مسائل وفصول : فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين وفروع فيها .
مسألة : قال : فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين .
أجمع أهل العلم على أن المظاهر إذا لم يجد رقبة أن فرضه صيام شهرين متتابعين وذلك لقول الله تعالى : { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا } وحديث أوس بن الصامت وسلمة بن صخر وأجمعوا على أن من وجد رقبة فاضلة عن حاجته فليس له الانتقال إلى الصيام وإن كانت له رقبة يحتاج إلى خدمتها لزمن أو كبر أو مرض أو عظم خلق ونحوه مما يعجزه عن خدمة نفسه أو يكون ممن لا يخدم نفسه في العادة ولا يجد رقبة فاضلة عن خدمته فليس عليه الإعتاق وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة و مالك و الأوزاعي : متى وجد رقبة لزمه اعتاقها ولم يجز له الانتقال إلى الصيام سواء كان محتاجا إليها أو لم يكن لأن الله تعالى شرط في الانتقال إلى الصيام أن لا يجد رقبة بقوله : { فمن لم يجد } وهذا واجد وإن وجد ثمنها وهو محتاج إليه لم يلزمه شراؤها وبه قال أبو حنيفة وقال مالك : يلزمه لأن وجدان ثمنها كوجدانها .
ولنا أن ما استغرقته حاجة الإنسان فهو كالمعدوم في جواز الانتقال إلى البدل كمن وجد ماء يحتاج إليه للعطش يجوز له الانتقال إلى التيمم وإن كان له خادم وهو ممن يخدم نفسه عادة لزمه اعتاقها لأنه فاضل عن حاجته بخلاف من لم تجر عادته بخدمة نفسه فإن عليه مشقة في إعتاق خادمه وتضييعا لكثير من حوائجه وإن كان له خادم يخدم امرأته وهي ممن عليه اخدامها أو كان له رقيق يتقوت بخراجهم أو دار يسكنها أو عقار يحتاج إلى غلته لمؤنته أو عرض للتجارة لا يستغني عن ربحه في مؤنته لم يلزمه العتق وإن استغنى عن شيء من ذلك مما يمكنه أن يشتري به رقبة لزمه لأنه واجد للرقبة وإن كانت له رقبة تخدمه يمكنه بيعها وشراء رقبتين بثمنها يستغني بخدمة إحداهما ويعتق الأخرى لزمه لأنه لا ضرر في ذلك وهكذا لو كانت له ثياب فاخرة تزيد على ملابس مثله يمكنه بيعها وشراء ما يكفيه في لباسه ورقبة لزمه ذلك وإن كانت له دار يمكنه بيعها وشراء ما يكفيه لسكنى مثله ورقبة أو ضيعة يفضل منها عن كفايته ما يمكنه شراء رقبة لزمه ويراعى في ذلك الكفاية التي يحرم معها أخذ الزكاة فإذا فضل عن ذلك شيء وجبت فيه الكفارة ومذهب الشافعي في هذا الفصل جميعه على نحو مما قلنا وإن كانت له سرية لم يلزمه اعتاقها لأنه يحتاج إلأيها وإن أمكنه بيعها وشراء سرية أخرى ورقبة يعتقها لم يلزمه ذلك لأن الفرض قد يتعلق بعينها فلا يقوم غيرها مقامها سيما إذا كان بدون ثمنها .
فصل : فإن كان موسرا حين وجوب الكفارة إلا أن ماله غائب فإن كان مرجو الحضور قريبا لم يجز الانتقال إلى الصيام لأن ذلك بمنزلة الانتظار لشراء الرقبة وإن كان بعيدا لم يجز الانتقال إلى الصيام في غير كفارة الظهار لأنه لا ضرر في الانتظار وهل يجوز ذلك في كفارة الظهار ؟ فيه وجهان : .
أحدهما : لا يجوز لوجود الأصل في ماله فأشبه سائر الكفارات .
والثاني : يجوز لأنه يحرم عليه المسيس فجاز له الانتقال لموضع الحاجة فإن قيل فلو عدم المال وثمنه جاز له الانتقال إلى التيمم وإن كان قادرا عليهما في بلده قلنا الطهار تجب لأجل الصلاة وليس له تأخيرها عن وقتها فدعت الحاجة إلى الانتقال بخلاف مسألتنا ولأننا لو منعناه من التيمم لوجود القدرة في بلده بطلت رخصة التيمم فإن كل أحد يقدر على ذلك .
فصل : وإن وجد ثمن الرقبة ولم يجد رقبة يشتريها فله الانتقال إلى الصيام كما لو وجد ثمن الماء ولم يجد ما يشتريه وإن وجد رقبة تباع بزيادة على ثمن المثل تجحف بماله لم يلزمه شراؤها لأن فيه ضررا وإن كانت لا تجحف بماله احتمل وجهين : .
أحدهما : يلزمه لأنه قادر على الرقبة بثمن يقدر عليه لا يجحف به فأشبه ما لو بيعت بثمن مثلها .
والثاني : لا يلزمه لأنه لم يجد رقبة بثمن مثلها أشبه العادم وأصل الوجهين العادم للماء إذا وجده بزيادة على ثمن مثله فإن وجد رقبة بثمن مثلها إلا أنها رقبة رفيعة يمكن أن يشتري بثمنها رقابا من غير جنسها لزمه شراؤها لانها بثمن مثلها ولا يعد شراؤها بذلك الثمن ضررا وإنما الضرر في اعتاقها وذلك لا يمنع الوجوب كما لو كان مالكا لها .
مسألة : قال : فإن أفطر فيها من عذر بنى وإن أفطر من غير عذر ابتدأ .
أجمع أهل العلم على وجوب التتابع في الصيام في كفارة الظهار وأجمعوا على أن من صام بعض الشهر ثم قطعه لغير عذر وأفطر عليه استئناف الشهرين وإنما كان كذلك لورود لفظ الكتاب والسنة به ومعنى التتابع الموالاة بين صيام أيامهما فلا يفطر فيها ولا يصوم عن غير الكفارة ولا يفتقر التتابع إلى نية ويكفي فعله لأنه شرط وشرائط العبادات لا تحتاج إلى نية وإنما تجب النية لأفعالها وهذا أحد الوجوه لأصحاب الشافعي والوجه الآخر أنها واجبة لكل ليلة لأن ضم العبادة إلى العبادة إذا كان شرطا وجبت النية فيه كالجمع بين الصلاتين والثالث تكفي نية التتابع في الليلة الأولى .
ولنا أنه تتابع واجب في العبادة فلم يفتقر إلى نية كالمتابعة بين الركعات ويفارق الجمع بين الصلاتين فإن ذلك رخصة فافتقر إلى نية الترخص وما ذكروه ينتقض بالمتابعة بين الركعات وأجمع أهل العلم على أن الصائمة متتابعا إذا حاضت قبل إتمامه تقضي إذا طهرت وتبني وذلك لأن الحيض لا يمكن التحرز منه في الشهرين إلا بتأخيره إلى الإياس وفيه تغرير بالصوم لأنها ربما ماتت قبله والنفاس كالحيض في أنه لا يقطع التتابع في أحد الوجهين لأنه بمنزلته في أحكامه ولأن الفطر لا يحصل فيهما بفعلهما وإنما ذلك الزمان كزمان الليل في حقهما .
والوجه الثاني : أن النفاس يقطع التتابع لأنه فطر أمكن التحرز منه لا يتكرر كل عام فقطع التتابع كالفطر لغير عذر ولا يصح قياسه على الحيض لأنه أندر منه ويمكن التحرز عنه وإن أفطر لمرض مخوف لم ينقطع التتابع أيضا روي ذلك عن ابن عباس وبه قال ابن المسيب و الحسن و عطاء و الشعبي و طاوس و مجاهد و مالك و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور و ابن المنذر و الشافعي في القديم وقال في الجديد ينقطع التتابع وهذا قول سعيد بن جبير و النخعي و الحكم و الثوري وأصحاب الرأي لأنه أفطر بفعله فلزمه الاستئناف كما لو أفطر لسفر .
ولنا أنه أفطر لسبب لا صنع له فيه فلم يقطع التتابع كإفطار المرأة للحيض وما ذكروه من الأصل ممنوع وإن كان المرض غير مخوف لكنه يبيح الفطر فقال أبو الخطاب فيه وجهان : .
أحدهما : لا يقطع التتابع لأنه مرض أباح الفطر أشبه المخوف .
والثاني : يقطع التتابع لأنه أفطر اختيارا فانقطع التتابع كما لو أفطر لغير عذر فأما الحامل والمرضع فإن أفطرتا خوفا على أنفسهما فهما كالمريض وإن أفطرتا خوفا على ولديهما ففيهما وجهان : .
أحدهما : لا ينقطع التتابع اختاره أبو الخطاب لأنه فطر أبيح لهما بسبب لا يتعلق باختيارهما فلم ينقطع التتابع كما لو أفطرتا خوفا على أنفسهما .
والثاني : ينقطع لأن الخوف على غيرهما ولذلك يلزمهما الفدية مع القضاء وإن أفطر لجنون أو إغماء لم ينقطع التتابع لأنه عذر لا صنع له فيه فهو كالحيض .
فصل : وإن أفطر لسفر مبيح للفطر فكلام أحمد يحتمل الأمرين وأظهرهما أنه لا يقطع التتابع فإنه قال في رواية الأثرم : كان السفر غير المرض وما ينبغي أن يكون أوكد من رمضان وظاهر هذا أنه لا يقطع التتابع وهذا قول الحسن ويحتمل أن ينقطع به التتابع وهو قول مالك وأصحاب الرأي واختلف أصحاب الشافعي فمنهم من قال فيه قولان كالمرض ومنهم من يقول بنقطع التتابع وجها واحدا لأن السفر يحصل باختياره فقطع التتابع كما لو أفطر لغير عذر .
ووجه الأول أنه فطر لعذر مبيح للفطر فلم ينقطع به التتابع كإفطار المرأة بالحيض وفارق الفطر لغير عذر فانه لا يباح وإن أكل يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع أو أفطر يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب أفطر ويتخرج في انقطاع التتابع وجهان أحدهما : لا ينقطع لأنه فطر لعذر .
والثاني : يقطع التتابع لأنه بفعل أخطأ فيه فأشبه ما لو ظن أنه قد أتم الشهرين فبان خلافه وإن أفطر ناسيا لوجوب التتابع أو جاهلا به أو ظنا منه أنه قد أتم الشهرين انقطع التتابع لأنه أفطر لجهله فقطع التتابع كما لو ظن أن الواجب شهر واحد وإن أكره على الأكل أو الشرب بأن أوجر الطعام أو الشراب لم يفطر وإن أكل خوفا فقال القاضي : لا يفطر ولم يذكر غير ذلك وفيه وجه آخر أنه يفطر فعلى ذلك هل يقطع التتابع ؟ فيه وجهان أحدهما : لا يقطعه لأنه عذر مبيح للفطر فأشبه المرض والثاني : ينقطع التتابع وهو مذهب الشافعي لأنه أفطر بفعله لعذر نادر .
فصل : وإن أفطر في أثناء الشهرين لغير عذر أو قطع التتابع بصوم نذر أو قضاء أو تطوع أو كفارة أخرى لزمه استئناف الشهرين لأنه أخل بالتتابع المشروط ويقع صومه عما نواه لأن هذا الزمان ليس بمستحق متعين للكفارة ولهذا يجوز صومها في غيره بخلاف شهر رمضان فإنه متعين لا يصلح لغيره وإذا كان عليه صوم نذر غير معين أخره إلى فراغه من الكفارة وإن كان متعينا في وقت بعينه أخر الكفارة عنه أو قدمها عليه إن أمكن وإن كان أياما من كل شهر كيوم الخميس أو أيام البيض قدم الكفارة عليه وقضاه بعدها لأنه لو وفى بندره لانقطع التتابع ولزمه الاستئناف فيفضي إلى أن لا يتمكن من التكفير والنذر يمكن قضاؤه فيكون هذا عذرا في تأخيره كالمرض