فصول : الوصية بالحج وغيره من الواجبات .
مسألة : قال : وإذا وصى أن يحج عنه بخمسمائة فما فضل رد في الحج .
وجملته أنه إذا أوصى أن يحج عنه بقدر من المال وجب صرف جميع ذلك في الحج إذا حمله الثلث لأنه وصى بجميعه في جهة قربة فوجب صرفه فيها كما لو وصى به في سبيل الله وليس للولي أن يصرف إلى من يحج أكثر من نفقة المثل لأنه أطلق له التصرف في المعاوضة فاقتضى ذلك عوض المثل كالوكيل في البيع ثم لا يخلو إما أن يكون بقدر نفقة المثل لحجة واحدة فيصرف فيها أو ناقصا عنها فيحج به من حيث يبلغ في ظاهر منصوص أحمد فإنه قال في رواية حنبل في رجل أوصى أن يحج عنه ولا تبلغ النفقة فقال يحج عنه من حيث تبلغ النفقة للراكب من أهل مدينته وهذا قول العنبري .
وقال القاضي يعان به في الحج وهو قول سوار القاضي حكاه عنه العنبري وعن أحمد أنه مخير في ذلك قال في رواية أبي داود في امرأة أوصت بحج لا يجب عليها أرى أن يؤخذ ثلث مالها فيعان به في الحج أو يحج من حيث يبلغ الحال الثالث : أن يفضل عن الحجة فيدفع في حجة ثانية ثم في ثالثة إلى أن ينفد أو يبقى ما لا يبلغ حجة فيحج عنه من حيث يبلغ على ما ذكرنا من الخلاف فيه ولا يستنيب في الحج مع الإمكان إلا من بلد المحجوج عنه لأنه نائب عن الميت وقائم مقامه فينوب عنه من موضع لو حج المنوب عنه لحج منه فإن كان الموصى به لا يحمله الثلث لم يخل من أن يكون الحج فرضا أو تطوعا فإن كان فرضا أخذ أكثر الأمرين من الثلث أو القدر الكافي لحج الفرض فإن كان الثلث أكثر أخذ ثم يصرف منه في الفرض قدر ما يكفيه ثم يحج بالباقي تطوعا حتى ينفذ كما ذكرنا من قبل وإن كان الثلث أقل تمم قدر ما يكفي الحج من رأس المال وبهذا قال عطاء و طاوي و الحسن وسعيد بن المسيب و الزهري و الشافعي و إسحاق قال سعيد بن المسيب و الحسن كل واجب من رأس المال وقال ابن سيرين و النخعي و الشعبي و حماد بن أبي سليمان و الثوري و أبو حنيفة و داود بن أبي هند : إن وصى بالحج فمن ثلثه وإلا فليس على ورثته شيء فعلى قولهم إن لم يفت الثلث بالموصى به وإلا لم يزد على الثلث لأن الحج عبادة فلا تلزم الوارث كالصلاة .
ولنا قول النبي A : [ لو كان على أبيك دين أكنت تقضيه ؟ قال : نعم قال : فدين الله أحق أن يقضى ] والدين من رأس المال فما هو أحق منه أولى ولأنه واجب فكان من رأس المال كدين الآدمي وإن كان تطوعا أخذ الثلث لا غير إذا لم يجز الورثة ويحج به على ما ذكرنا فيما مضى .
فصل : وإذا أوصى بحج واجب أو غيره من الواجبات كقضاء دين وزكاة وإخراج كفارة لم يخل من أربعة أحوال : أحدها : أن يوصي بذلك من صلب ماله فهذا تأكيد لما وجب بالشرع ويحج عنه من بلده وإن لم يف ماله بذلك أخذ ماله كله يدفع في الواجب كما لو لم يوص الثاني : أن يوصي بأداء الواجب من ثلث ماله فيصح أيضا فإن لم تكن له وصية غير هذه لم تفد شيئا ويؤدي من المال كله كما لو لم يوص وإن كان قد أوصى بتبرع لجهة أخرى قدم الواجب وإن فضل من الثلث شيء فهو للتبرع وإن لم يفضل شيء سقطت وإن لم يف الثلث بالواجب أتم من رأس المال هكذا ذكر القاضي وقال أبو الخطاب يزاحم بالواجب أصحاب الوصايا فيحتمل أنه أراد مثل ما ذكر القاضي ويحتمل أنه أراد أن الثلث يقسم بين الوصايا كلها الواجب والتبرع بالحصص فما حصل للواجب أتم من رأس المال فيدخله الدور وتعمل بالجبر فتقول في رجل أوصى بحجة واجبة كفايتها عشرة من ثلثه ووصى بصدقة تطوع عشرة ومات فلم يخلف إلا ثلاثين فاعزل تتمة الواجب من المال وهي شيء مجهول وخذ ثلث الباقي عشرة إلا ثلث شيء واقسمه بين الوصيين لكل واحد خمسة إلا سدس شيء اضمم الشيء الذي عزلته إلى ما حصل للحجة فصار شيئا وخمسة إلا سدس شيء يعدل عشرة وخذ من الشيء سدسه فاجبر به بعض الخمسة يبقى خمسة أسداس شيء يعدل عشرة وخذ من الشيء سدسه فأجبر به بعض الخمسة يبقى خمسة أسداس شيء يعدل خمسة فالشيء إذا ستة ومتى أخذت ستة من ثلاثين بقي أربعة وعشرون ثلثها ثمانية لصاحب الصدقة نصفها أربعة وللواجب أربعة مع الستة صار الجميع عشرة فإن كان عليه أيضا دين خمسة عزلت تتمة الحج شيئا وتتمة الدين نصف شيء بقي ثلث المال عشرة إلا نصف شيء واقسمه بين الوصايا فيحصل للحج أربعة إلا خمس شيء اضمم إليها تتمة يصير شيئا وأربعة إلا خمس شيء يعدل عشرة وبعد الجبر يصير أربعة أخماس شيء تعدل ستة فرد على الستة ربعها تصبر سبعة ونصفا يعدل شيئا فالشيء سبعة ونصف ونصف الشيء ثلاثة ونصف وربع وبقية المال ثمانية عشر وثلاثة أرباع ثلثها ستة وربع للدين خمسها واحد وربع إذا ضممت إليه تتمة كمل خمسة وللحج اثنان ونصف تكمل به تتمة وللصدقة اثنان ونصف وفي عملها طريق آخر وهو أن يقسم الثلث بكماله بين الوصايا بالقسط ثم ما بقي من الواجب أخذه من الورثة وصاحب التبرع بالقسط ففي المسألة الأولى يحصل للواجب خمسة يبقى له خمسة يأخذ من صاحب التبرع دينارا ومن الورثة أربعة وفي المسألة الثانية حصل للحج أربعة وبقي له ستة وحصل للدين ديناران وبقي له ثلاثة فيأخذان ما بقي لهما من الورثة ثلاثة ومن صاحب التبرع ثلاثة فيأخذ صاحب الحجة من الورثة أربعة ومن صاحب التبرع دينارين ويأخذ صاحب الدين دينارين من الورثة ودينارا من صاحب التبرع الثالث : أن يوصي بالواجب ويطلق فهو من رأس المال فيبدأ بإخراجه قبل التبرعات والميراث فإن كان ثم وصية تبرع فلصاحبها ثلث الباقي وهذا قول أكثر أصحاب الشافعي وذهب بعضهم إلى أن الواجب من الثلث كالقسم الذي قبله لأنه إنما يملك الوصية بالثلث .
ولنا أن الحج كان واجبا من رأس المال وليس في وصيته ما يقتضي تغييره فيبقى على ما كان عليه كما لو لم يوص به وقولهم لا تملك الوصية إلا بالثلث قلنا في التبرع فأما في الواجبات فلا تنحصر في الثلث ولا تتقيد به القسم الرابع : أن يوصي بالواجب ويقرن الوصية بالتبرع مثل أن يقول حجوا عني وأدوا ديني وتصدقوا عني ففيه وجهان : أصحهما : أن الواجب من رأس المال لأن الاقتران في اللفظ لا يدل على الاقتران في الحكم ولا في كيفيته ولذلك قال الله تعالى : { كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده } والأكل غير واجب والإيتاء واجب ولأنه ههنا قد عطف غير الواجب عليه فكما لم يستويا في الوجوب لا يلزم استواؤهما في محل الإخراج والثاني : أنه من الثلث لأنه قرن به ما مخرجه من الثلث .
مسألة : قال : وإن قال حجة بخمسمائة فما فضل فهو لمن يحج .
وجملته أنه إذا أوصى أن يحج عنه بقدر من المال حجة واحدة وكان فيه فضل عن قدر ما يحج به فهو لمن يحج لأنه قصد إرفاقه بذلك فكأنه صرح فإن قال حجوا عني حجة واحدة بخمسمائة وما فضل منها فهو لمن يحج ثم إن عين من يحج عنه فقال يحج عني فلان بخمسمائة صرف ذلك إليه وإن لم يعين أحدا فللوصي صرفها إلى من شاء لأنه فوض إليه الاجتهاد إلا أنه لا يملك صرفها إلى وارث إذا كان فيها فضل إلا بإذن الورثة وإن لم يكن فيها فضل جاز لأنها لا محاباة فيها ثم ينظر فإن كان الحج للموصي به تطوعا فجميع القدر الموصى به من الثلث وإن كان واجبا فالزائد عن نفقة المثل معتبر من الثلث وإن لم يف الموصى به بالحج الواجب أتم من رأس المال وإن كان تطوعا فإنه يحج به من حيث يبلغ على ما مضى .
فصل : وإن عين رجلا أن يحج فأبى أن يحج بطل التعيين ويحج عنه بأقل ما يمكن إنسان ثقة سواه ويصرف الباقي إلى الورثة ولو قال المعين اصرفوا الحجة إلى من يحج وادفعوا الفضل إلي لأنه موصى به لي لم يصرف إليه شيء لأنه إنما أوصي له بالزيادة بشرط أن يحج فإذا لم يفعل لم يوجد الشرط ولم يستحق شيئا .
مسألة : قال : وإن قال حجوا عني حجة فما فضل رد إلى الورثة .
أما إذا أوصى بحجة ولم يذكر قدرا من المال فإنه لا يدفع إلى من يحج إلا قدر نفقة المثل لما ذكرناه وإن فضل عن ذلك فهو للورثة وهذا ينبني على أن الحج لا يجوز الاستئجار عليه إنما ينوب عنه فيه نائب فما ينفق عليه يحتاج إليه فهو من مال الموصي وما بقي رده على ورثته وإن تلف المال في الطريق فهو من مال الموصي وليس على النائب إتمام المضي إلى الحج عنه وعلى الرواية الأخرى يجوز الاستئجار عليه فلا يستأجر إلا ثقة بأقل ما يمكن وما فضل فهو لمن يحج لأنه ملك ما أعطى بعقد الإجازة وإن تلف المال في الطريق بعد قبض الأجير له فهو من ماله ويلزمه إتمام الحج وإن قال حجوا عني ولم يقل حجة واحدة لم يحج عنه إلا حجة واحدة لأنه أقل ما يقع عليه الاسم فإن عين مع هذا من يحج عنه فقال يحج عني فلان فإنه يدفع إليه قدر نفقته من بلده إذا خرج من الثلث فإن أبى الحج إلا بزيادة تصرف إليه فينبغي أن يصرف إليه أقل قدر يمكن أن يحج به غيره وإن أبي الحج وكان واجبا استنيب غيره بأقل ما يمكن استنابته به وإن كان تطوعا احتمل بطلان الوصية لأنه عين لها جهة فإذا لم تقبلها بطلت الوصية كما لو قال بيعوا عبدي لفلان بمائة فأبى شراءه ويحتمل أن لا تبطل ويستناب غيره لأنه قصد القربة والتعيين فإذا بطل التعيين لم تبطل القربة كما لو قال بيعوا عبدي لفلان وتصدقوا بثمنه فلم يقبل فلان فإنه يباع لغيره ويتصدق به .
فصل : وإذا أوصى لرجل أن يخرج عنه حجة لم يكن للوصي الحج بنفسه نص عليه أحمد كما لو قال تصدق علي لم يجز أن يتصدق على نفسه وإن قال حج عني بما شئت صح وله ما شاء إلا أن لا يجيز الورثة فله الثلث .
فصل : إذا أوصى أن يحج عنه زيد بمائة ولعمرو بتمام الثلث ولسعد بثلث ماله فأجاز الورثة أمضيت على ما قال الموصي وإن لم يفضل عن المائة شيء فلا شيء لعمرو لأنه إنما أوصى له بالفضل ولا فضل وإن رد الورثة قسم الثلث بينهم نصفين لسعد السدس ولزيد مائة وما فضل من الثلث فلعمرو فإن لم يفضل شيء فلا شيء لعمرو لأنه إنما أوصى له بالزيادة ولا زيادة ولا تمنع المزاحمة به ولا يعطى شيئا كولد الأب مع الأخ من الأبوين في مزاحمة الجد ويحتمل أنه متى كان في الثلث فضل عن المائة أن يرد كل واحد منهم إلى نصف وصيته لأن زيدا إنما استحق المائة بالإجازة فمع الرد يجب أن يدخل عليه من النقص بقدر وصيته كسائر الوصايا وقد ذكرنا نظير هذه المسألة فيما تقدم فإن امتنع زيد من الحج وكانت الحجة واجبة استنيب ثقة غيره في الحج بأقل ما يمكن وتمام المائة للورثة ولعمرو ما فضل فإن كانت الحجة تطوعا ففي بطلان بهما وجهان ذكرناهما فيما مضى .
فصل : وإن أوصى لزيد بعبد بعينه ولعمرو ببقية الثلث قوم العبد يوم موت الموصي لأنه حال نفوذ الوصية ودفع إلى زيد ودفع بقية الثلث إلى عمرو فإن لم يبق من الثلث شيء بطلت وصية عمرو وإن مات العبد بعد موت الموصي أو رد زيد وصيته بطلت ولم تبطل وصية عمرو وهكذا إن مات زيد قبل موت الموصي أو بعده وإن مات العبد قبل موت الموصي قومنا التركة حال موت الموصي بدون العبد ثم يقوم العبد لو كان حيا فإن بقي من الثلث بعد قيمته شيء فهو لعمرو وإلا بطلت وصيته ولو قال لأحد عبديه أنت مدبر ثم قال لآخر أنت مدبر في زيادة الثلث عن قيمة الأول ثم بطل تدبير الأول لرجوعه فيه أو خروجه مستحقا أو غير ذلك فهي كالتي قبلها على ما ذكرنا