فصول : لا يجوز إحياء ما قرب من العامر ولا إحياء بالتحجير وللإمام حق إقطاع الموات لمن يحييه .
فصل : وما قرب من العامر وتعلق بمصالحه من طرقه ومسيل مائه ومطرح قمامته وملقى ترابه وآلاته فلا يجوز إحياؤه بغير خلاف في المذهب وكذلك ما تعلق بمصالح القرية كفنائها ومرعى ماشيتها ومحتطبها وطرقها ومسيل مائها لا يملك بالإحياء ولا نعلم فيه أيضا خلافا بين أهل العلم وكذلك حريم البئر والنهر والعين وكل مملوك لا يجوز إحياء ما تعلق بمصالحه لقوله عليه السلام : [ من أحيا أرضا ميتة في غير حق مسلم فهي له ] مفهومه أن ما تعلق به حق مسلم لا يملك بالإحياء ولأنه تابع للمملوك ولو جوزنا إحياءه لبطل الملك في العامر على أهله وذكر القاضي : أن هذه المرافق لا يملكها المحيي بالإحياء لكن هو أحق بها من غيره لأن الإحياء الذي هو سبب الملك لم يوجد فيها وقال الشافعي : يملك بذلك وهو ظاهر قول الخرقي في حريم البئر لأنه مكان استحقه بالإحياء فملكه كالمحيى ولأن معنى الملك موجود فيه لأنه يدخل مع الدار في البيع ويختص به صاحبها فأما ما قرب من العامر ولم يتعلق بمصالحه ففيه روايتان إحداهما : يجوز إحياؤه قال أحمد في رواية أبي الصقر في رجلين أحييا قطعتين من موات وبقيت بينهما رقعة فجاز رجل ليحييها فليس لهما منعه وقال في جبانة بين قريتين : من أحياها فهي له وهذا مذهب الشافعي لعموم قوله عليه السلام : [ من أحيا أرضا ميتة فهي له ] ولأن النبي A أقطع بلال بن الحارث المزني العقيق وهو يعلم أنه بين عمارة المدينة ولأنه موات لم يتعلق به مصلحة العامر فجاز إحياؤه كالبعيد والرواية الثانية : لا يجوز إحياؤه وبه قال أبو حنيفة و الليث لأنه في مظنة تعلق المصلحة به فإنه يحتمل أن يحتاج إلى فتح باب في حائطه إلى فنائه ويجعله طريقا أو يخرب حائطه فيضع آلات البناء في فنائه وغير ذلك ولم يجز تفويت ذلك عليه بخلاف البعيد .
إذا ثبت هذا فإنه لا حد يفصل بين القريب والبعيد سوى العرف وقال الليث : حده غلوة وهي خمس خمس الفرسخ وقال أبو حنيفة : حد البعيد هو الذي إذا وقف الرجل في أدناه فصاح بأعلى صوته لم يسمع أدنى أهل المصر إليه .
ولنا أن التحديد لا يعرف إلا بالتوقيف ولا يعرف بالرأي والتحكم ولم يرد من الشرع لذلك تحديد فوجب أن يرجع في ذلك إلى العرف كالقبض والإحراز وقول من حدد هذا تحكم بغير دليل وليس ذلك أولى من تحديده بشيء آخر كميل ونصف ميل ونحو ذلك وهذا التحديد الذي ذكراه - والله أعلم - مختص بما قرب من المصر أو القرية ولا يجوز أن يكون حدا لكل ما قرب من عامر لأنه يفضي إلى أن من أحيا أرضا في موات حرم إحياء شيء من ذلك الموات على غيره ما لم يخرج عن ذلك الحد .
فصل : وجميع البلاد في ما ذكرناه سواء المفتوح عنوة كأرض الشام والعراق وما أسلم أهله عليه كالمدينة وما صولح أهله على أن الأرض للمسلمين كأرض خيبر إلا الذي صولح أهله على أن الأرض لهم ولنا الخراج عنها فإن أصحابنا قالوا : لو دخل فيها مسلم فأحيا فيها مواتا لم يملكه لأنهم صولحوا في بلادهم فلا يجوز التعرض لشيء منها عامرا كان أو مواتا لأن الموات تابع للبلد فإذا لم يملك عليهم البلد لم يملك مواته ويفارق دار الحرب حيث يملك مواتها لأن دار الحرب على أصل الإباحة وهذه صالحناهم على تركها لهم فحرمت علينا ويحتمل أن يملكها من أحياها لعموم الخبر ولأنها من مباحات دارهم فجاز أن يملكها من وجد منه سبب تملكها كالحشيش والحطب وقد روي عن أحمد : أنه ليس في السواد موات يعني سواد العراق قال القاضي : هذا محمول على العامر ويحتمل أن أحمد قال : ذلك لكون السواد كان معمورا كله في زمن عمر بن الخطاب وحين أخذه المسلمون من الكفار حتى بلغنا أن رجلا منهم سأل أن يعطى خربة فلم يجدوا له خربة فقال : إنما أردت أن أعلمكم كيف أخذتموها منا وإذا لم يكن فيها موات حين ملكها المسلمون لم يصر فيها موات بعده لأن ما دثر من أملك المسلمين لم يصر مواتا على إحدى الروايتين .
فصل : وإن تحجر مواتا وهو أن يشرع في إحيائه مثل أن أدار حول الأرض ترابا أو أحجارا أو حاطها بحائط صغير لم يملكها بذلك لأن الملك بالإحياء وليس هذا إحياء لكن يصير أحق الناس به لأنه روي عن النبي A أنه قال : [ من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به ] رواه أبو داود فإن نقله إلى غيره صار الثاني بمنزلته لأن صاحبه أقامه مقامه وإن مات فوارثه أحق به لقول النبي A : [ من ترك حقا أو مالا فهو لورثته ] فإن باعه لم يصح بيعه لأنه لم يملكه فلم يملك بيعه كحق الشفعة قبل الأخذ به وكمن سبق إلى معدن أو مباح قبل أخذه قال أبو الخطاب : ويحتمل جواز بيعه لأنه له فإن سبق غيره فأحياه ففيه وجهان أحدهما : أنه يملكه لأن الإحياء يملك به والحجر لا يملك به فثبت الملك بما يملك به دون ما لم يملك به كمن سبق إلى معدن أو مشرعة ماء فجاء غيره فأزاله وأخذه والثاني : لا يملكه لأن مفهوم قوله عليه السلام : من أحيا أرضا ميتة ليست لأحد - وقوله - في حق غير مسلم فهي له إنها لا تكون له إذا كان لمسلم فيها حق وكذلك قوله : [ من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به ] وروى سعيد في سننه أن عمر Bه قال : من كانت له أرض يعني من تحجر أرضا فعطلها ثلاث سنين فجاء قوم فعمروها فهم أحق بها وهذا يدل على أن من عمرها قبل ثلاث سنين لا يملكها ولأن الثاني أحيا في حق غيره فلم يملكه كما لو أحيا ما تتعلق به مصالح ملك غيره ولأن حق المتحجر أسبق فكان أولى كحق الشفيع يقدم على شراء المشتري فإن طالت المدة عليه فينبغي أن يقول له السلطان إما أن تحييه أو تتركه ليحييه غيرك لأن ضيق على الناس في حق مشترك بينهم فلم يمكن من ذلك كما لو وقف في طريق ضيق أو مشرعة ماء أو معدن لا ينتفع ولا يدع غيره ينتفع فإن سأل الإمهال لعذر له أمهل الشهر والشهرين ونحو ذلك فإن أحياه غيره في مدة المهلة ففيه الوجهان اللذان ذكرناهما وإن نقضت المدة ولم يعمر فلغيره أن يعمره ويملكه لأن المدة ضربت له لينقطع حقه بمضيها وسواء أذن له السلطان في عمارتها أو لم يأذن له وإن لم يكن للمتحجر عذر في ترك العمارة قيل له إما أن تعمر وإما أن ترفع يدك فإن لم يعمرها كان لغيره عمارتها فإن لم يقل له شيء واستمر تعطيلها فقد ذكرنا عن عمر Bه أن من تحجر أرضا فعطلها ثلاث سنين فجاء قوم فعمروها فهم أحق بها ومذهب الشافعي في هذا كله نحو ما ذكرنا .
فصل : وللإمام إقطاع الموات لمن يحييه فيكون بمنزلة المتحجر الشارع في الإحياء لما روي أن النبي A أقطع بلال بن الحرث العقيق أجمع فلما كان عمر قال لبلال : إن رسول الله A لم يقطعك لتحيزه عن الناس إنما أقطعك لتعمر فخذ منها ما قدرت على عمارته ورد الباقي رواه أبو عبيد في الأموال وذكر سعيد في سننه حدثنا عبد العزيز بن محمد عن ربيعة قال : سمعت الحرث بن بلال بن الحرث يقول أن رسول الله A أقطع بلال بن الحرث العقيق فلما ولي عمر بن الخطاب قال : ما أقطعك لتحتجنه فاقطعه الناس وروى علقمة بن وائل عن أبيه أن النبي A أقطعه أرضا بحضرموت قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح وقال سعيد : حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن عمرو بن شعيب أن رسول الله A أقطع ناسا من جهينة أو مزينة أرضا فعطلوها فجاء قوم فأحيوها فخاصمهم الذي أقطعهم رسول الله A إلى عمر بن الخطاب فقال عمر : لو كانت قطيعة مني أو من أبي بكر لم أردها ولكنها قطيعة من رسول الله A فجاء قوم فعمروها فهم أحق بها