مسألة وفصل : شرط دعوى الرجل الرجعة ودعوى المرأة انقضاء العدة .
مسألة : قال : وإذا قال قد ارتجعتك فقالت قد انفضت عدتي قبل رجعتك فالقول قولها ما ادعت من ذلك ممكنا .
وجملة ذلك أن المرأة إذا ادعت انقضاء عدتها في مدة يمكن انقضاؤها فيها قبل قولها لقول الله تعالى : { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } قيل في التفسير هو الحيض والحمل فلولا أن قولهن مقبول لم يحرجن بكتمانه ولأنه أمر تختص بمعرفته فكان القول قولها فيه كالنية من الإنسان فيما تعتبر فيه النية أو أمر لا يعرف إلا من جهتها فقبل قولها فيه كما يجب على التابعي قبول خبر الصحابي عن رسول الله A فأما ما تنقضي به العدة فلا يخلو من ثلاثة أقسام .
القسم الأول : أن تدعي انقضاء عدتها بالقروء وأقل ذلك ينبني على الخلاف في أقل الطهر بين الحيضتين وعلى الخلاف في القروء هل هي الحيض أو الاطهار ؟ فإن قلنا هي الحيض وأقل الطهر ثلاثة عشر يوما فأقل ما تنقضي به العدة تسعة وعشرون يوما ولحظة وذلك أن يطلقها مع آخر الطهر ثم تحيض بعده يوما وليلة ثم تطهر ثلاثة عشر يوما ثم تحيض يوما وليلة ثم تطهر ثلاثة عشر يوما ثم تحيض يوما وليلة ثم تطهر لحظة ليعرف بها انقطاع الحيض وإن لم تكن هذه اللحظة من عدتها فلا بد منها لمعرفة انقطاع حيضها ولو صادفتها رجعته لم تصح ومن اعتبر الغسل في قضاء العدة فلا بد من وقت يمكن الغسل فيه بعد انقطاع الحيض وإن قلنا القرء الحيض والطهر خمسة عشر يوما فأقل ما تنقضي به العدة ثلاثة وثلاثون يوما ولحظة تزيد أربعة أيام في الطهرين وإن قلنا القروء الأطهار وأقل الطهر ثلاثة عشر يوما فإن عدتها تنقضي بثمانية وعشرين يوما ولحظتين وهو أن يطلقها في آخر لحظة من طهرها فتحتسب بها قرءا ثم تحتسب طهرين آخرين ستة وعشرين يوما وبينهما حيضتين يومين فإذا طعنت في الحيضة الثالثة لحظة انقضت عدتها وإن قلنا الطهر خمسة عشر يوما زدنا على هذا أربعة أيام في الطهرين فيكون اثنين وثلاثين يوما ولحظتين وهذا قول الشافعي فإن كانت أمة انقضت عدتها بخمسة عشر يوما ولحظة على الوجه الأول وتسعة عشر يوما ولحظة على الوجه الثاني وبأربعة عشر يوما ولحظتين على الوجه الثالث وستة عشر يوما ولحظتين على الوجه الرابع فمتى ادعت انقضاء عدتها بالقروء في أقل من هذا لم يقبل قولها عند أحد فيما أعلم لأنه لا يحتمل صدقها .
وإن ادعت انقضاء عدتها في أقل من شهر لم يقبل قولها إلا ببينة لأن شريحا قال : إذا ادعت انها حاضت ثلاث حيض في شهر وجاءت ببينة من النساء العدول من بطانة أهلها ممن يرضى صدقه وعدله انها رأت ما يحرم عليها الصلاة من الطمث وتغتسل عند كل قرء وتصلي فقد انقضت عدتها وإلا فهي كاذبة وقال له علي بن أبي طالب : قالون ومعناه بالرومية أصبت أو أحسنت فأخذ أحمد بقول علي في الشهر فإن ادعت ذلك في أكثر من شهر صدقها على حديث [ إن المرأة أؤتمنت على فرجها ] ولأن حيضها في الشهر ثلاث حيض يندر جدا فرجح ببينة ولا يندر فيما زاد على الشهر كندرته فيه فقبل قولها من غير بينة وقال الشافعي : لا يقبل قولها في أقل من اثنين وثلاثين يوما ولحظتين ولا يقبل في أقل من ذلك بحال لأنه لا يتصور عنده أقل من ذلك .
وقال النعمان : لا تصدق في أقل من ستين يوما وقال صاحباه : لا تصدق في أقل من تسعة وثلاثين يوما لأن أقل الحيض عندهم ثلاثة أيام فثلاث حيض تسعة أيام وطهران ثلاثون يوما والخلاف في هذا ينبني على الخلاف في أقل الحيض وأقل الطهر وفي القروء ما هي وقد سبق .
ومما يدل عليه في الجملة قبول علي وشريح بينتها على انقضاء عدتها في شهر ولولا تصوره لما قبلت عليه بينة ولا سمعت فيه دعوى ولا يتصور إلا بما قلناه فأما إن ادعت انقضاء العدة في أقل من ذلك لم تسمع دعواها ولا يصغى إلى بينتها لأننا نعلم كذبها فإن بقيت على دعواها حتى أتى عليها ما يمكن صدقها فيه نظرنا فإن بقيت على دعواها المردودة لم يسمع قولها لأنها تدعي محالا وإن ادعت انها انقضت عدتها في هذه المدة كلها أو في ما يمكن منها قبل قولها لأنه أمكن صدقها ولا فرق في ذلك بين الفاسقة والمرضية والمسلمة والكافرة لأن ما يقبل فيه قول الإنسان على نفسه لا يختلف باختلاف حاله كإخباره عن بينة فيما تعتبر فيه بينة .
القسم الثاني : أن تدعي انقضاء عدتها بوضع الحمل فلا يخلو إما أن تدعي وضع الحمل التام أو انها أسقطته قبل كماله فإن ادعت وضعه لتمام فلا يقبل قولها في أقل من ستة أشهر من حين إمكان الوطء بعد العقد لأنه لا يكمل في أقل من ذلك وإن ادعت أنها أسقطته لم يقبل قولها في أقل من ثمانين يوما من حين إمكان الوطء بعد عقد النكاح لأن أقل سقط تنقضي به العدة ما أتى عليه ثمانون يوما لأنه يكون نطفة أربعين يوما ثم يكون علقة أربعين يوما ثم يصير مضغة بعد الثمانين ولا تنقضي به العدة قبل أن يصير مضغة بحال وهذا ظاهر قول الشافعي .
القسم الثالث : أن تدعي انقضاء عدتها بالشهور فلا يقبل قولها فيه لأن الخلاف في ذلك ينبني على الاختلاف في وقت الطلاق والقول قول الزوج فيه فيكون القول قوله فيما ينبني عليه إلا أن يدعي الزوج انقضاء عدتها ليسقط عن نفسه نفقتها مثل أن يقول طلقتك في شوال فتقول هي بل في ذي الحجة فالقول قولها لأنه يدعي ما يسقط النفقة والأصل وجوبها فلا يقبل إلا ببينة ولو ادعت ذلك ولم يكن لها نفقة قبل قولها لأنها تقر على نفسها بما هو أغلظ .
ولو انعكست الدعوى فقال طلقتك في ذي الحجة فلي رجعتك فقالت بل طلقتني في شوال فلا رجعة لك فالقول قوله لأن الأصل بقاء نكاحه ولأن القول قوله في إثبات الطلاق ونفيه فكذلك في وقته إذا ثبت هذا فكل موضع قلنا القول قولها فأنكرها الزوج فقال الخرقي : عليها اليمين وهو قول الشافعي و أبو يوسف و محمد وقد أومأ إليه أحمد في رواية أبي طالب .
وقال القاضي : قياس المذهب أن لا يجب عليها يمين وقد أومأ إليه أحمد فقال : لا يمين في نكاح ولا طلاق وهو قول أبي حنيفة لأن الرجعة لا يصح بذلها فلا يستحلف فيها كالحدود والأول أولى لقول رسول الله : [ اليمين على المدعى عليه ] ولأنه حق آدمي يمكن صدق مدعيه فيجب اليمين فيه كالأموال فإن نكلت عن اليمين فقال القاضي : لا يقضى بالنكول لأنه مما لا يصح بذله ويحتمل أن يستحلف الزوج وله رجعتها بناء على القول برد اليمين على المدعي وذلك لأنه لما وجد النكول منها ظهر صدق الزوج وقوي جانبه واليمين تشرع في حق من قوي جانبه ولذلك شرعت في حق المدعى عليه لقوة جانبه باليد في العين وبالأصل في براءة الذمة في الدين وهذا مذهب الشافعي .
فصل : وإذا ادعى الزوج في عدتها كان راجعها أمس أو منذ شهر قبل قوله لأنه لما ملك الرجعة ملك الإقرار بها كالطلاق وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وغيرهم وإن قال بعد انقضاء عدتها : كنت راجعتك في عدتك فأنكرته فالقول قولها بإجماعهم لأنه ادعاها في زمن لا يملكها والأصل عدمها وحصول البينونة فإن كان اختلافهما في زمن يمكن فيه انقضاء عدتها وبقاؤها فبدأت فقالت انقضت عدتي فقال قد كنت راجعتك فأنكرته لم يقبل قوله لأن خبرها بانقضاء عدتها مقبول لإمكانه فصارت دعواه للرجعة بعد الحكم بانقضاء عدتها فلم تقبل فإن سبقها بالدعوى فقال قد كنت راجعتك أمس فقالت قد انقضت عدتي قبل دعواك فالقول قوله لأن دعواه للرجعة قبل الحكم بانقضاء عدتها في زمن الظاهر قبول قوله فيه فلا يقبل قولها بعد ذلك في إبطاله ولو سبق فقال قد راجعتك فقالت قد انقضت عدتي قبل رجعتك فأنكرها فقال القاضي : القول قوله لما ذكرنا وهذا أحد الوجوه لأصحاب الشافعي وظاهر كلام الخرقي أن قولها مقبول سواء سبقها بالدعوى أو سبقته وهو وجه ثان لأصحاب الشافعي لأن الظاهر البينونة والأصل عدم الرجعة فكان الظاهر معها ولأن من قبل قوله سابقا قبل قوله مسبوقا كسائر من يقبل قوله ولهم وجه ثالث أن القول قول الزوج بكل حال لأن المرأة تدعي ما يرفع النكاح وهو ينكره فكان القول قوله كما لو ادعى المولي والعنين إصابة امرأته فأنكرته وهذا لا يصح فإنه قد انعقد سبب البينونة وهو مفض إليها ما لم يوجد ما يرفعه ويزيل حكمه والأصل عدمه فكان القول قول من ينكره بخلاف ما قاسوا عليه وإن وقع القول منهما جميعا فلا رجعة لأن خبرها بانقضاء عدتها يكون بعدها فيكون قوله بعد العدة فلا يقبل قال أبو الخطاب : ويحتمل أن يقرع بينهما فيكون القول قول من تقع له القرعة والصحيح الأول