مسألة وفصلان : بيان الحروف المستعملة للشروط وتعليق الطلاق بها وأحكامها .
مسألة : قال : وإن قال : كلما لم أطلقك فأنت طالق وقع بها الثلاث في الحال إذا كان مدخولا بها .
إنما كان كذلك لأن كلما تقتضي التكرار قال الله تعالى : { كلما جاء أمة رسولها كذبوه } وقال : { كلما دخلت أمة لعنت أختها } فيقتضي تكرار الطلاق تكرار الصفة والصفة عدم تطليقه لها فإذا مضى بعد يمينه زمن يمكن أن يطلقها فيه فلم يطلقها فقد وجدت الصفة فيقع طلقة وتتبعها الثانية والثالثة إن كانت مدخولا بها وإن لم تكن مدخولا بها بانت بالأولى ولم يلزمها ما بعدها لأن البائن لا يلحقها طلاق فأما إذا قال : إن لم أطلقك فأنت طالق أو متى لم أطلقك أو أي وقت لم أطلقك فأنت طالق فإنها تطلق واحدة ولا يتكرر إلا على قول أبي بكر في متى فإنه يراها للتكرار فيتكرر الطلاق بها مثل كلما إلا أن متى وأي وقت يقتضيان الطلاق على الفور فمتى مضى زمن يمكن أن يطلقها فيه ولم يطلقها في الحال وأما إذا ففيها وجهان أحدهما : هي على الفور لأنها اسم وقت فهي كمتى والثاني : أنها على التراخي لأنها كثر استعمالها في الشرط فهي كإن فعلى هذا إذا قال : إذا لم أطلقك فأنت طالق ولم ينو وقتا لم تطلق إلا في آخر جزء من حياة أحدهما وإن قال : متى لم أحلف بطلاقك فأنت طالق أو أي وقت لم أحلف بطلاقكما فأنت طالق وكرره ثلاثا متواليات طلقت مرة واحدة لأنه لم يحنث في المرة الأولى ولا الثانية لكونه حلف عقيبهما وحنث في الثالثة وإن سكت بين كل يمينين سكوتا يمكنه الحلف فيه طلقت ثلاثا وإن قال ذلك بلفظة إذا وقلنا هي على الفور فهي كمتى وإلا فلم تطلق إلا واحدة في آخر حياة أحدهما .
فصل : والحروف المستعملة للشرط وتعليق الطلاق بها سنة : إن وإذا ومتى ومن وأي وكلما فمتى علق الطلاق بإيجاد فعل بواحد منها كان على التراخي مثل قوله إن خرجت وإذا خرجت ومتى خرجت وأي حين وأي زمان وأي وقت خرجت وكلما خرجت ومن خرجت منكن وأيتكن خرجت فهي طالق فمتى وجد الخروج طلقت وإن مات أحدهما سقطت اليمين فأما إن علق الطلاق بالنفي بواحد من هذه الحروف كانت إن على التراخي ومتى وأي ومن وكلما على الفور لأن قوله متى دخلت فأنت طالق يقتضي أي زمان دخلت فأنت طالق وذلك شائع في الزمان كله فأي زمن دخلت وجدت الصفة وإذا قال متى لم تدخلي فأنت طالق فإذا مضى عقيب اليمين زمن لم يدخل فيه وجدت الصفة فإنها اسم لوقت الفعل فيقدر به ولهذا يصح السؤال به فيقال : متى دخلت أي أي وقت دخلت وأما إن فلا تقتضي وقتا فقوله إن لم تدخلي لا يقتضي وقتا إلا ضرورة أن الفعل لا يقع إلا في وقت فهي مطلقة في الزمان كله وأما إذا ففيها وجهان أحدهما : هي على التراخي وهو قول أبي حنيفة ونصره القاضي لأنها تستعمل شرطا بمعنى إن قال الشاعر : .
( استغن ما أغناك ربك بالغنى ... وإذا تصبك خصاصة فتجمل ) .
فجزم بها ما يجزم بأن ولأنها تستعمل بمعنى متى وإذا احتملت الأمرين فاليقين بقاء النكاح فلا يزول بالإحتمال والوجه الآخر أنها على الفور وهو قول أبي يوسف و محمد وهو المنصوص عن الشافعي لأنها اسم لزمن مستقبل فتكون كمتى وأما المجازاة بها فلا تخرجها عن موضوعها فإن متى يجازى بها ألا ترى إلى قول الشاعر : .
( متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد ) .
ومن يجازى بها أيضا وكذلك أي وسائر الحروف وليس في هذه الحروف ما يقتضي التكرار إلا كلما وذكر أبو بكر في متى أنها تقتضي التكرار لأنها تستعمل للتكرار بدليل قوله : .
( متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد ) .
أي في كل وقت ولأنها تستعمل في الشرط والجزاء ومتى وجد الشرط يرتب عليه جزاؤه والصحيح أنها لا تقتضيه لأنها اسم زمن بمعنى أي وقت وبمعنى إذا فلا تقتضي ما لا يقتضيانه وكونها تستعمل للتكرار في بعض أحيانها لا يمنع استعمالها في غيره مثل إذا وأي وقت فإنهما يستعملان في الأمرين قال الله تعالى : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم } { وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم } { وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها } وقال الشاعر : .
( قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ... ساروا إليه زرافات ووحدانا ) .
وكذلك أي وقت وأي زمان فإنهما يستعملان للتكرار وسائر الحروف يجازى بها إلا أنها لما كانت تستعمل للتكرار وغيره لا تحمل على التكرار إلا بدليل كذلك متى .
فصل : وهذه الحروف إذا تقدم جزاؤها عليها لم تحتج إلى حرف في الجزاء كقوله أنت طالق إن دخلت الدار وإن تأخر جزاؤها احتاجت في الجزاء إلى حرف الفاء إذا كان جملة من مبتدأ وخبر كقوله إن دخلت النار فأنت طالق وإنما اختصت بالفاء لأنها للتعقيب فتربط بين الجزاء وشرطه وتدل على تعقيبه به فإن قال إن دخلت الدار فأنت طالق لم تطلق حتى تدخل وبه قال بعض الشافعية وقال محمد بن الحسن تطلق في الحال لأنه لم يعلقه بدخول الدار لأنه إنما يتعلق بالفاء وهذه لا فاء فيها فيكون كلاما مستأنفا غير معلق بشرط فيثبت حكمه في الحال .
ولنا أنه أتى بحرف الشرط فيدل ذلك على أنه أراد التعليق به وإنما حذف الفاء وهي مرادة كما يحذف المبتدأ تارة ويحذف الخبر أخرى لدلالة باقي الكلام على المحذوف ويجوز أن يكون حذف الفاء على التقديم والتأخير فكأنه أراد أنت طالق إن دخلت الدار فقدم الشرط ومراده التأخير ومهما أمكن حمل الكلام العاقل على فائدة وتصحيحه عن الفساد وجب وفيما ذكرنا تصحيحه وفيما ذكروه إلغاؤه وإن قال أردت الإيقاع في الحال وقع لأنه يقر على نفسه بما هو أغلظ وإن قال : أنت طالق وإن دخلت الدار وقع الطلاق في الحال لأن معناه أنت طالق في كل حال ولا يمنع من ذلك دخولك الدار كقول النبي A [ من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق ] وقال : [ صلهم وإن قطعوك وأعطهم وإن حرموك ] وإن قال : أردت الشرط دين وهل يقبل في الحكم ؟ يخرج على روايتين فإذا قال : إن دخلت الدار فأنت طالق الأخرى فمتى دخلت الأولى طلقت سواء دخلت الأخرى أو لم تدخل ولا تطلق بدخول الأخرى .
وقال ابن الصباغ : تطلق بدخول كل واحدة منهما وقد ذكرنا أن مقتضى اللغة ما قلناه وإن قال : أردت جعل الثاني شرطا لطلاقها أيضا طلقت بكل منهما لأنه يقر على نفسه بما هو أغلظ وإن قال : أردت أن دخول الثانية شرط لطلاق الثانية فهو ما أراده وإن قال : أنت طالق إن دخلت الدار وإن دخلت الأخرى طلقت بدخول إحداهما لأنه عطف شرطا على شرط فإن قال : أردت أن دخول الثانية يمنع وقوع الطلاق قبل منه لأنه محتمل وطلقت بدخول الأولى وحدها وإن قال : إن دخلت الدار هذه الأخرى فأنت طالق فقد قيل لا تطلق إلا بدخولهما لأنه جعل طلاقها جزاء لهذين الشرطين ويحتمل أن تطلق بأحدهما أيهما كان لأنه ذكر شرطين بحرفين فيقتضي كل واحد منهما جزاء فترك جزاء الأول وكان الجزاء الآخر دالا عليه كما لو قال ضربت وضربني زيد .
قال الفرزدق : .
( ولكن نصفا لو سببت وسبني ... بنو عبد شمس من قريش وهاشم ) .
والتقدير سبني هؤلاء وسببتهم وقال الله تعالى : { عن اليمين وعن الشمال قعيد } أي عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد وإن قال : إن دخلت الدار وأنت طالق طلقت لأن الواو ليست للجزاء وقد تكون للابتدار فإن قال : أردت بها الجزاء أو قال : أردت أن أجعل دخولها في حال كونها طالقا شرطا لشيء ثم أمسكت دين وهل يقبل في الحكم ؟ يخرج على روايتين وإن جعل لهذا جزاء فقال إن دخلت الدار وأنت طالق فعبدي حر صح ولم يعتق العبد حتى تدخل الدار وهي طالق لأن الواو ههنا للحال كقول الله تعالى : { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } - وقوله - { فقد رأيتموه وأنتم تنظرون } ولو قال : أنت طالق إن دخلت الدار طالقا فدخلت وهي طالق طلقت أخرى وإن دخلتها غير طالق لم تطلق لأن هذا حال فجرى مجرى قوله أنت طالق إن دخلت الدار راكبة وإن قال : أنت طالق لو قمت كان ذلك شرطا بمنزلة قوله إن قمت وهذا يحكى عن أبي يوسف ولأنها لو لم تكن للشرط كانت لغوا والأصل اعتبار كلام المكلف وقيل يقع الطلاق في الحال وهذا قول بعض أصحاب الشافعي لأنها بعد الإثبات تستعمل لغير المنع كقوله تعالى : { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } { ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون } وإن قال : أردت أن أجعل لها جوابا دين وهل يقبل في الحكم ؟ يخرج على روايتين .
فصل : فإن قال : إن أكلت ولبست فأنت طالق لم تطلق إلا بوجودهما جميعا سواء تقدم الأكل أو تأخر لأن الواو للعطف ولا تقتضي ترتيبا وإن قال : إن أكلت أو لبست فأنت طالق طلقت بوجود أحدهما لأن أو لأحد الشيئين وكذلك إن قال : إن أكلت أو إن لبست أو لا أكلت ولا لبست وإن قال : أنت طالق لا أكلت ولبست لم تطلق إلا بفعلهما إلا على الرواية التي تقول يحنث بفعل بعض المحلوف عليه فإنه يحنث بأحدهما ههنا وإن قال : أنت طالق إن أكلت فلبست أو إن أكلت ثم لبست لم تطلق حتى تأكل ثم تلبس لأن الفاء وثم للترتيب وإن قال : أنت طالق إن أكلت إذا لبست أو إن أكلت متى لبست أو إن أكلت إن لبست لم تطلق حتى تلبس ثم تأكل لأن اللفظ اقتضى تعليق الطلاق بالأكل بعد اللبس ويسميه النحويون اعتراض الشرط على الشرط فيقتضي تقديم المتأخر وتأخير المتقدم لأنه جعل الثاني في اللفظ شرطا للذي قبله والشرط يتقدم المشروط قال الله تعالى : { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم } فلو قال : لامرأته : إن أعطيتك وإن وعدتك إن سألتني فأنت طالق لم تطلق حتى تسأله ثم يعدها ثم يعطيها لأنه شرط في العطية الوعد وفي الوعد السؤال فكأنه قال إن سألتني فوعدتك فأعطيتك فأنت طالق وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقال القاضي : إذا كان الشرط بإذا كقولنا وفيما إذا كان بإن مثل قوله إن شربت إن أكلت إنها تطلق بوجودهما كيفما وجدا لأن أهل العرف لا يعرفون ما يقوله أهل العربية في هذا فتعلقت اليمين بما يعرفه أهل العرف بخلاف ما إذا كان الشرط بإذا والصحيح الأول وليس لأهل العرف في هذا عرف فإن هذا الكلام غير متداول بينهم ولا ينطقون به إلا نادرا فيجب الرجوع فيه إلى مقتضاه عند أهل الشأن كسائر مسائل هذا الفصل