مسأل وفصول عدة من طلقها زوجها وقد خلا بها وبيان عدة المطلقة الحرة .
مسألة : قال C تعالى : وإذا طلق الرجل زوجته وقد خلا بها فعدتها ثلاث حيض غير الحيضة التي طلقها فيها .
في هذه المسألة ثلاثة فصول : .
الفصل الأول : ان العدة تجب على كل من خلا بها زوجها وإن لم يمسها ولا خلاف بين أهل العلم في وجوبها على المطلقة بعد المسيس فأما إن خلا بها ولم يصبها ثم طلقها فإن مذهب أحمد وجوب العدة عليها وروي ذلك عن الخلفاء الراشدين وزيد وابن عمر وبه قال عروة وعلي بن الحسين و عطاء و الزهري و الثوري و الأوزاعي و إسحاق وأصحاب الرأي و الشافعي في قديم قوليه وقال الشافعي في الجديد : لا عدة عليها لقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } وهذا نص ولأنها مطلقة لم تمس فأشبهت من لم يخل بها .
ولنا إجماع الصحابة روى الإمام أحمد و الأثرم بإسنادهما عن زرارة بن أوفى قال : قضى الخلفاء الراشدون أن من أرخى سترا أو أغلق بابا فقد وجب المهر ووجبت العدة ورواه الأثرم أيضا عن الأحنف عن عمر وعلي وعن سعيد بن المسيب عن عمر وزيد بن ثابت وهذه قضايا اشتهرت فلم تنكر فصارت إجماعا وضعف أحمد ما روي في خلاف ذلك وقد ذكرناه في كتاب الصداق ولأنه عقد على المنافع فالتمكين فيه يجري مجرى الاستيفاء في الأحكام المتعلقة كعقد الإجارة والآية مخصوصة بما ذكرناه ولا يصح القياس على من لم يخل بها لأنه لم يوجد منها التمكين .
فصل : وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين أن يخلو بها مع المانع من الوطء أو مع عدمه سواء كان المانع حقيقيا كالجب والعنة والفتق والرتق أو شرعيا كالصوم والإحرام أو الحيض والنفاس والظهار لأن الحكم علق ههنا على الخلوة التي هي مظنة الإصابة دون حقيقتها ولهذا لو خلا به فأتت بولد لمدة الحمل لحقه نسبه وإن لم يطأ وقد روي عن أحمد أن الصداق لا يكمل مع وجود المانع فكذلك يخرج في العدة وروي عنه أن صوم شهر رمضان يمنع كمال الصداق مع الخلوة وهذا يدل على أنه متى كان المانع متأكدا كالإحرام وشبهه منع كمال الصداق ولم تجب العدة لأن الخلوة إنما أقيمت مقام المسيس لأنها مظنة له ومع المانع لا تتحقق المظنة وأما إن خلا بها وهي صغيرة لا يمكن وطؤها أو كان أعمى فلم يعلم بها فلا عدة عليها ولا يكمل صداقها لأن المظنة لا تتحقق مع ظهور استحالة المسيس .
الفصل الثاني : إن عدة المطلقة إذا كانت حرة وهي من ذوات القروء ثلاثة قروء بلا خلاف بين أهل العلم وذلك لقول الله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } والقرء في كلام العرب يقع على الحيض والطهر جميعا فهو من الأسماء المشتركة قال أحمد بن يحيى ثعلب : القروء الأوقات الواحد قرء وقد يكون حيضا وقد يكون طهرا لأن كل واحد منهما يأتي لوقت قال الشاعر : .
( كرهت العقر عقر بني تميم ... إذا هبت لقارئها الرياح ) .
يعني لوقتها وقال الخليل بن أحمد : يقال أقرأت المرأة إذا دنا حيضها وأقرأت إذا دنا طهرها وفي الحديث [ عن النبي A : دعي الصلاة أيام إقرائك فهذا الحيض ] وقال الشاعر : .
( مورثة عزا وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا ) .
فهذا الطهر واختلف أهل العلم المراد بقوله سبحانه : { يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } واختلفت الرواية في ذلك عن أحمد فروي أنها الحيض روي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس و سعيد بن المسيب و الثوري و الأوزاعي و العنبري و إسحاق و أبي عبيد و أصحاب الرأي وروي ذلك عن أبي بكر الصديق وعثمان بن عفان Bهما وأبي موسى وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء قال القاضي : الصحيح عن أحمد أن الإقراء الحيض وإليه ذهب أصحابنا ورجع عن قوله بالإطهار فقال في رواية النيسابوري : كنت أقول إنه الاطهار وأنا أذهب اليوم إلى أن الإقراء الحيض وقال في رواية الأثرم كنت أقول الاطهار ثم وقفت لقول الأكابر والرواية الثانية : عن أحمد أن القروء الأطهار وهو قول زيد وابن عمر وعائشة و سليمان بن يسار و القاسم بن محمد و سالم بن عبد الله وأبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز و الزهري و مالك و الشافعي و أبي ثور وقال أبو بكر بن عبد الرحمن : ما أدركت أحدا من فقهائنا إلا وهو يقول ذلك قال ابن عبد البر : رجع أحمد إلى أن القروء الأطهار قال في رواية الأثرم رأيت الأحاديث عمن قال القروء الحيض تختلف والأحاديث عمن قال أنه أحق بها حتى تدخل في الحيضة الثالثة أحاديثها صحاح وقوية واحتج من قال ذلك بقول الله تعالى : { فطلقوهن لعدتهن } أي في عدتهن كقوله تعالى : { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } أي في يوم القيامة وإنما أمر بالطلاق في الطهر لا في الحيض ويدل عليه [ قول النبي A في حديث ابن عمر : مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فإن شاء طلق وإن شاء أمسك فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء ] متفق عليه [ وفي رواية ابن عمر : فطلقوهن في قبل عدتهن ] ولأنها عدة عن طلاق مجرد مباح فوجب أن يعتبر عقيب الطلاق وكعدة الآيسة والصغيرة .
ولنا قول الله تعالى : { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن } فنقلهن عند عدم الحيض إلى الاعتداد بالأشهر فدل ذلك على أن الأصل الحيض كما قال تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا } الآية ولأن المعهود في لسان الشرع استعمال القرء بمعنى الحيض [ قال النبي A : تدع الصلاة أيام أقرائها ] رواه أبو داود [ وقال لفاطمة بنت أبي حبيش : انظري فإذا أتى قرؤك فلا تصلي وإذا مر قرؤك فتطهري ثم صلي ما بين القرء إلى القرء ] رواه النسائي ولم يعهد في لسانه استعماله بمعنى الطهر في موضع فوجب أن يحمل كلامه على المعهود في لسانه و [ روي عن النبي A أنه قال : طلا ق الأمة طلقتان وقرؤها حيضتان ] رواه أبو داود و غيره فإن قالوا هذا يرويه مظاهر بن مسلم وهو منكر الحديث قلنا : قد رواه عبد الله بن عيسى عن عطية العوفي عن ابن عمر كذلك أخرجه ابن ماجة في سننه وأبو بكر الخلال في جامعه وهو نص في عدة الأمة فكذلك عدة الحرة ولأن ظاهر قوله تعالى : { يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } وجوب التربص ثلاثة كاملة ومن جعل الحيض القروء الأطهار لم يوجب ثلاثة لأنه يكتفي بطهرين وبعض الثالث فيخالف ظاهر النص ومن جعله الحيض أوجب ثلاثة كاملة فيوافق ظاهر النص فيكون أولى من مخالفته ولأن العدة استبراء فكانت بالحيض كاستبراء الأمة وذلك لأن الاستبراء لمعرفة براءة الرحم من الحمل والذي يدل على الحيض فوجب أن يكون الاستبراء به فإن قيل لا نسلم ان استبراء الأمة بالحيضة وإنما هو بالطهر الذي قبل الحيضة كذلك فال ابن عبد البر وقال : قولهم إن استبراء الأمة حيضة بإجماع ليس كما ظنوا بل جائز لها عندنا أن تنكح إذا دخلت في الحيضة واستيقنت أن دمها دم حيض كذلك قال إسماعيل بن إسحاق ليحيى بن أكثم حين دخل عليه في مناظرته إياه قلنا هذا يرده قول النبي A : [ لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة ] ولأن الاستبراء تعرف براءة الرحم وإنما يحصل بالحيضة لا بالطهر الذي قبلها ولأن العدة تتعلق بخروج خارج من الرحم فوجب أن تتعلق فوجب أن تتعلق بالطهر كوضع الحمل يحققه أن العدة مقصودها معرفة براءة المرأة من الحمل فتارة تحصل بوضعه وتارة تحصل بما ينافيه وهو الحيض الذي لا يتصور وجوده معه فأما قوله تعالى : { فطلقوهن لعدتهن } فيحتمل أنه أراد قبل عدتهن إذ لا يمكن جمله على الطلاق في العدة ضروة أن الطلاق سبق العدة لكونه سببها والسبب يتقدم على الحكم فلا يوجد قبله والطلاق في الطهر تطليق قبل العدة إذا كانت الأقراء الحيض .
الفصل الثالث : إن الحيضة التي طلق فيها لا تحسب من عدتها بغير خلاف بين أهل العلم لأن الله تعالى أمر بثلاثة قروء فتناول ثلاثة كاملة والتي طلق فيها لم يبق منها ما تتم به مع اثنتين كاملة فلا يعتد بها ولأن الطلاق إنما حرم في الحيض لما فيه من تطويل العدة عليها فلو احتسبت بتلك الحيضة قرءا كان أقصر لعدتها وأنفع لها فلم يكن محروما ومن قال : القروء الأطهار احتسب لها بالطهر الذي طلقها فيه قرءا فلو طلقها وقد بقي من قرئها لحظة حسبها قرءا وهذا قول كل من قال القروء الأطهار إلا الزهري وحده قال : تعتد بثلاثة قروء سوى الطهر الذي طلقها فيه وحكي عن أبي عبيد أنه إن كان جامعها في الطهر لم يحتسب ببقيته لأنه زمن حرم فيه الطلاق فلم يحتسب به من العدة كزمن الحيض .
ولنا أن الطلاق حرم في زمن الحيض دفعا لضرر تطويل العدة عليها فلو لم يحتسب ببقية الطهر قرءا كان الطلاق في الطهر أضر بها وأطول عليها وما ذكر عن أبي عبيد لا يصح لأن تحريم الطلاق في الحيض لكونها لا تحتسب ببقيته فلا يجوز أن تجعل العلة في عدم الاحتساب تحريم الطلاق فتصير العلة معلولا وإنما تحرم الطلاق في الطهر الذي أصابها فيه لكونها مرتابة ولكونه لا يأمن الندم بظهور حملها فأما إن انقضت حروف الطلاق مع انقضاء الطهر فإن الطلاق يقع في أول الحيضة ويكون محرما ولا تحتسب بتلك الحيضة من عدتها وتحتاج أن تعتد بثلاث حيض بعدها أو ثلاثة أطهار على الرواية الأخرى ولو قال لها أنت طالق في آخر طهرك أو في آخر جزء من طهرك أو انقضت حروف الإيقاع ولم يبق من الطهر إلا زمن الوقوع فإنها لا تحتسب بالطهر الذي وقع فيه الطلاق لأن العدة لا تكون إلا بعد وقوع الطلاق وليس بعده طهر تعتد به ولا يجوز الاعتداد بما قبله ولا بما قاربه ومن جعل القرء الحيض اعتد لها بالحيضة التي تلي الطلاق لأنها حيضة كاملة لم يقع طلاق فوجب أن تعتد بها قرءا وإن اختلفا فقال الزوج : وقع الطلاق في أول الحيض وقالت : بل في آخر الطهر او قال : انقضت حروف الطلاق مع انقضاء الطهر وقالت : بل وقد بقي منه بقية فالقول قولها لأن قولها مقبول في الحيض وفي انقضاء العدة