انتفاء التداخل في الأصل فكيف نقيس عليه ؟ ولكنه ينقلب دليلا عليه فنقول قطع وقتل فيستوفى منه مثل مافعل كما لو فعله برجل واحد يقصد المثلة به ويثبت الحكم في محل النزاع بطريق التنبيه فإنه إذا لم يتداخل حق الواحد فحق الاثنين أولى ويبطل بهذا ما قاله من المعنى .
فصل : وإن قطع أصبعا من يمين رجل ويمينا لآخر وكان قطع الأصبع أسبق قطعت أصبعه قصاصا وخير الآخر بين العفو إلى الدية وبين القصاص وأخذ دية الأصبع ذكره القاضي وهو اختيار ابن حامد ومذهب الشافعي لأنه وجد بعض حقه فكان له استيفاء الموجود وأخذ بدل المفقود كمن أتلف مثليا لرجل فوجد بعض المثل وقال أبو بكر : يخير بين القصاص ولا شيء له معه وبين الدية هذا قياس قوله وهو مذهب أبي حنيفة لأنه لا يجمع في عضو واحد بين قصاص ودية كالنفس وإن كان قطع اليد سابقا على قطع الصبع قطعت يمينه قصاصا ولصاحب الأصبع أرشها ويفارق هذا ما إذا قتل رجلا ثم قطع يد آخر حيث قدمنا استيفاء القطع مع تأخره لأن قطع اليد لا يمنع التكافؤ في النفس بدليل أنا نأخذ كامل أنا نأخذ كامل الأطراف بناقصها وأن ديتهما واحدة ونقص الأصبع يمنع التكافؤ في اليد بدلي أنا لا نأخذه الكاملة بالنقاصة واختلاف ديتهما وإن عفا صاحب اليد قطعت الأصبع لصاحبها إن اختار قطعها