مسائل وفصول اللعان الذي يبرأ به من الحد وألفاظ اللعان وصفته وشروطه .
مسألة : قال : واللعان الذي يبرأ به من الحد أن يقول الزوج بمحضر من الحاكم : أشهد بالله لقد زنت ويشير إليها وإن لم تكن حاضرة سماها ونسبها حتى يكمل ذلك أربع مرات ثم يوقف عند الخامسة ويقال به : اتق الله فإنها الموجبة وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فإن أبى إلا أن يتم فليقل : ولعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنا وتقول هي : أشهد بالله لقد كذب أربع مرات ثم توقف عند الخامسة تخوف كما خوف الرجل فإن أبت إلا أن تتم فلتقل : وغضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا .
في هذه المسألة مسألتان : .
المسألة الأولى : أن اللعان لا يصح إلا بمحضر من الحاكم أو من يقوم مقامه وهذا مذهب الشافعي ل [ أن النبي A أمر هلال بن أمية أن يستدعي زوجته إليه ولاعن بينهما ولأنه إما يمين وإما شهادة فأيهما كان فمن شرطه الحاكم ] وإن تراضى الزوجان بغير الحاكم يلاعن بينهما لم يصح ذلك لأن اللعان مبني على التغليظ والتأكيد فلم يجز بغير الحاكم كالحد وسواء كان الزوجان حرين أو مملوكين في ظاهر كلام الخرقي وقال أصحاب الشافعي : للسيد أن يلاعن بين عبده وأمته لأن له إقامة الحد عليهما .
ولنا أنه لعان بين زوجين فلم يجز لغير الحاكم أو نائبه كاللعان بين الحرين ولا نسلم أن السيد يملك إقامة الحد على أمته المزوجة ثم لا يشبه اللعان الحد لأن الحد زجر وتأديب واللعان إما شهادة وإما يمين فافترقا ولأن اللعان دارىء للحد وموجب له فجرى مجرى إقامة البينة على الزنا والحكم به أو بنفيه وإن كانت المرأة خفرة لا تبرز لحوائجها بعث الحاكم نائبه وبعث معه عدولا ليلاعنوا بينهما وإن بعث نائبه وحده جاز لأن الجمع غير واجب .
فصل : ويستحب أن يكون اللعان بمحضر جماعة من المسلمين لأن ابن عباس وابن عمر وسهل بن سعد حضروه مع حداثة أسنانهم فدل ذلك على أنه حضره جمع كثير لأن الصبيان إنما يحضرون المجالس تبعا للرجال ولأن اللعان بني على التغليظ مبالغة في الردع به والزجر وفعله في الجماعة أبلغ في ذلك ويستحب أن لا ينقصوا عن أربعة لأن بينة الزنا الذي شرع اللعان من أجل الرمي به أربعة وليس شيء من هذا واجبا ويستحب أن يتلاعنا قياما فيبدأ الزوج فيلتعن وهو قائم فإذا فرغ قامت المرأة فالتعنت وهي قائمة لما [ روي عن النبي A أنه قال لهلال بن أمية : قم فاشهد أربع شهادات ] ولأنه إذا قام شاهده الناس فكان أبلغ في شهرته فاستحب كثرة الجمع وليس ذلك واجبا وبهذا كله قال أبو حنيفة و الشافعي ولا أعلم فيه مخالفا .
فصل : قال القاضي : ولا يستحب التغليظ في اللعان بمكان ولا زمان وبهذا قال أبو حنيفة لأن الله تعالى أطلق الأمر بذلك ولم يقيده بزمن ولا مكان فلا يجوز تقييده إلا بدليل ول [ أن النبي A أمر الرجل بإحضار امرأته ] ولم يخصه بزمن ولو خصه بذلك لنقل ولم يهمل وقال أبو الخطاب : يستحب أن يتلاعنا في الأزمان والأماكن التي تعظم وهذا مذهب الشافعي إلا أن عنده في التغليظ بالمكان قولين : أحدهما : أن التغليظ به مستحب كالزمان والثاني : أنه واجب ل [ أن النبي A لاعن عند المنبر ] فكان فعله بيانا للعان ومعنى التغليظ بالمكان أنهما إذا كانا بمكة لاعن بينهما بين الركن والمقام فإنه أشرف البقاع وإن كان في المدينة فعند منبر رسول الله A وفي بيت المقدس عند الصخرة وفي سائر البلدان في جوامعها وأما الزمان فبعد العصر لقول الله تعالى : { تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله } وأجمع المفسرون على أن المراد بالصلاة صلاة العصر قال أبو الخطاب : في موضع أو بين الأذانين لأن الدعاء بينهما لا يرد والصحيح الأول ولو استحب ذلك لفعله النبي A ولو فعله لنقل ولم يسغ تره وإهماله وأما قولهم أن النبي A لاعن بينهما عند المنبر فليس هذا في شيء من الأحاديث المشهورة وإن ثبت هذا فيحتمل أنه كان بحكم الإتفاق لأن مجلسه كان عنده فلاعن بينهما في مجلسه فإن كان اللعان بين كافرين فالحكم فيه كالحكم في اللعان بين المسلمين ويحتمل أن يغلظ في المكان لقوله في الأيمان وإن كان لهم مواضع يعظمونها ويتوقون أن يحلفوا فيها كاذبين حلفوا فيها فعلى هذا يلاعن بينهما في مواضعهم اللاتي يعظمونها النصراني في البيعة واليهودي في الكنيسة والمجوسي في بيت النار وإن لم يكن لهم مواضع يعظمونها حلفهم الحاكم في مجلسه لتعذر التغليظ بالمكان وإن كانت المسلمة حائضا وقلنا إن للعان بينهما يكون في المسجد وقفت على بابه ولم تدخله لأن ذلك أقرب المواضع إليه .
المسألة الثانية : في ألفاظ اللعان وصفته : اما ألفاظه فهي خمسة في حق كل واحد منهما وصفته أن الإمام يبدأ بالزوج فيقيمه ويقول له : قل أربع مرات أشهد إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي هذه من الزنا ويشير إليها إن كانت حاضرة ولا يحتاج مع الحضور والإشارة إلى نسبه وتسميته كما لا يحتاج إلى ذلك في سائر العقود وإن كانت غائبة أسماها ونسبها فقال : امرأتي فلانة بنت فلان ويرفع في نسبها حتى ينفي المشاركة بينها وبين غيرها فإذا شهد أربع مرات وقفه الحاكم وقال له : اتق الله فإنها الموجبة وعذاب الدنيا أهون ن عذاب الآخر وكل شيء أهون من لعنة الله ويأمر رجلا فيضع يده على فيه حتى لا يبادر بالخامسة قبل الموعظة ثم يأمر الرجل فيرسل يده عن فيه فإن رآه يمضي في ذلك قال له : قل : وإن لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فيما رميت به زوجتي هذه من الزنا .
ثم يأمر المرأة بالقيام ويقول لها : قولي أشهد بالله إن زوجي هذا لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا وتشير إليه وإن كان غائبا أسمته ونسبته فإذا كررت ذلك أربع مرات وقفها ووعظها كما ذكرنا في حق الزوج ويأمر امرأة فتضع يدها على فيها فإن رآها تمضي على ذلك قال لها : قولي : وإن غضب الله علي إن كان زوجي هذا من الصادقين فيما رماني به من الزنا .
قال إسحاق بن منصور قلت لـ أحمد كيف يلاعن ؟ قال علي ما في كتاب الله يقول أربع مرات أشهد بالله إني فيما رميتها به لمن الصادقين ثم يوقف عند الخامسة فيقول : لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين والمرأة مثل ذلك توقف عند الخامسة فيقال له : اتقي الله فإنها الموجبة التي توجب عليك العذاب فإن حلفت قالت غضب الله عليها إن كان من الصادقين وعدد هذه الألفاظ الخمسة شرط في اللعان فإن أخل بواحدة منها لم يصح على ما ذكرناه فيما مضى وإن أبدل لفظا منها فظاهر كلام الخرقي أنه يجوز أن يبدل قوله : إني لمن الصادقين بقوله : لقد زنت لأن معناهما واحد ويجوز لها إبدال إنه لمن الكاذبين بقولها : لقد كذب لأنه ذكر صفة اللعان كذلك واتباع لفظ النص أولى وأحسن وإن أبدل لفظه أشهد بلفظ من ألفاظ اليمين فقال أحلف أو أقسم أو أولي لم يعتد به .
وقال أبو الخطاب : فيه وجه آخر أنه يعتد به لأنه أتى بالمعنى فأشبه ما لو أبدل إني لمن الصادقين بقوله لقد زنت ولـ لشافعي وجهان في هذا والصحيح أنه لا يصح لأن ما اعتبر فيه لفظ الشهادة لم يقم غيره مقامه كالشهادات في الحقوق ولأن اللعان يقصد فيه الغليظ واعتبار لفظ الشهادات أبلغ في التغليظ فلم يجز تركه ولهذا لم يجز أن يقسم بالله من غير كلمة تقوم مقام أشهد .
والثاني : يعتد به لأنه أتى بالمعنى أشبه ما قبله ولـ لشافعي وجهان كهذين وإن أبدل لفظة اللعنة بالإبعاد لم يجز لأن لفظ اللعنة أبلغ في الزجر وأشد في أنفس الناس ولأنه عدل عن المنصوص وقيل : يجوز لأن معناهما واحد وإن أبدلت المرأة لفظة الغضب باللعنة لم يجز لأن الغضب أغلظ ولهذا خصت المرأة به لأن المعزة بزناها أقبح وإثمها بفعل الزنا أعظم من إثمه بالقذف وإن أبدلتها بالسخط خرج على وجهين فيما إذا أبدل الرجل لفظة اللعنة بالإبعاد وإن أبدل الرجل لفظة اللعنة بالغضب احتمل أن يجوز لأنه أبلغ واحتمل أن لا يجوز لمخالفته المنصوص .
قال الوزير يحيى بن محمد بن هبيرة C تعالى : من الفقهاء من اشترط أن يزاد بعد قوله من الصادقين فيما رميتها به من الزنا واشترط في نفيها عن نفسها فيما رماني به من الزنا ولا أراه يحتاج إليه لأن الله سبحانه أنزل ذلك وبينه ولم يذكر هذا الاشتراط .
وأما موعظة الإمام لهما بعد الرابعة وقبل الخامسة فهي مستحبة في قول أكثر أهل العلم لما روى ابن عباس قال : لما كانت الخامسة قيل يا هلال اتق الله فإنها الموجبة التي توجب عليك العذاب فقال : والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها فشهد الخامسة فلما كانت الخامسة قيل لها اتقي الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخر وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب فتلكأت ساعة ثم قالت : والله لا أفضح قومي فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين وروى أبو إسحاق الجوزجاني بإسناده حديث المتلاعنين قال : فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ثم أمر به فأمسك على فيه فوعظه وقال : ويحك كل شيء أهون عليك من لعنة الله ثم أرسل فقال لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم دعاها فقرأ عليها فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ثم أمر بها فأمسك على فيها وقال : ويحك كل شيء أهون عليك من عذاب الله وذكر الحديث .
فصل : ويشترط في صحة اللعان شروط ستة أحدها : أن يكون بمحضر الإمام أو نائبه الثاني : أن يأتي كل واحد منهما باللعان بعد إلقائه عليه فإن بادر به قبل أن يلقيه الإمام عليه لم يصح كما لو حلف قبل أن يحلفه الحاكم الثالث : استكمال لفظات اللعان الخمسة فإن نقص منها لفظة لم يصح الرابع : أن يأتي بصورته إلا ما ذكرنا من الاختلاف في إبدال لفظة بمثلها في المعنى الخامس : الترتيب فإن قدم لفظة اللعنة على شيء من الألفاظ الأربعة أو قدمت المرأة لعانها على لعان الرجل لم يعتد به السادس : الإشارة من كل واحد منهما إلى صاحبه إن كان حاضرا وتسميته ونسبته إن كان غائبا ولا يشترط حضورهما معا بل لو كان أحدهما غائبا عن صاحبه مثل : أن لاعن الرجل في المسجد والمرأة على بابه لعدم إمكان دخولها جاز .
فصل : وإذا كان الزوجان يعرفان العربية لم يجز أن يلتعنا بغيرها لأن اللعان ورد في القرآن بلفظ العربية وإن كانا لا يحسنان ذلك جاز لهما الالتعان بلسانهما لموضع الحاجة فإن كان الحاكم يحسن لسانهما أجزأ ويستحب أن يحضر معه أربعة يحسنون لسانهما وإن كان الحاكم لا يحسن لسانهما فلا بد من ترجمان قال القاضي : ولا يجزىء في الترجمة أقل من اثنين عدلين وهو قول الشافعي وظاهر قول الخرقي لأنه قال : ولا يقبل في الترجمة عن أعجمي حاكم إليه إذا لم يعرف لسانه أقل من عدلين يعرفان لسانه وذكر أبو الخطاب رواية أخرى أنه يجزىء قول عدل واحد وهو قول أبي حنيفة وسنذكر ذلك في موضع آخر إن شاء الله تعالى