فصل المذاهب في استحباب النكاح وفي تركه .
فصل : والناس في النكاح على ثلاثة أضرب : منهم من يخاف على نفسه الوقوع في المحظور أن ترك النكاح فهذا يجب عليه النكاح في قول عامة الفقهاء لأنه يلزمه إعفاف نفسه وصونها عن الحرام وطريقة النكاح الثاني : من يستحب له وهو له شهرة يأمن معها الوقوع في المحظور فهذا الاشتغال به أولى من التخلي لنوافل العبادة وهو قول أصحاب الرأي وهو ظاهر قول الصحابة Bهم وفعلهم قال ابن مسعود لو لم يبق من أجلي إلا عشرة أيام وأعلم أني أموت في آخرها يوما ولي طول النكاح فيهن لتزوجت مخافة الفتنة .
وقال ابن عباس لسعيد بن جبير : تزوج فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء وقال إبراهيم بن ميسرة قال لي طاوس لتنكحن أو لأقولن لك ما قال عمر لأبي الزوائد ما يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور قال أحمد في رواية المروذي ليست العزبة من أمر الإسلام في شيء وقال من دعاك إلى غير التزويج فقد دعاك إلى غير الإسلام ولو تزوج بشر كان قد ثم أمره .
وقال الشافعي التخلي لعبادة الله أفضل لأن الله تعالى مدح يحيى عليه السلام بقوله : { وسيدا وحصورا } والحصور الذي لا يأتي النساء فلو كان النكاح أفضل لما مدح بتركه وقال تعالى : { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين } وهذا في معرض الذم ولأنه عقد معاوضة فكان الاشتغال بالعبادة أفضل منه كالبيع .
ولنا ما تقدم من أمر الله تعالى به ورسوله وحثهما عليه و [ قال A : ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ] و [ قال سعد لقد رد النبي A على عثمان بن مظعون التبتل ولو أحله له لاختصينا ] متفق عليهما وعن أنس قال [ كان النبي A يأمرنا بالباءة وينهى عن التبتل نهيا شديدا ويقول : تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ] رواه سعيد وهذا حث على النكاح شديد ووعيد على تركة يقربه إلى الوجوب والتخلي منه إلى التحريم ولو كان التخلي أفضل لانعكس الأمر ولأن النبي A تزوج وبالغ في العدد وفعل ذلك أصحابه ولا يشتغل النبي A وأصحابه إلا بالأفضل ولا تجتمع الصحابة على ترك الأفضل والاشتغال بالأدنى ومن العجب أن من يفضل التخلي لم يفعله فكيف اجتمعوا على النكاح في فعله وخالفوه في فضله فما كان فيهم من يتبع الأفضل عنده ويعمل بالأدنى ولأن مصالح النكاح أكثر فإنه يشتمل على تحصين الدين وإحرازه وتحصين المرأة وحفظها والقيام بها وإيجاد النسل وتكثير الأمة وتحقيق مباهاة النبي A وغير ذلك من المصالح الراجح أحدها على نفل العبادة بمجموعها أولى .
وقد روينا في أخبار المتقدمين أن قوما ذكروا لنبي لهم فضل عابد لهم فقال أما أنه لتارك لشيء من السنة فبلغ العابد فأتى النبي فسأله عن ذلك فقال أنك تركت التزويج فقال با نبي الله وما هو إلا هذا فلما رأى النبي احتقاره لذلك قال أرأيت لو ترك الناس كلهم التزويج من كان يقوم بالجهاد وينفي العدو ويقوم بفرائض الله وحدوده ؟ وأما ما ذكر عن يحيى فهو شرعه وشرعنه وارد بخلافه فهو أولى والبيع لا يشتمل على مصالح النكاح ولا يقاربها .
القسم الثالث : من لا شهوة له إما لأنه لم يخلق له شهوة كالعنين أو كانت له شهوة فذهبت بكبر أو مرض ونحوه ففيه وجهان أحدهما : يستحب له النكاح لعموم ما ذكرنا والثاني : التخلي له أفضل لأنه لا يحصل مصالح النكاح ويمنع زوجته من التحصين بغيره ويضر بها بحبسها على نفسه ويعرض نفسه لواجبات وحقوق لعله لا يتمكن من القيام بها ويشتغل عن العلم والعبادة بما لا فائدة فيه والأخبار تحمل على من له شهوة لما فيها من القرائن الدالة عليها وظاهر كلام أحمد أنه لا فرق بين القادر على الانفاق والعاجز عنه وقال ينبغي للرجل أن يتزوج فإن كان عنده ما ينفق أنفق وإن لم يكن عنده صبر ولو تزوج بشر كان قد تم أمره واحتج بأن النبي A كان يصبح وما عنده شيء ويمسي وما عنده شيء وإن النبي A زوج رجلا لم يقدر إلا على خاتم حديد ولا وجد إلا إزاره ولم يكن له رداء أخرجه البخاري قال أحمد في رجل قليل الكسب يضعف قلبه عن العيال : الله يرزقهم التزويج أحصن له ربما أتى عليه وقت لا يملك قلبه فيه وهذا في حق من يمكنه التزويج فأما من لا يمكنه فقد قال الله تعالى : { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله }