فصول الشروط المعتبرة لوجوب الانفاق وأحكام اعفاف الأب ابنه وبالعكس .
فصل : ويشترط لوجوب الإنفاق ثلاثة شروط أحدها : أن يكونوا فقراء لا مال لهم ولا كسب يستغنون به عن إنفاق غيرهم فإن كانوا موسرين بمال أو كسب يستغنون به فلا نفقة لهم لأنها تجب على سبيل المواساة والموسر مستغن عن المواساة .
الثاني : أن تكون لمن تجب عليه النفقة ما ينفق عليهم فاضلا عن نفقة نفسه إما من ماله وإما من كسبه فأما من لا يفضل عنه شيء فليس عليه شيء لما [ روى جابر أن رسول الله A قال : إذا كان أحدكم فقيرا فليبدأ بنفسه فإن فضل فعلى عياله فإن كان فضل فعلى قرابته ] وفي لفظ : [ أبدأ بنفسك ثم بمن تعول ] حديث صحيح .
[ وروى أبو هريرة أن رجلا جاء إلى النبي A فقال يا رسول الله عندي دينار قال : تصدق به على نفسك ـ قال عندي آخر قال : ـ تصدق به على ولدك ـ قال عندي آخر قا ل : ـ تصدق به على زوجك ـ قال عندي آخر قال : ـ تصدق به على خادمك ـ قال عندي آخر قال : ـ أنت أبصر ] رواه أبو داود ولأنها مواساة فلا تجب على المحتاج كالزكاة .
الثالث : أن يكون المنفق وارثا لقول الله تعالى : { وعلى الوارث مثل ذلك } ولأن بين المتوارثين قرابة تقتضي كون الوارث أحق بمال الموروث من سائر الناس فينبغي أن يختص بوجوب صلته بالنفقة دونهم فإن لم يكن وارثا لعدم القرابة لم تجب عليه النفقة لذلك وإن امتنع الميراث مع وجود القرابة لم يخل من ثلاثة أقسام : .
أحدها : أن يكون أحدهما رقيقا فلا نفقة لأحدهما على صاحبه بغير خلاف لأنه لا ولاية بينهما ولا إرث فأشبه الأجنبيين ولأن العبد لا مال له فتجب عليه النفقة وكسبه لسيده ونفقته على سيده فيتسغني بها عن نفقة غيره .
الثاني : أن يكون دينهما مختلفا فلا نفقة لأحدهما على صاحبه وذكر القاضي في عمودي النسب روايتين : إحداهما : تجب النفقة مع اختلاف الدين وهو مذهب الشافعي لأنها نفقة تجب مع اتفاق الدين فتجب مع احتلافه كنفقة الزوجة والمملوكة ولأنه يعتق على قريبه فيجب عليه الإنفاق عليه كما لو اتفق دينهما .
ولنا أنها مواساة على سبيل البر والصلة فلم تجب مع اختلاف الدين كنفقة غير عمودي النسب وأنهما غير متوارثين فلم يجب على الآخر نفقته بالقرابة كما لو كان أحدهما رقيقا وتفارق نفقة الزوجات لأنها عوض يجب مع الأعسار فلم ينافها اختلاف الدين كالصداق والأجرة وكذلك تجب مع الرق فيهما أو في أحدهما وكذلك نفقة المماليك والعتق عليه يبطل بسائر ذوي الرحم المحرم فإنهم يعتقون مع اختلاف الدين ولا نفقة لهم معه ولأن هذه صلة ومواساة فلا تجب مع اختلاف الدين كأداء زكاته إليه وعقله عنه وإرثه منه .
الثالث : أن يكون القريب محجوبا عن الميراث بمن هو أقرب منه فينظر فإن كان الأقرب موسرا فالنفقة عليه ولا شيء على المحجوب به لأن الأقرب أولى بالميراث منه فيكون أولى بالإنفاق وإن كان الأقرب معسرا وكان من ينفق عليه من عمودي النسب وجبت نفقته على الموسر ذكر القاضي في اب معسر وجد موسر أن النفقة على الجد وقال في أم معسرة وجدة موسرة : النفقة على الجدة وقد قال أحمد : [ لا يدفع الزكاة إلى ولد ابنته لقول النبي A : إن ابني هذا سيد ] فسماه ابنه وهو ابن ابنته وإذا منع من دفع الزكاة إليهم لقرابتهم يجب أن تلزمه نفقتهم عند حاجتهم وهذا مذهب الشافعي وإن كان من غير عمودي النسب لم تجب النفقة عليه إذا كان محجوبا قال القاضي وأبو الخطاب في ابن فقير وأخ موسر : لا نفقة عليهما لأن الابن لا نفقة عليه لعسرته والأخ لا نفقة عليه لعدم إرثه ولأن قرابته ضعيفة لا تمنع شهادته له فإذا لم يكن وارثا لم تجب عليه النفقة كذوي الرحم ويتخرج في كل وارث لولا الحجب إذا كان من يحجبه معسرا وجهان : .
أحدهما : لا نفقة عليه لأنه ليس بوارث أشبه الأجنبي والثاني : عليه النفقة لوجود القرابة المقتضية للإرث والإنفاق والمانع من الإرث لا يمنع من الإنفاق لأنه معسر لا يمكنه الإنفاق فوجوده بالنسبة إلى الإنفاق كعدمه .
فصل : فأما ذوو الأرحام الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب فإن كانوا من غير عمودي النسب فلا نفقة عليهم نص عليه أحمد فقال : الخالة والعمة لا نفقة عليهما قال القاضي : لا نفقة لهم رواية واحدة وذلك لأن قرابتهم ضعيفة وإنما يأخذون ماله عند عدم الوارث فهم كسائر المسليمن فإن المال يصرف إليهم إذا لم يكن للميت وارث وذلك الذي ياخذه بيت المال ولذلك يقدم الرد عليهم وقال أبو الخطاب : يخرج فيهم رواية أخرى أن النفقة تلزمهم عند عدم العصبات وذوي الفروض لأنهم وارثون في تلك الحال قال ابن أبي موسى : هذا يتوجه على معنى قوله والأول هو المنصوص عنه فأما عمود النسب فذكر القاضي ما يدل على أنه يجب الإنفاق عليهم سواء كانوا من ذوي الأرحام كأب الأم وابن البنت أو من غيرهم وسواء كانوا محجوبين أو وارثين وهذا مذهب الشافعي وذلك لأن قرابتهم قرابة جزئية وبعضيه وتقتضي رد الشهادة تمنع جريان القصاص على الوالد بقتل الولد وإن سفل فأوجبت النفقة على كل حال كقرابة الأب الأدنى .
فصل : ولا يشترط في وجوب نفقة الوالدين والمولودين نقص الخلقة ولا نقص الأحكام في ظاهر المذهب وظاهر كلام الخرقي فإنه أوجب نفقتهم مطلقا إذا كانوا فقراء وله ما ينفق عليهم وقال القاضي : لا يشترط في الوالدين وهل يشترط ذلك في الولد ؟ فكلام أحمد يقتضي روايتين إحداهما : تلزمه نفقته لأنه فقير والثانية : إن كان يكتسب فينفق على نفسه لم تلزم نفقته وهذا القول يرجع إلى أن الذي لا يقدر على كسب ما يقوم به تلزم نفقته رواية واحدة سواء كان ناقص الأحكام كالصغير والمجنون أو ناقص الخلقة كالزمن وإنما الروايتان فيمن لا حرفة له ممن يقدر على الكسب ببدنه وقال الشافعي : يشترط نقصانه إما من طريق الحكم أو من طريق الخلقة وقال أبو حينفة : ينفق على الغلام حتى يبلغ فإذا بلغ صحيحا انقطعت نفقته ولا تسقط نفقة الجارية حتى تتزوج ونحوه قال مالك إلا أنه قال ينفق على النساء حتى يتزوجن ويدخل بهن الأزواج ثم لا نفقة لهن وإن طلقن ولو طلقن قبل البناء بهن فهن على نفقتهن .
[ ولنا قول النبي A لهند : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] لم يستثن منهم بالغا صحيحا ولأنه والد أو ولد فقير فاستحق النفقة على والده أو ولده الغني كما لو كان زمنا أو مكفوفا فأما الوالد فإن ابا حنيفة وافقنا على وجوب نفقته صحيحا إذا لم يكن ذا كسب ولـ لشافعي في ذلك قولان ولنا أنه والد محتاج فأشبه الزمن .
فصل : ومن كان له أب من أهل الإنفاق لم تجب نفقته على سواه لأن الله تعالى قال : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } وقا ل : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن } [ وقال النبي A لهند : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] فجعل النفقة على أبيهم دونها ولا خلاف في هذا نعلمه إلا أن لأصحاب الشافعي فيما إذا اجتمع للفقير أب وابن موسران وجيهن : أحدهما : أن النفقة على الأب وحده والثاني : عليهما جميعا لتساويهما في القرب .
ولنا أن النفقة عى الأب منصوص عليها فيجب اتباع النص وترك ما عداه .
فصل : ويلزم الرجل إعفاف ابنه إذا احتاج إلى النكاح وهذا ظاهر مذهب الشافعي ولهم في إعفاف الأب الصحيح وجه آخر أنه لا يجب وقال أبو حينفة : لا يلزم الرجل إعفاف أبيه سواء وجبت نفقته أو لم تجب لأن ذلك من أعظم الملاد فلم تجب للأب كالحلواء ولأنه أحد الأبوين فلم يجب ذلك له كالأم .
ولنا أن ذلك مما تدعو حاجته إليه ويستضر بفقده فلزم ابنه له كالنفقة ولا يشبه الحلواء لأنه لا يستضر بفقدها وإنما يشبه الطعام والأدم وأما الأم فإنما إعفافها بتزويجها إذا طلبت وخطبها كفؤها ونحن نقول بوجوب ذلك عليه وهم يوافقوننا في ذلك إذا ثبت هذا فإنه يجب إعفاف من لزمت نفقته من الآباء والأجداد فإن اجتمع جدان ولم يمكن إلا إعفاف أحدهما قدم الأقرب إلا أن يكون أحدهما من جهة الأب والآخر من جهة الأم فيقدم الذي من جهة الأب وإن بعد لأنه عصبة والشرع قد اعتبر جهته من التوريث والتعصيب فكذلك في الإنفاق والاستحقاق .
فصل : وإذا وجب عليه إعفاف أبيه فهو مخير أن شاء زوجة حرة وإن شاء ملكه أمة أو دفع إليه ما يتزوج به حرة أو يشتري به أمة وليس للأب التخيير عليه إلا أن الأب إذا عين امرأة وعين الابن أخرى وصداقهما واحد قدم تعيين الأب لأن النكاح له والمؤنة واحدة فقدم قوله كما لو عينت البنت كفؤا وعين الأب كفؤا يقدم بتعيينها وإن اختلفا في الصداق لم يلزم الابن الأكثر لأنه إنما يلزم أقل ما تحصل به الكفاية ولكن ليس له أن يزوجه أو يملكه قبيحة أو كبيرة لا استمتاع فيها وليس له أن يزوجه أمى لأن فيه ضررا عليه وهو إرقاق ولده والنقص في استمتاعه وإن رضي الأب بذلك لم يجز لأن الضرر يلحق بغيره وهو الولد ولذلك لم يكن للموسر أن يتزوج أمة وإذا زوجة زوجة أو ملكة أمة فعليه نفقته ونفقتها ومتى أيسر الأب لم يكن للولد استرجاع ما دفعها إليه ولا عوص ما زوجه به لأنه دفعه إليه في حال وجوبه عليه فلم يملك استرجاعه كالزكاة وإن زوجه أو ملكه أمة فطلق الزوجة أو أعتق الأمة لم يكن عليه أن يزوجه أو يملكه ثانيا لأنه فوت ذلك على نفسه وإن ماتتا فعليه إعفافه ثانيا لأنه لا صنع له في ذلك .
فصل : قال أصحابنا : وعلى الأب إعفاف ابنه إذا كانت عليه نفقته وكان محتاجا إلى إعفافه وهو قول بعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم : لا يجب ذلك عليه ولنا أنه من عمودي نسبه وتلزمه نفقته فيلزمه إعفافه عند حاجته إليه كأبيه قال القاضي : وكذلك يجيء في كل من لزمته نفقته من أخ وعم أو غيرهم لأن أحمد قد نص في العبد يلزمه أن يزوجه إذا طلب ذلك وإلا بيع عليه وكل من لزمه إعفافه لزمته نفقة زوجته لأنه لا يتمكن من الإعفاف إلا بذلك وقد روي عن أحمد أنه لا يلزم الأب نفقة زوجة الابن وهذا محمول على أن الابن كان يجد نفقتها