فصول : جواز إجارة كل عين يمكن الانتفاع بها منفعة مباحة وأقسام ما لا تجوز إجارته .
فصل فيما تجوز إجارته : تجوز إجارة كل عين يمكن أن ينتفع بها منفعة مباحة مع بقائها بحكم الأصل كالأرض والدار والعبد والبهيمة والثياب والفساطيط والحبال والخيام والمحامل والسرج واللجام والسيف والرمح وأشباه ذلك وقد ذكرنا كثيرا مما تجوز إجارته في مواضعه وتجوز إجارة الحلي نص عليه أحمد في رواية ابنه عبد الله وبهذا قال الثوري و إسحاق و أبو ثور وأصحاب الرأي وروي عن أحمد أنه قال : في إجارة الحلي ما أدري ما هو ؟ قال القاضي : هو محمول على إجارته بأجرة من جنسه فأما بغير جنسه فلا بأس به لتصريح أحمد بجوازه وقال مالك : في إجارة الحلي والثياب ما هو من المشتبهات ولعله يذهب إلى أن المقصود بذلك الزينة وليس ذلك من المقاصد الأصلية ومن منع ذلك بأجر من جنسه فقد احتج له بأنها تحتك بالاستعمال فيذهب منها أجزاء وإن كانت يسيرة فيحصل الأجر في مقابلتها ومقابلة الانتفاع بها فيفضي إلى بيع ذهب بذهب وشيء آخر ولنا أنها عين ينتفع بها منفعة مباحة مقصودة مع بقاء عينها فاشبهت سائر ما تجوز إجارته والزينة من المقاصد الأصلية فإن الله تعالى امتن بها علينا بقوله تعالى : { لتركبوها وزينة } وقال تعالى : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده } وأباح الله تعالى من التحلي واللباس للنساء ما حرمه على الرجال لحاجتهن إلى التزين للأزواج وأسقط الزكاة عن حليهن معونة لهن على اقتنائه وما ذكروه من نقصها بالاحتكاك لا يصح لأن ذلك يسير لا يقابل بعوض ولا يكاد يظهر في وزن ولو ظهر فالأجر في مقابلة الانتفاع لا في مقابلة الأجزاء لأن الأجر في الإجارة إنما هو عوض المنفعة كما في سائر المواضع ولو كان في مقابلة الجزء الذاهب لما جاز إجارة أحد النقدين بالآخر لإفضائه إلى الفرق في معاوضة أحدهما بالآخر قبل القبض والله أعلم .
فصل : وتجوز إجارة الدراهم والدنانير للوزن والتحلي في مدة معلومة وبه قال أبو حنيفة وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي والوجه الآخر أنها لا تجوز إجارتها لأن هذه المنفعة ليست المقصود منها ولذلك لا تضمن منفعتها بغصبها فأشبهت الشمع .
ولنا أنها عين أمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها منفعة مباحة فأشبهت الحلي وفارق الشمع فإنه لا ينتفع به إلا بما أتلف عينه إذا ثبت هذا فإنه إن ذكر ما يستأجره له وعينه فحسن وإن أطلق الإجارة فقال أبو الخطاب : تصح الإجارة وينتفع بها فيما شاء منهما لأن منفعتهما في الإجارة متعينة في التحلي والوزن وهما متقاربان فوجب أن تحمل الإجارة عند الإطلاق عليهما كاستئجار الدار مطلقا فإنه يتناول السكنى ووضع المتاع فيها وقال القاضي : لا تصح الإجارة وتكون قرضا وهذا مذهب أبي حنيفة لأن الإجارة تقتضي الانتفاع والانتفاع المعتاد بالدراهم والدنانير إنما هو بأعيانها فإذا أطلق الانتفاع حمل على الانتفاع المعتاد .
وقال أصحاب الشافعي : لا تصح الإجارة فلا تكون قرضا لأن التحلي ينقصها والوزن لا ينقصها فقد اختلفت جهة الانتفاع فلم يجز إطلاقها ولا يجوز أن يعبر بها عن القرض لأن القرض تمليك للغير والإجارة تقتضي الانتفاع مع بقاء العين فلم يجز التعبير بأحدهما عن الآخر ولأن التسمية والألفاظ تؤخذ نقلا ولم يعهد في اللسان التعبير بالإجارة عن القرض وقول أبي الخطاب أصح إن شاء الله لأن العقد متى أمكن حمله على الصحة كان أولى من إفساده وقد أمكن حمله على إجارتها للجهة التي تجوز إجارتها فيها وقول القاضي : لا يصح لأن الإجارة إنما تقتضي انتفاعا مع بقاء العين فلا تحمل على غير ذلك وما ذكر الآخرون من نقص العين بالاستعمال في التحلي فبعيد فإن ذلك يسير لا أثر له فوجوده كعدمه .
فصل : ويجوز أن يستأجر شجرا ونخيلا ليجفف عليها الثياب أو يبسطها عليها ليستظل بظلها ولأصحاب الشافعي في ذلك وجهان لما ذكروه في الأثمان .
ولنا أنها لو كانت مقطوعة لجاز استئجارها لذلك فكذلك إذا كانت نابتة وذلك لأن الانتفاع يحصل بهما على السواء في الحالتين فما جاز في إحداهما يجوز في الأخرى ولأنها شجرة فجاز استئجارها لذلك كالمقطوعة ولأنها منفعة مقصودة يمكن استيفاؤها مع بقاء العين فجاز العقد عليها كما لو كانت مقطوعة ولأنها عين يمكن استيفاء هذه المنفعة منها فجاز استئجارها لها كالحبال والخشب والشجر المقطوع .
فصل : ويجوز استئجار غنم لتدرس له طينا أو زرعا ولأصحاب الشافعي فيه وجهان لأنها منفعة غير مقصودة من هذا الحيوان فأشبهت النخيل .
ولنا أنها منفعة مباحة يمكن استيفاؤها من العين مع بقائها فأشبهت استئجار البقر لدياس الزرع .
فصل : ويجوز استئجار ما يبقى من الطيب والصندل وأقطاع الكافور والند لتشمه المرضى وغيرهم مدة ثم يرده لأنها منفعة مباحة فأشبهت الوزن والتحلي مع أنه لا ينفك من أخلاق وبلى .
فصل : وتجوز إجارة الحائط ليضع عليها خشبا معلوما مدة معلومة وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يجوز ولنا أن هذه منفعة مقصودة مقدور على تسليمها واستيفائها فجاز عقد الإجارة عليها كاستئجار السطح للنوم عليه .
فصل : ويجوز استئجار دار يتخذها مسجدا يصلي فيه وبه قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يصح لأن فعل الصلاة لا يجوز استحقاقه بعقد إجارة بحال فلا تجوز الإجارة لذلك .
ولنا أن هذه منفعة مباحة يمكن استيفاؤها من العين مع بقائها فجاز استئجار العين لها كالسكنى ويفارق الصلاة فإنها لا تدخلها النيابة بخلاف بناء المساجد .
فصل : وذكر ابن عقيل أنه يجوز استئجار البئر ليستقي منها أياما معلومة لأن هواء البئر وعمقها فيه نوع انتفاع بمرور الدلو فيه وأما نفس الماء فيؤخذ على أصل الإباحة والله الموفق .
فصل : ويجوز استئجار الفهد والبازي والصقر للصيد في مدة معلومة لأن فيه نفعا مباحا تجوز إعارته له فجازت إجارته له كالدابة وتجوز إجارة كتب العلم التي يجوز بيعها للانتفاع بها في القراءة فيها والنسخ منها لما ذكرناه وتجوز إجارة درج فيه خط حسن يكتب عليه ويتمثل منه لذلك .
فصل : وما لا تجوز إجارته أقسام أحدها : ما لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالمطعوم والمشروب والشمع ليشعله لأن الإجارة عقد على المنافع وهذه لا ينتفع بها إلا بإتلاف عينها فإن استأجر شمعة يسرجها ويرد بقيتها وثمن ما ذهب وأجر الباقي كان فاسدا لأنه يشمل بيعا وإجارة وما وقع عليه البيع مجهول وإذا جهل المبيع جهل المستأجر أيضا فيفسد العقدان ولو استأجر شمعا ليتجمل به ويرده من غير أن يشعل منه شيئا لم يجز لأن ذلك ليس بمنفعة مرعية في الشرع فبذل المال فيه سفه وأخذه أكل مال بالباطل فلم يجز كما لو استأجر خبزا لينظر إليه وكذلك لو استأجر طعاما ليتجمل به على مائدته ثم يرده لم يجز لما ذكرناه وهكذا سائر الأشياء ولا يصح استئجار ما لا يبقى من الرياحين كالورد والبنفسج والريحان الفارسي وأشباهه لشمها لأنها تتلف عن قرب فأشبهت المطعومات ولا يجوز استئجار الغنم ولا الإبل والبقر ليأخذ لبنها ولا ليسترضعها السخالة ونحوها ولا استئجارها ليأخذ صوفها ولا شعرها ولا وبرها ولا استئجار شجرة ليأخذ ثمرتها أو شيئا من عينها .
فصل : ولا تجوز إجارة الفحل للضراب وهذا ظاهر مذهب الشافعي وأصحاب الرأي و أبي ثور و ابن المنذر وخرج أبو الخطاب وجها في جوازه لأنه انتفاع مباح والحاجة تدعو إليه فجاز كإجارة الظئر للرضاع والبئر ليستقي منها الماءن ولأنها منفعة تستباح بالإعارة فتستباح بالإجارة كسائر المنافع وهذا مذهب الحسن و ابن سيرين .
ولنا أن النبي A نهى عن عسب الفحل متفق عليه وفي لفظ نهى عن ضراب الجمل ولأن المقصود الماء الذي يخلق منه الولد فيكون عقد الإجارة لاستيفاء عين غائبة فلم يجز كإجارة الغنم لأخذ لبنها وهذا أولى فإن هذا الماء محرم لا قيمة له فلم يجز أخذ العوض عنه كالميتة والدم وهو مجهول فأشبه اللبن في الضرع فأما من أجازه فينبغي أن يوقع العقد على العمل ويقدره بمرة أو مرتين أو أكثر وقيل يقع العقد على مدة وهذا بعيد لأن من أراد إطلاق فرسه مرة فقدره بمدة تزيد على قدر الفعل لم يمكن استيعابها به وإن اقتصر على مقداره فربما لا يحصل الفعل فيه ويتعذر أيضا ضبط مقدار الفعل فيتعين التقدير بالفعل إلا أن يكتري فحلا لإطلاق ماشية كثيرة كفحل يتركه في إبله أو تيس في غنمه فإن هذا إنما يكتري مدة معلومة والمذهب أنه لا تجوز إجارته فإن احتاج إنسان إلى ذلك ولم يجد من يطرق له جاز له أن يبذل الكراء وليس للمطرق أخذه قال عطاء لا يأخذ عليه شيئا ولا بأس أن يعطيه إذا لم يجد من يطرق له ولأن ذلك بذل مال لتحصيل منفعة مباحة تدعو الحاجة إليها فجاز كشراء الأسير ورشوة الظالم ليدفع ظلمه وإن أطرق إنسان فحله بغير إجارة ولا شرط فأهديت له هدية أو أكرم بكرامة لذلك فلا بأس به لأنه فعل معروفا فجازت مجازاته عليه كما لو أهدي هدية .
فصل : القسم الثاني : ما منفعته محرمة كالزنا والزمر والنوح والغناء فلا يجوز الاستئجار لفعله وبه قال مالك و الشافعي و أبو حنيفة وصاحباه و أبو ثور وكره ذلك الشعبي و النخعي لأنه محرم فلم يجز الاستئجار عليه كإجارة أمته للزنا ولا يجوز استئجار كاتب ليكتب له غناء ونوحا وقال أبو حنيفة : يجوز .
ولنا أنه انتفاع بمحرم فأشبه ما ذكرنا ولا يجوز الاستئجار على كتابة شعر محرم ولا بدعة ولا شيء محرم لذلك ولا يجوز الاستئجار على حمل الخمر لمن يشربها ولا على حمل خنزير ولا ميتة لذلك وبهذا قال أبو يوسف ومحمد و الشافعي وقال أبو حنيفة : يجوز لأن العمل لا يتعين عليه بدليل أنه لو حمله مثله جاز ولأنه لو قصد إراقته أو طرح الميتة جاز .
وقد روي عن أحمد فيمن حمل خنزيرا أو ميتة أو خمرا لنصراني أكره أكل كرائه ولكن يقضى للحمال بالكراء فإذا كان لمسلم فهو أشد قال القاضي : هذا محمول على أنه استأجره ليريقها فأما للشرب فمحذور لا يحل أخذ الأجرة عليه وهذا التأويل بعيد لقوله أكره أكل كرائه وإذا كان لمسلم فهو أشد ولكن المذهب خلاف هذه الرواية لأنه استئجار لفعل محرم فلم يصح كالزنا ولأن النبي A لعن حاملها والمحمولة إليه وقوله لا يتعين يبطل باستئجار أرض ليتخذها مسجدا وأما حمل هذه لإراقتها والميتة لطرحها والاستئجار للكنف فجائز لأن ذلك كله مباح وقد استأجر النبي A أباظية لحجمه وقال أحمد في رواية ابن منصور في الرجل يؤجر نفسه لنظارة كرم النصراني يكره ذلك لأن الأصل في ذلك راجع إلى الخمر .
فصل : ويكره أن يؤجر الرجل نفسه لكسح الكنف ويكره له أكل أجره لأن النبي A قال : [ كسب الحجام خبيث ] ونهى الحر عن أكله فهذا أولى وقد روي عن ابن عباس أن رجلا حج ثم أتاه فقال : إني رجل أكنس فما ترى في مكسبي ؟ قال أي شيء تكنس ؟ قال العذرة قال ومنه حججت ومنه تزوجت ؟ قال نعم قال : أنت خبيث وحجك خبيث وما تزوجت خبيث أو نحو هذا ذكره سعيد بن منصور في سننه بمعناه ولأن فيه دناءة فكره كالحجامة فأما الإجارة في الجملة فجائزة لأن الحاجة داعية إليها فلا تندفع بدون إباحة الإجارة فوجب إباحتها كالحجامة .
فصل : ولا يجوز للرجل إجارة داره لمن يتخذها كنيسة أو بيعة أو يتخذها لبيع الخمر أو القمار وبه قال الجماعة وقال أبو حنيفة : إن كان بيتك في السواد فلا بأس أن تؤجره لذلك وخالفه صاحباه واختلف أصحابه في تأويل قوله .
ولنا أنه فعل محرم فلم تجز الإجارة عليه كإجارة عبده للفجور ولو اكترى ذمي من مسلم داره فأراد بيع الخمر فيها فلصاحب الدار منعه وبذلك قال الثوري وقال أصحاب الرأي : إن كان بيته في السواد والجبل فله أن يفعل ما شاء .
ولنا أنه فعل محرم جاز المنع منه في المصر فجاز في السواد كقتل النفس المحرمة .
فصل : القسم الثالث : ما يحرم بيعه إلا الحر والوقف وأم الولد والمدبر فإنه يجوز إجارتها وإن حرم بيعها وما عدا ذلك فلا تجوز إجارته سواء كان ممن لا يقدر على تسليمه كالعبد الآبق والجمل النادر والبهيمة الشاردة والمغصوب من غير غاصبه أو ممن لا يقدر على انتزاعه منه فإنه لا تجوز إجارته لأنه لا يمكن تسليم المعقود عليه وإن كان مما تجهل صفته فإنه لا تجوز إجارته في ظاهر المذهب أو كان ممن لا نفع فيه كسباع البهائم أو الطير التي لا تصلح للاصطياد ولا تجوز إجارة الكلب ولا الخنزير بحال ويتخرج جواز إجارة الكلب الذي يباح اقتناؤه لأن فيه نفعا مباحا تجوز له إعارته فجازت إجارته له كغيره ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين ولا تجوز إجارة ما لا يقدر على تسليم منفعته سواء جاز بيعه أو لم يجز مثل أن يغصب منفعته بأن يدعي إنسان أن هذه الدار في إجارته عاما ويغلب صاحبها عليها فإنه لا تجوز إجارتها في هذا العام إلا من غاصبها أو ممن يقدر على أخذها منه قال أصحابنا ولا تجوز إجارة المشاع لغير الشريك إلا أن يؤجر الشريكان معا وهذا قول أبي حنيفة و زفر لأنه لا يقدر على تسليمه فلم تصح إجارته كالمغصوب وذلك لأنه لا يقدر على تسليمه إلا بتسليم نصيب شريكه ولا ولاية له على مال شريكه واختار أبو حفص العكبري جواز ذلك وقد أومأ إليه أحمد وهو قول مالك و الشافعي و أبي يوسف ومحمد لأنه معلوم يجوز بيعه فجازت إجارته كالمفروز ولأنه عقد في ملكه يجوز مع شريكه فجاز مع غيره كالبيع ولأنه يجوز إذا فعله الشريكان معا فجاز لأحدهما فعله في نصيبه مفردا كالبيع ومن نصر الأول فرق بين محل النزاع وبين ما إذا أجره الشريكان أو أجره لشريكه بأنه يمكن التسليم إلى المستأجر فأشبه إجارة المغصوب من غاصبه دون غيره وإن كانت الدار لواحد فأجر نصفها صح لأنه يمكنه تسليمه ثم إن أجر نصفها الآخر للمستأجر الأول صح فإنه يمكنه تسليمه إليه وإن أجره لغيره ففيه وجهان بناء على المسألة التي قبلها لأنه لا يمكنه تسليم ما أجره إليه وإن أجر الدار لاثنين لكل واحد منهما نصفها فكذلك لأنه لا يمكنه تسليم نصيب كل واحد منهما إليه .
فصل : وفي إجارة المصحف وجهان أحدهما : لا تصح إجارته مبنيا على أنه لا يصح بيعه وعلة ذلك إجلال كلام الله وكتابه عن المعارضة به وابتذاله بالثمن في البيع والأجر في الإجارة والثاني : تجوز إجارته وهو مذهب الشافعي لأنه انتفاع مباح تجوز الإعارة من أجله فجازت فيه الإجارة كسائر الكتب فأما سائر الكتب الجائز بيعها فتجوز إجارتها ومقتضى مذهب أبي حنيفة أنها لا تجوز إجارتها لأنه علل منع إجارة المصحف بأنه ليس في ذلك أكثر من النظر إليه ولا تجوز الإجارة لمثل ذلك بدليل أن لا يجوز أن يستأجر سقفا لينظر إلى عمله وتصاويره أو شمعا ليتجمل به .
ولنا أنه انتفاع مباح يحتاج إليه وتجوز الإعارة له فجازت إجارته كسائر المنافع وفارق النظر إلى السقف فإنه لا حاجة إليه ولا جرت العادة بالإعارة من أجله وفي مسألتنا يحتاج إلى القراءة في الكتب والتحفظ منها والنسخ والسماع منها والرواية وغير ذلك من الانتفاع المقصود المحتاج إليه .
فصل : ولا تجوز إجارة المسلم للذمي لخدمته نص عليه أحمد في رواية الأثرم فقال : إن أجر نفسه من الذمي في خدمته لم يجز وإن كان في عمل شيء جاز وهذا أحد قولي الشافعي وقال في الآخر : تجوز لأنه تجوز له إجارة نفسه في غير الخدمة فجاز فيها كإجارته من المسلم .
ولنا أنه عقد يتضمن حبس المسلم عند الكافر وإذلاله له واستخدامه أشبه البيع يحققه أن عقد الإجارة للخدمة يتعين فيه حبسه مدة الإجارة واستخدامه والبيع لا يتعين فيه ذلك فإذا منع منه فلان يمنع من الإجارة أولى فأما من أجر نفسه منه في عمل معين في الذمة كخياطة ثوب وقصارته جاز بغير خلاف نعلمه لأن عليا Bه أجر نفسه من يهودي يسقي له كل دلو بتمرة وأخبر النبي A بذلك فلم ينكره وكذلك الأنصاري ولأنه عقد معاوضة لا يتضمن إذلال المسلم ولا استخدامه أشبه مبايعته وإن أجر نفسه منه لعمل غير الخدمة مدة معلومة جاز أيضا في ظاهر كلام أحمد لقوله في رواية الأثرم وإن كان في عمل شيء جاز .
ونقل عنه أحمد بن سعيد : لا بأس أن يؤجر نفسه من الذمي وهذا مطلق في نوعي الإجارة وذكر بعض أصحابنا أن ظاهر كلام أحمد منع ذلك وأشار إلى ما رواه الأثرم واحتج بأنه عقد يتضمن حبس المسلم أشبه البيع والصحيح ما ذكرنا وكلام أحمد إنما يدل على خلاف ما قاله فإنه خص المنع بالإجارة للخدمة وأجاز إجارته للعمل وهذا إجارة للعمل ويفارق البيع فإن فيه إثبات الملك على المسلم ويفارق إجارته للخدمة لتضمنها الإذلال .
فصل : نقل إبراهيم الحربي عن أحمد أنه سئل عن الرجل يكتري الديك يوقظه لوقت الصلاة لا يجوز وذلك لأن ذلك يقف على فعل الديك ولا يمكن استخراج ذلك منه بضرب ولا غيره وقد يصيح وقد لا يصيح وربما صاح بعد الوقت .
فصل : القسم الرابع : القرب الذي يختص فاعلها بكونه من أهل القربة يعني أنه يشترط كونه مسلما كالإمامة والأذان والحج وتعليم القرآن نص عليه أحمد وبه قال عطاء و الضحاك بن قيس و أبو حنيفة و الزهري وكره الزهري و إسحاق تعليم القرآن بأجر .
وقال عبد الله بن شقيق : هذه الرغف التي يأخذها المعلمون من السحت وممن كره أجرة التعليم مع الشرط الحسن و ابن سيرين و طاوس و الشعبي و النخعي وعن أحمد رواية أخرى يجوز ذلك حكاها أبو الخطاب .
ونقل أبو طالب عن أحمد أنه قال : التعليم أحب إلي من أن يتوكل لهؤلاء السلاطين ومن أن يتوكل لرجل من عامة الناس في ضيعة ومن أن يستدين ويتجر لعله لا يقدر على الوفاء فيلقى الله تعالى بأمانات الناس التعليم أحب إلي وهذا يدل على أن منعه منافي موضع منعه للكراهة لا للتحريم .
وممن أجاز ذلك مالك و الشافعي ورخص في أجوز المعلمين أبو قلابة و أبو ثور و ابن المنذر لأن رسول الله A زوج رجلا بما معه من القرآن متفق عليه وإذا جاز تعليم القرآن عوضا في باب النكاح وقام مقام المهر جاز أخذ الأجرة عليه في الإجارة وقد قال رسول الله A : [ أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله ] حديث صحيح وثبت [ أن أبا سعيد رقى رجلا بفاتحة الكتاب على جعل فبرأ وأخذ أصحابه الجعل فأتوا به رسول الله A فأخبروه وسألوه فقال : لعمري لمن أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حق كلوا واضربوا لي معكم بسهم ] وإذا جاز أخذ الجعل جاز أخذ الأجر لأنه في معناه ولأنه يجوز أخذ الرزق عليه من بيت المال فجاز أخذ الأجر عليه كبناء المساجد والقناطر ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك فإنه يحتاج إلى الاستنابة في الحج عمن وجب عليه الحج وعجز عن فعله ولا يكاد يوجد متبرع بذلك فيحتاج إلى بذل الأجر فيه ووجه الرواية الأولى ما روى عثمان بن أبي العاص قال : إن آخر ما عهد إلي النبي A أن أتخذ مؤذنا لا يأخذ عن أذانه أجرا قال الترمذي : هذا حديث حسن وروى عبادة بن الصامت قال : [ علمت ناسا من أهل الصفة القرآن والكتابة فأهدى إلي رجل منهم قوسا قال : قلت قوس وليست بمال قال : قلت أتقلدها في سبيل الله فذكرت ذلك للنبي A وقص عليه القصة قال : إن سرك أن يقلدك الله قوسا من نار فاقبلها ] وعن [ أبي بن كعب أنه علم رجلا سورة من القرآن فأهدى إليه خميصة أو ثوبا فذكر ذلك للنبي A فقال : لو أنك لبستها أو أخذتها ألبسك الله مكانها ثوبا من نار ] وعن [ أبي قال : كنت أختلف إلى رجل مسن قد أصابته علة قد احتبس في بيته أقرئه القرآن فكان عند فراغه مما أقرئه يقول لجارية له : هلمي بطعام أخي فيؤتى بطعام لا آكل مثله بالمدينة فحاك في نفسي منه شيء فذكرته للنبي A فقال : إن كان ذلك الطعام طعامه وطعام أهله فكل منه وإن كان يتحفك به فلا تأكله ] وعن عبد الرحمن بن شبل الأنصاري قال : [ سمعت رسول الله A يقول : اقرئوا القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به ] روى هذه الأحاديث كلها الأثرم في سننه ولأن من شرط صحة هذه الأفعال كونها قربة إلى الله تعالى فلم يجز أخذ الأجر عليها كما لو استأجر قوما يصلون خلفه الجمعة أو التراويح فأما الأخذ على الرقية فإن أحمد اختار جوازه وقال : لا بأس وذكر حديث أبي سعيد والفرق بينه وبين ما اختلف فيه أن الرقية نوع مداواة والمأخوذ عليها جعل والمداواة يباح أخذ الأجر عليها والجعالة أوسع من الإجارة ولهذا تجوز مع جهالة العمل والمدة وقوله عليه السلام : [ أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله ] يعني به الجعل أيضا في الرقية لأنه ذكر ذلك أيضا في سياق خبر الرقية وأما جعل التعليم صداقا ففيه اختلاف وليس في الخبر تصريح بأن التعليم صداق إنما قال [ زوجتكها على ما معك من القرآن ] فيحتمل أنه زوجه إياها بغير صداق إكراما له كما زوج أبا طلحة أم سليم على إسلامه ونقل عنه جوازه والفرق بين المهر والأجر أن المهر ليس بعوض محض وإنما وجب نحلة ووصلة ولهذا جاز خلو العقد عن تسميته وصح مع فساده بخلاف الأجر في غيره فأما الرزق من بيت المال فيجوز على ما يتعدى نفعه من هذه الأمور لأن بيت المال لمصالح المسلمين فإذا كان بذله لمن يتعدى نفعه إلى المسلمين محتاجا إليه كان من المصالح وكان للآخذ له أخذه لأنه من أهله وجرى مجرى الوقف على من يقوم بهذه المصالح بخلاف الأجر .
فصل : فإن أعطى المعلم شيئا من غير شرط فظاهر كلام أحمد جوازه قال فيما نقل عنه أيوب بن سافري لا يطلب ولا يشارط فإن أعطي شيئا أخذه وقال في رواية أحمد بن سعيد : أكره أجر المعلم إذا شرط وقال : إذا كان المعلم لا يشارط ولا يطلب من أحد شيئا إن أتاه شيء قبله كأنه يراه أهون وكرهه طائفة من أهل العلم لما تقدم من حديث القوس والخميصة اللتين أعطيهما أبي وعبادة من غير شرط ولأن ذلك قربة فلم يجز أخذ العوض عنها لا بشرط ولا بغيره كالصلاة والصيام ووجه الأول قول النبي A : [ ما أتاك من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف نفس فخذه وتموله فإنه رزق ساقه الله إليك ] وقد أرخص النبي A لأبي في أكل طعام الذي كان يعمله إذا كان طعامه وطعام أهله ولأنه إذا كان بغير شرط كان هبة مجردة فجاز كما لو لم يعلمه شيئا فأما حديث القوس والخميصة فقضيتان في عين فيحتمل أن النبي A علم أنهما فعلا ذلك لله خالصا فكره أخذ العوض عنه من غير الله تعالى ويحتمل غير ذلك وإن أعطي المعلم أجرا على تعليم الصبي الخط وحفظه جاز نص عليه أحمد فقال : إن كان المعطي ينوي أن يعطيه لحفظ الصبي وتعليمه فأرجو إذا كان كذا ولأن هذا مما يجوز أخذ الأجر عليه مفردا فجاز مع غيره كسائر ما يجوز الاستئجار عليه وهكذا لو كان إمام المسجد قيما له يسرج قناديله ويكنسه ويغلق بابه ويفتحه فأخذ أجرا على خدمته أو كان النائب في الحج يخدم المستنيب له في طريق الحج ويشد له ويرفع حمله ويحج عن أبيه فدفع له أجرا لخدمته لم يمتنع ذلك إن شاء الله تعالى .
فصل : وما لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة كتعليم الخط والحساب والشعر المباح وأشباهه وبناء المساجد والقناطر جاز أخذ الأجر عليه لأنه يقع تارة قربة وتارة غير قربة فلم يمنع من الاستئجار لفعله كغرس الأشجار وبناء البيوت وكذلك في تعليم الفقه والحديث وأما ما لا يتعدى نفعه فاعله من العبادات المحضة كالصيام وصلاة الإنسان لنفسه وحجه عن نفسه وأداء زكاة نفسه فلا يجوز أخذ الأجر عليها بغير خلاف لأن الأجر عوض الانتفاع ولم يحصل لغيره ههنا انتفاع فأشبه إجارة الأعيان التي لا نفع فيها