مسألة وفصول : ما لزم المريض في مرضه من حق فهو في رأس المال وأحكام تصرفات المريض والأمراض المخوفة .
فصل : وما لزم المريض في مرضه من حق لا يمكنه دفعه وإسقاطه كأرش الجناية وجناية عبده وما عارض عليه بثمن المثل وما يتغابن الناس بمثله فهو من رأس المال لا نعلم فيه خلافا وهذا عند الشافعي وأصحاب الرأي وكذلك النكاح بمهر المثل جائز من رأس المال لأنه صرف لماله في حاجة نفسه فيقدم بذلك على وارثه وكذلك لو اشترى جارية يستمتع بها كثيرة الثمن بثمن مثلها أو اشترى من الأطعمة التي لا يأكل مثله منها جاز وصح شراؤه لأنه صرف لماله في حاجته وإن كان عليه دين أو مات وعليه دين قدم بذلك على وارثه لقول الله تعالى : { من بعد وصية يوصى بها أو دين } .
فصل : فأما إن قضى المريض بعض غرمائه ووفت تركته بسائر الديون صح قضاؤه ولم يكن لسائر الغرماء الاعتراض عليه وإن لم يف بها ففيه وجهان : أحدهما : أن لسائر الغرماء الرجوع عليه ومشاركته فيما أخذه وهو قول أبي حنيفة لأن حقوقهم تعلقت بماله بمرضه فمنعت تصرفه فيه بما ينقص ديونهم كتبرعه ولأنه لو وصى بقضاء بعض ديونه لم يجز فكذلك إذا قضاها والثاني : أنهم لا يملكون الاعتراض عليه ولا مشاركته وهو قياس قول أحمد ومنصوص الشافعي لأنه أدى واجبا عليه فصح كما لو اشترى شيئا فأدى ثمنه أو باع بعض ماله وسلمه ويفارق الوصية فإنه لو اشترى ثيابا مثمنة صح ولو وصى بتكفينه في ثياب مثمنة لم يصح يحقق هذا أن إيفاء ثمن المبيع قضاء لبعض غرمائه وقد صح عقيب البيع فكذلك إذا تراخى إذ لا أثر لتراخيه .
فصل : وإذا تبرع المريض أو أعتق ثم أقر بدين لم يبطل تبرعه نص عليه أحمد فيمن أعتق عبده في مرضه ثم أقر بدين عتق العبد ولم يرد إلى الرق وهذا لأن الحق يثبت بالتبرع في الظاهر فلم يقبل إقراره فيما يبطل به حق غيره .
فصل : ويعتبر في المريض الذي هذه أحكامه شرطان : أحدهما : أن يتصل بمرضه الموت ولو صح في مرضه الذي أعطى فيه ثم مات بعد ذلك فحكم عطيته حكم عطية الصحيح لأنه ليس بمرض الموت الثاني : أن يكون مخوفا والأمراض على أربعة أقسام : .
الضرب الأول : غير مخوف : مثل وجع العين والضرس والصداع اليسير وحمى ساعة فهذا حكم صاحبه حكم الصحيح لأنه لا يخاف منه في العادة .
الضرب الثاني : الأمراض الممتدة كالجذام وحمى الربع والفالج في انتهائه والسل في ابتدائه والحمى الغب فهذا الضرب إن أضنى صاحبها على فراشه فهي مخوفة وإن لم يكن صاحب فراش بل كان يذهب ويجيء فعطاياه من جميع المال قال القاضي : هذا تحقيق المذهب فيه وقد روى حرب عن أحمد في وصية المجذوم والمفلوج من الثلث وهو محمود على أنهما صارا صاحبي فراش وبه يقول الأوزاعي و الثوري و مالك و أبو حنيفة وأصحابه و أبو ثور وذكر أبو بكر وجهين في صاحب الأمراض الممتدة أن عطيته من صلب المال وهو مذهب الشافعي لأنه لا يخاف تعجيل الموت فيه وإن كان لا يبرأ فهو كالهرم .
ولنا أنه مريض صاحب فراش يخشى التلف فأشبه صاحب الحمى الدائمة وأما الهرم فإن صار صاحب فراش فهو كمسألتنا .
الضرب الثالث : من تحقق تعجيل موته فينظر فيه فإن كان عقله قد اختل مثل من ذبح أو أبينت حشوته فهذا لا حكم لكلامه ولا لعطيته لأنه لا يبقى له عقل ثابت وإن كان ثابت العقل كمن خرقت حشوته أو اشتد مرضه ولم يتغير عقله صح تصرفه وتبرعه وكان تبرعه من الثلث فإن عمر Bه خرقت حشوته فقبلت وصيته ولم يختلف في ذلك وعلي Bه بعد ضرب ابن ملجم أوصى وأمر ونهى فلم يحكم ببطلان قوله .
الضرب الرابع : مرض مخوف لا يتعجل موت صاحبه يقينا لكنه يخاف ذلك كالبرسام وهو بخار يرقى إلى الرأس ويؤثر في الدماغ فيختل العقل والحمى الصالب والرعاف الدائم لأنه يصفي الدم فيذهب القوة وذات الجنب وهو قرح بباطن الجنب ووجع القلب والرئة فإنها لا تسكن حركتها فلا يندمل جرحها والقولنج وهو أن ينعقد الطعام في بعض الأمعاء ولا ينزل عنه فهذه كلها مخوفة سواء كان معها حمى أو لم يكن وهي مع الحمى أشد خوفا فإن ثاوره الدم واجتمع في عضو كان مخوفا لأنه من الحرارة المفرطة وإن هاجت به الصفراء فهي مخوفة لأنه تورث يبوسة وكذلك البلغم إذا هاج لأنه من شدة البرودة وقد تغلب على الحرارة الغريزية فتطفئها والطاعون مخوف لأنه من شدة الحرارة إلا أنه يكون في جميع البدن وأما الإسهال فإن كان منخرقا لا يمكنه منعه ولا إمساكه فهو مخوف وإن كان ساعة لأن من لحقه ذلك أسرع في هلاكه وإن لم يكن منخرقا لكنه يكون تارة وينقطع أخرى فإن كان يوما أو يومين فليس بمخوف لأن ذلك قد يكون من فضلة الطعام إلا أن يكون معه زحير وتقطيع كأن يخرج متقطعا فإنه يكون مخوفا لأن ذلك يضعف وإن دام الإسهال فهو مخوف سواء كان معه زحير أو لم يكن والمعرفة ولا يقبل إلا قول طبيبين مسلمين ثقتين بالغين لأن ذلك يتعلق به حق الوارث وأهل العطايا فلم يقبل فيه إلا ذلك وقياس قول الخرقي أنه يقبل قول الطبيب العدل إذا لم يقدر على طبيبين كما ذكرنا في باب الدعاوى فهذا الضرب وما أشبهه عطاياه صحيحة لما ذكرناه من قصة عمر Bه فإنه لما جرح سقاه الطبيب لبنا فخرج من جرحه فقال له الطبيب : اعهد إلى الناس فعهد إليهم ووصى فاتفق الصحابة على قبول عهده ووصيته وأبو بكر لما اشتد مرضه عهد إلى عمر فنفذ عهده .
مسألة : قال : وكذلك الحامل إذا صار لها ستة أشهر .
يعني عطيتها من الثلث وهذا قول مالك وقال إسحاق إذا أثقلت لا يجوز لها إلا الثلث ولم يحد وحكاه ابن المنذر عن أحمد وقال سعيد بن المسيب و عطاء و قتادة : عطية الحامل من الثلث وقال أبو الخطاب عطية الحامل من رأس المال ما لم يضربها المخاض فإذا ضربها المخاض فعطيتها من الثلث وبهذا قال النخعي و مكحول و يحيى الأنصاري و الأوزاعي و الثوري و العنبري و ابن المنذر وهو ظاهر مذهب الشافعي لأنها قبل ضرب المخاض لا تخاف الموت ولأنها إنما تخاف الموت إذا ضربها الطلق فأشبهت صاحب الأمراض الممتدة قبل أن يصير صاحب فراش وقال الحسن و الزهري : عطيتها كعطية الصحيح وهو القول الثاني ل الشافعي لأن الغالب سلامتها ووجه قول الخرقي أن ستة الأشهر وقت يمكن الولادة فيه وهي من أسباب التلف والصحيح إن شاء الله أنها إذا ضربها الطلق كان مخوفا لأنه ألم شديد يخاف منه التلف فأشبهت صاحب سائر الأمراض المخوفة وأما قبل ذلك فلا ألم بها واحتمال وجوده خلاف العادة فلا يثبت الحكم باحتماله البعيد مع عدمه كالصحيح فأما عبد الولادة فإن بقيت المشيمة وحصل ثم ورم أو ضربان شديد فهو مخوف وإن لم يكن شيء من ذلك فقد روي عن أحمد في النفساء إن كانت ترى الدم فعطيتها من الثلث ويحتمل أنه أراد بذلك إذا كان معه ألم للزومه لذلك في الغالب ويحتمل أن يحمل على ظاهره فإنها إذا كانت ترى الدم كانت كالمريض وحكمها بعد السقط كحكمها بعد وضع الولد التام وإن أسقطت مضغة أو علقة فلا حكم له إلا أن يكون ثم مرض أو ألم وهذا كله مذهب الشافعي إلا أن مجرد الدم عنده ليس بمخوف .
فصل : ويحصل الخوف بغير ما ذكرناه في مواضع خمسة تقوم مقام المرض : أحدها : إذا التحم الحرب واختلطت الطائفتان للقتال وكانت كل طائفة مكافئة للأخرى أو مقهورة فأما القاهرة منهما بعد ظهورها فليست خائفة وكذلك إذا لم يختلطوا بل كانت كل واحدة منهما متميزة سواك كان بينهما رمي بالسهام أو لم يكن فليست حالة خوف ولا فرق بين كون الطائفتين متفقتين في الدين أو مفترقتين وبه قال مالك و الأوزاعي و الثوري ونحوه عن مكحول وعن الشافعي قولان : أحدهما : كقول الجماعة والثاني : ليس بمخوف لأنه ليس بمريض .
ولنا أن توقع التلف ههنا كتوقع المرض أو أكثر فوجب أن يلحق به ولأن المرض إنما جعل مخوفا لخوف صاحبه التلف وهذا كذلك قال : أحمد إذا حضر القتال كان عتقه من الثلث وعنه إذا التحم الحرب فوصيته من المال كله فيحتمل أن يجعل هذا رواية ثانية وتسمى العطية وصية تجوزا لكونها في حكم الوصية ولكونها عند الموت ويحتمل أن يحمل على حقيقته في حصة الوصية من المال كله لكن يقف الزائد على الثلث على إجازة الورثة فإن حكم وصية الصحيح وخائف التلف واحد الثانية : إذا قدم ليقتل فهي حالة خوف سواء أريد قتله للقصاص أو لغيره ول الشافعي فيه قولان : أحدهما : أنه مخوف والثاني : إن جرح فهو مخوف وإلا فلا لأنه صحيح البدن والظاهر العفو عنه .
ولنا أن التهديد بالقتل جعل إكراها يمنع وقوع الطلاق وصحة البيع ويبيح كثيرا من المحرمات ولولا الخوف لم تثبت هذه الأحكام وإذا حكم للمريض وحاضر الحرب بالخوف مع ظهور السلامة وبعد وجود التلف فمع ظهور التلف وقربه أولى ولا عبرة بصحة البدن فإن المرض لم يكن مصبتا لهذا الحكم لعينه بل لخوف إفضائه إلى التلف فثبت الحكم ههنا بطريق التنبيه لظهور التلف .
الثالثة : إذا ركب البحر فإن كان ساكنا فليس بمخوف وإن تموج واضطرب وهبت الريح العاصف فهو مخوف فإن الله تعالى وصفهم بشدة الخوف بقوله سبحانه : { هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين } .
الرابعة : الأسير والمحبوس إذا كان من عادته القتل فهو خائف عطيته من الثلث وإلا فلا وهذا قول أبي حنيفة و مالك و ابن أبي ليلى وأحد قولي الشافعي وقال الحسن : لما حبس الحجاج إياس بن معاوية : ليس له من ماله إلا الثلث وقال أبو بكر عطية الأسير من الثلث ولم يفرق وبه قال الزهري و الثوري و إسحاق وحكاه ابن المنذر عن أحمد وتأول القاضي ما روي عن أحمد في هذا على ما ذكرناه من التفصيل ابتداء وقال الشعبي و مالك : الغازي عطيته من الثلث وقال مسروق إذا وضع رجله في الغرز وقال الأوزاعي المحصور في سبيل الله والمحبوس ينتظر القتل أو تفقأ عيناه هو في ثلثه والصحيح إن شاء الله ما ذكرنا من التفصيل لأن مجرد الحبس والأسر من غير خوف القتل ليس بمرض ولا هو في معنى المرض في الخوف فلم يجز إلحاقه به وإذا كان المريض الذي لا يخاف التلف عطيته من رأس ماله فغيره أولى .
الخامسة : إذا وقع الطاعون ببلدة فعن أحمد أنه مخوف ويحتمل أنه ليس بمرض وإنما يخالف المرض والله أعلم .
فصل : ويعتبر خروج العطية من الثلث حال الموت فمهما خرج من الثلث تبينا أن العطية صحت فيه حال العطية فإن نما المعطى أو كسب شيئا قسم بين الورثة وبين صاحبه على قدر مالهما فللعبد من كسبه بقدر ما عتق منه وباقيه لسيده فيزداد به مال السيد وتزداد الحرية لذلك ويزداد حقه من كسبه فينقص به حق السيد من الكسب وينقص بذلك قدر المعتق منه فيستخرج ذلك بالجبر فيقال عتق من العبد شيء وله من كسبه شيء لأن كسبه مثله وللورثة من العبد وكسبه شيئان لأن لهم مثلي ما عتق منه وقد عتق منه شيء ولا يحسب على العبد ما حصل له من كسبه لأنه استحقه بجزئه الحر لا من جهة سيده فصار للعبد شيئان وللورثة شيئان من العبد وكسبه فيقسم العبد وكسبه نصفين يعتق منه نصفه وله نصف كسبه وللورثة نصفهما وإن كسب مثلي قيمته فله من كسبه شيئان صار له ثلاثة أشياء ولهم شيئان فيقسم العبد وكسبه أخماسا يعتق منه ثلاثة أخماسه وله ثلاثة أخماس كسبه وللورثة خمسان وخمسا كسبه وإن كسب ثلاثة أمثال قيمته فله ثلاثة أشياء من كسبه مع ما عتق منه ولهم شيئان فيعتق منه ثلثاه وله ثلثا كسبه ولهم الثلث منهما وإن كسب نصف قيمته عتق منه شيء وله نصف شيء ولهم شيئان فالجميع ثلاثة أشياء ونصف إذا بسطتها أنصافا صارت سبعة له ثلاثة أسباعها فيعتق ثلاثة أسباعه وله ثلاثة أسباع كسبه والباق لهم فإن كانت قيمته مائة فكسب تسعة فاجعل له من كل دينار شيئا فقل عتق منه مائة شيء وله من كسبه تسعة أشياء ولهم مائتا شيء ويعتق منه مائة جزء وتسعة أجزاء من ثلثمائة وتسعة وله من كسبه مثل ذلك ولهم مائتا جزء من نفسه ومائتان من كسبه وإن كان على السيد دين يستغرق قيمته وقيمة كسبه صرفا في الدين ولم يعتق منه شيء لأن الدين مقدم على التبرع وإن لم يستغرق قيمته وقيمة كسبه صرف من العبد وكسبه ما يقضي به الدين وما بقي منهما يقسم على ما يعمل في العبد الكامل وكسبه فلو كان على السيد دين كقيمته صرف فيه نصف العبد ونصف كسبه وقسم النصف الباقي بين الورثة والعتق نصفين وكذلك بقية الكسب وإن كسب العبد مثل قيمته وللسيد مال مثل قيمته قسمت العبد ومثلي قيمته على الأشياء الأربعة فلكل شيء ثلاثة أرباع فيعتق من العبد ثلاثة أرباعه وله ثلاثة أرباع كسبه ولو أعتق عبدا قيمته عشرون ثم أعتق عبدا قيمته عشرة فكسب كل واحد منهما مثل قيمته لكملت الحرية في العبد الأول فيعتق منه شيء وله من كسبه شيء وللورثة شيئان ويقسم العبدان وكسبهما على الأشياء الأربعة فيكون لكل شيء خمسة عشر فيعتق منه بقدر ذلك وهو ثلاثة أرباعه وله ثلاثة أرباع كسبه والباقي لهم وإن بدأ بعتق الأدنى عتق كله وأخذ كسبه ويستحق الورثة من العبد الآخر وكسبه مثلي العبد الذي عتق وهو نصفه ونصف كسبه ويرق ثلاثة أرباعه ويتبعه ثلاثة أرباع كسبه وذلك مثلا ما أعتق منهما وإن أعتق العبدين دفعة واحدة قرعنا بينهما فمن خرجت له قرعة الحرية فحكمه كما لو بدأ بإعتاقه