مسألة وفصلان : بيان من يقبض الهبة للصبي وهبة الصبي لغيره .
مسألة : قال : ويقبض للطفل أبوه أو وصيه أو الحاكم أو أمينه بأمره .
وجملة ذلك أن الطفل لا يصح قبضه لنفسه ولا قبوله لأنه ليس من أهل التصرف ووليه يقوم مقامه في ذلك فإن كان له أب أمين فهو وليه لأنه أشفق عليه وأقرب إليه وإن مات أبوه الأمين وله وصي فوليه وصيه لأن الأب أقامه مقام نفسه فجرى مجرى وكيله وإن كان الأب غير مأمون لفسق أو جنون أو مات عن غير وصي فأمينه الحاكم ولا يلي ماله غير هؤلاء الثلاثة وأمين الحاكم يقوم مقامه وكذلك وكيل الأب والوصي فيقوم كل واحد منهم مقام الصبي في القبول والقبض إن احتيج إليه لأن ذلك قبول لما للصبي فيه حظ فكان إلى الولي كالبيع والشراء ولا يصح القبض والقبول من غير هؤلاء قال أحمد في رواية صالح في صبي وهبت له هبة أو تصدق عليه بصدقة فقبضت الأم ذلك وأبوه حاضر فقال لا أعرف للأم قبضا ولا يكون إلا الأب وقال عثمان Bه : أحق من يحوز على الصبي أبوه وهذا مذهب الشافعي ولا أعلم فيه خلافا لأن القبض إنما يكون من المتهب أو نائبه والولي نائب بالشرع فصح قبضه له أما غيره فلا نيابه له ويحتمل أن يصح القبض والقبول من غيرهم عند عدمهم لأن الحاجة داعية إلى ذلك فإن الصبي قد يكون في مكان لا حاكم فيه وليس له أب ولا وصي ويكون فقيرا لا غنى به عن الصدقات فإن لم يصح قبض غيرهم له انسد باب وصولها إليه فيضيع ويهلك ومراعاة حفظه عن الهلاك أولى من مراعاة الولاية فعلى هذا للأم القبض له وكل من يليه من أقاربه وغيرهم وإن كان الصبي مميزا فحكمه حكم الطفل في قيام وليه مقامه لأن الولاية لا تزول عنه قبل البلوغ إلا أنه إذا قبل لنفسه وقبض لها صح لأنه من أهل التصرف فإنه يصح بيعه وشراؤه بإذن الولي فههنا أولى ولا يحتاج إلى إذن الولي ههنا لأنه محض مصلحة ولا ضرر فيه فصح من غير إذن وليه كوصيته وكسب المباحات ويحتمل أن يقف صحة القبض منه على إذن وليه دون القبول لأن القبض يحصل به مستوليا على المال فلا يؤمن تضييعه له وتفريطه فيه فيتعين حفظه عن ذلك بوقفه على إذن وليه كقبضه لوديعته وأما القبول فيحصل له به الملك من غير ضرر فجاز من غير إذن كاحتشاشه واصطياده .
فصل : فإن وهب الأب لابنه شيئا قام مقامه في القبض والقبول إن احتيج إليه قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا وهب لولده الطفل دارا بعينها أو عبدا بعينه وقبضه له من نفسه وأشهد عليه أن الهبة تامة هذا قول مالك و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي وروينا معنى ذلك عن شريح وعمر بن عبد العزيز ثم إن كان الموهوب مما يفتقر إلى قبض اكتفى بقوله قد وهبت هذا لابني وقبضته له لأنه يغني عن القبول كما ذكرنا ولا يغني قوله قد قبلته لأن القبول لا يغني عن القبض وإن كان مما لا يفتقر اكتفى بقوله قد وهبت هذا لابني ولا يحتاج إلى ذكر قبض ولا قبول قال ابن عبد البر أجمع الفقهاء على أن هبة الأب لابنه الصغير في حجره لا يحتاج إلى قبض وأن الاشهاد فيها يغني عن القبض وأن وليها أبوه لما رواه مالك عن الزهري عن ابن المسيب أن عثمان قال : من نحل ولدا له صغيرا لم يبلغ أن يجوز نحلة فأعلن ذلك وأشهد على نفسه فهي جائزة وإن وليها أبوه وقال القاضي لا بد في هبة الولد من أن يقول قد قبلته وهذا مذهب الشافعي لأن الهبة عندهم لا تصح إلا بإيجاب وقبول وقد ذكرنا من قبل أن قرائن الأحوال ودلالتها تغني عن لفظ القبول ولا أدل على القبول من كون القابل هو الواهب فاعتبار لفظ لا يفيد معنى من غير ورود الشرع به تحكم لا معنى له مع مخالفته لظاهر حال النبي A وصحابته وليس هذا مذهبا ل أحمد فقد قال في رواية حرب في رجل أشهد بسهم من ضيعته وهي معروفة لابنه وليس له ولد غيره فقال أحب إلي أن يقول عند الإشهاد قد قبضته له قيل له فإن سها ؟ فقال إذا كان مفرزا رجوت فقد ذكر أحمد أنه يكتفى بقوله قد قبضته له وأنه يرجو أن يكتفى مع التمييز بالإشهاد فحسب وهذا موافق للإجماع المذكور عن سائر العلماء وقال بعض أصحابنا يكتفى بأحد لفظين إما أن يقول قد قبلته أو قد قبضته لأن القبول يغني عن القبض وظاهر كلام أحمد ما ذكرناه ولا فرق بين الاثمان وغيرها فيما ذكرنا وبه يقول أبو حنيفة و الشافعي وقال مالك : إن وهب له مالا يعرف بعينه كالاثمان لم يجز إلا أن يضعها على يد غيره لأن الأب قد يتلف ذلك ويتلف بعير سببه ولا يمكن أن يشهد على شيء بعينه فلا ينفع القبض شيئا .
ولنا أن ذلك مما لا تصح هبته فإذا وهبه لابنه الصغير وقبضه له وجب أن تصح كالعروض .
فصل : وإن كان الواهب للصبي غير الأب من أوليائه فقال أصحابنا لا بد من أن يوكل من يقبل للصبي ويقبض له ليكون الإيجاب منه والقبول والقبض من غيره كما في البيع بخلاف الأب فإنه يجوز أن يوجب ويقبل ويقبض لكونه يجوز أن يبيع لنفسه والصحيح عندي أن الأب وغيره في هذا سواء لأنه عقد يجوز أن يصدر منه ومن وكيله فجاز له أن يتولى طرفيه كالأب وفارق البيع فإنه لا يجوز أن يوكل من يشتري له ولأن البيع عقد معاوضة ومرابحة فيتهم في عقده لنفسه والهبة محض مصلحة لا تهمة فيها وهو ولي فيه فجاز أن يتولى طرفي العقد كالأب ولأن البيع إنما منع منه لما يأخذه من العوض لنفسه من مال الصبي وهو ههنا يعطي ولا يأخذ فلا وجه لمنعه من ذلك وتوقيفه على توكيل غيره ولأننا قد ذكرنا أنه يستغنى بالإيجاب والاشهاد إلى القبض والقبول فلا حاجة إلى التوكيل فيهما مع غناه عنهما .
فصل : فأما الهبة من الصبي لغيره فلا تصح سواء أذن فيها الولي أو لم يأذن لأنه محجور عليه لحظ نفسه فلم يصح تبرعه كالسفيه وأما العبد فلا يجوز أن يهب إلا بإذن سيده لأنه مال لسيده وماله مال لسيده فلا يجوز له إزالة ملك سيده عنه بغير إذنه كالأجنبي وله أن يقبل الهبة بغير إذن سيده نص عليه أحمد لأنه تحصيل للمال للسيد فلم يعتبر إذنه فيه كالالتقاط وما وهبه لسيده لأنه من اكتسابه فأشيه اصطياده