مسألتان وفصول : الإكراه على الطلاق وشروطه وبيان ما يحصل به الإكراه .
مسألة : قال : ومن أكره على الطلاق لم يلزمه .
لا تختلف الرواية عن أحمد أن طلاق المكره لا يقع وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وابن الزبير وجابر بن سمرة وبه قال عبد الله بن عبيد بن عمير و عكرمة و الحسن و جابر بن زيد و شريح و عطاء و طاوس و عمر بن عبد العزيز و ابن عون و أيوب السختياني و مالك و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و أبو عبيد وأجازه أبو قلابة و الشعبي و النخعي و الزهري و الثوري و أبو حنيفة وصاحباه لأنه طلاق من مكلف في محل يملكه فينفذ كطلاق غير المكره .
ولنا قول النبي A [ إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] رواه ابن ماجة وعن عائشة Bها قالت : سمعت رسول الله A يقول [ لا طلاق في إغلاق ] رواه أبو داود و الأثرم قال أبو عبيد والقتيبي معناه في إكراه وقال أبو بكر سألت ابن دريد وأبا طاهر النحويين فقالا يريد الإكراه لأنه إذا أكره انغلق عليه رأيه ويدخل في هذا المعنى المبرسم والمجنون ولا نه قول من سمينا من الصحابة ولا مخالف لهم في عصره فيكون إجماعا ولأنه قول حمل عليه بغير حق فلم يثبت له حكم ككلمة الكفر إذا أكره عليها .
فصل : وإن كان الإكراه بحق نحو إكراه الحاكم المولي على الطلاق بعد التربص إذا لم يفيء وإكراهه الرجلين اللذين زوجهما وليان ولا يعلم السابق منهما على الطلاق وقع الطلاق لأنه قول حمل عليه بحق فصح كإسلام المرتد إذا أكره عليه ولأنه إنما جاز إكراهه على الطلاق ليقع طلاقه فلو لم يقع لم يحصل المقصود .
مسألة : قال : ولا يكون مكرها حتى ينال بشيء من العذاب مثل الضرب أو الخنق أو عصر الساق وما أشبهه ولا يكون التواعد كرها .
أما إذا نيل بشيء من العذاب والخنق والعصر والحبس والغط في الماء مع الوعيد فإنه يكون إكراها بلا أشكال لما [ روي أن المشركين أخذوا عمارا فأرادوه على الشرك فأعطاهم فانتهى إليه النبي A وهو يبكي فجعل يمسح الدموع عن عينيه ويقول أخذك المشركون فغطوك في الماء وأمروك أن تشرك بالله ففعلت فإن أخذوك مرة أخرى فافعل ذلك بهم ] رواه أبو حفص بإسناده وقال عمر Bه : ليس الرجل أمينا على نفسه إذا أجعته أو ضربته أو ثقته وهذا يقتضي وجود فعل يكون به إكراها فأما الوعيد بمفرده فعن أحمد فيه روايتان إحداهما : ليس بإكراه لأن الذي ورد الشرع بالرخصة معه هو ما ورد في حديث عمار وفيه [ إنهم أخذوك فغطوك في الماء ] فلا يثبت الحكم إلا فيما كان مثله .
والرواية الثانية : أن الوعيد بمفرده إكراه قال في رواية ابن منصور : حد الإكراه إذا خاف القتل أو ضربا شديدا وهذا قول أكثر الفقهاء وبه يقول أبو حنيفة و الشافعي لأن الإكراه لا يكون إلا بالوعيد فإن الماضي من العقوبة لا يندفع بفعل ما أكره عليه ولا يخشى من وقوعه وإنما أبيح له فعل المكره عليه دفعا لما يتوعد به من العقوبة فيما بعد وهو في الموضعين واحد ولأنه متى بوعده بالقتل وعلم أنه يقتله فلم يبح له الفعل أفضى إلى قتله وإلقائه بيده إلى التهلكة ولا يفيد ثبوت الرخصة بالإكراه شيئا لأنه إذا طلق في هذه الحال وقع الطلاق فيصل المكره إلى مراده ويقع الضرر بالمكره وثبوت الإكراه في حق من نيل بشيء من العذاب لا ينفي ثبوته في حق غيره وقد روي عن عمر Bه في الذي تدلى يشتار عسلا فوقفت امرأته على الحبل وقالت : طلقني ثلاثا وإلا قطعته فذكرها الله والإسلام فقالت : لتفعلن أو لأفعلن فطلقها ثلاثا فرده إليها رواه سعيد بإسناده وهذا كان وعيدا .
فصل : ومن شرط الإكراه ثلاثة أمور أحدها : أن يكون من قادر بسلطان أو تغلب كاللص ونحوه وحكي عن الشعبي إن أكرهه اللص لم يقع طلاقه وإن أكرهه السلطان وقع قال ابن عيينة : لأن اللص يقتله وعموم ما ذكرناه في دليل الإكراه يتناول الجميع والذين أكرهوا عمارا لم يكونوا لصوصا وقد [ قال النبي A لعمار إن عادوا فعد ] ولأنه إكراه فمنع وقوع الطلاق كإكراه اللصوص .
الثاني : أن يغلب على ظنه نزول الوعيد به إن لم يجبه إلى ما طلبه .
الثالث : أن يكون مما يستضر به ضررا كالقتل والضرب والشديد والقيد والحبس الطويلين فأما الشتم والسب فليس بإكراه رواية واحدة وكذلك أخذ المال اليسير فأما الضرر اليسير فإن كان في حق من لا يبالي به فليس بإكراه وإن كان من ذوي المروءات على وجه يكون إخراقا بصاحبه وغضا له وشهرة في حقه فهو كالضرب الكثير في حق غيره وإن توعد تعذيب ولده فقد قيل ليس بإكراه لأن الضرر لاحق بغيره والأولى أن يكون إكراها لأن ذلك عنده أعظم من أخذ ماله والوعيد بذلك إكراه فكذلك هذا .
فصل : وإن أكره على طلاق امرأة فطلق غيرها وقع لأنه غير مكره عليه وإن أكره على طلقة فطلق ثلاثا وقع أيضا لأنه لم يكره على الثلاث وإن طلق من أكره على طلاقها وغيرها وقع طلاق غيرها دونها وإن خلصت نيته في الطلاق دون دفع الإكراه وقع لأنه قصده واختاره ويحتمل أن لا يقع لأن اللفظ مرفوع عنه فلا يبقى إلا مجرد النية فلا يقع بها طلاق وإن طلق ونوى بقلبه غير امرأته أو تأول في يمينه فله تأويله ويقبل قوله في نيته لأن الإكراه دليل له على تأويله وإن لم يتأول وقصدها بالطلاق لم يقع لأنه معذور وذكر أصحاب الشافعي وجها أنه يقع لأنه لا مكره له على نيته .
ولنا أنه مكره عليه فلم يقع ما ذكرنا من الأدلة ولأنه قد لا يحضره التأويل في تلك الحال فتفوت الرخصة