مسألة وفصول : جواز استئجار الطبيب والختان والجمام والكحال وسقوط الضمان عنهم .
مسألة : قال : ولا ضمان على حجام ولا ختان ولا متطبب إذا عرف منهم حذق الصنعة ولم تجن أيديهم : .
وجملته أن هؤلاء إذا فعلوا ما أمروا به لم يضمنوا بشرطين أحدهما : أن يكونوا ذوي حذق في صناعتهم ولهم بها بصارة ومعرفة لأنه إذا لم يكن كذلك لم يحل له مباشرة القطع وإذا قطع مع هذا كان فعلا محرما فيضمن سرايته كالقطع ابتداء الثاني : أن لا تجني أيديهم فيتجاوزوا ما ينبغي أن يقطع فإذا وجد هذان الشرطان لم يضمنوا لأنهم قطعوا قطعا مأذونا فيه فلم يضمنوا سرايته كقطع الإمام يد السارق أو فعل فعلا مباحا مأذونا في فعله أشبه ما ذكرنا فأما إن كان حاذقا وجنت يده مثل أن تجاوز قطع الختان إلى الحشفة أو إلى بعضها أو قطع في غير محل القطع أو يقطع السلعة من إنسان فيتجاوزها أو يقطع بآلة كالة يكثر ألمها أو في وقت لا يصلح القطع فيه وأشباه هذا ضمن فيه كله لأنه إتلاف لا يختلف ضمانه بالعمد والخطأ فأشبه إتلاف المال ولأن هذا فعل محرم فيضمن سرايته كالقطع ابتداء وكذلك الحكم في النزاع والقاطع في القصاص وقاطع يد السارق وهذا مذهب الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافا .
فصل : وإن ختن صبيا بغير إذن وليه أو قطع سلعة من إنسان بغير إذنه أو من صبي بغير إذن وليه فسرت جنايته ضمن لأنه قطع غير مأذون فيه وإن فعل ذلك الحاكم أو من له ولاية عليه أو فعله من أذنا له لم يضمن لأنه مأذون فيه شرعا .
فصل : ويجوز الاستئجار على الختان والمداواة وقطع السلعة لا نعلم فيه خلافا ولأنه فعل يحتاج إليه مأذون فيه شرعا فجاز الاستئجار عليه كسائر الأفعال المباحة .
فصل : ويجوز أن يستأجر حجاما ليحجمه وأجره مباح وهذا اختيار أبي الخطاب وهذا قول ابن عباس قال : أنا آكله وبه قال عكرمة والقاسم وأبو جعفر ومحمد بن علي بن الحسين وربيعة ويحيى الأنصاري و مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وقال القاضي : لا يباح أجر الحجام وذكر أن أحمد نص عليه في مواضع وقال : أعطي شيئا من غير عقد ولا شرط فله أخذه ويصرفه في علف دوابه وطعمة عبيده ومؤنة صناعته ولا يحل له أكله وممن كره كسب الحجام عثمان وأبو هريرة والحسن و النخعي وذلك لأن النبي A قال : [ كسب الحجام خبيث ] رواه مسلم وقال : [ أطعمه ناضحك ورقيقك ] .
ولنا ما روى ابن عباس قال : [ احتجم النبي A وأعطى الحجام أجره ولو علمه حراما لم يعطه ] متفق عليه وفي لفظ لو علمه خبيثا لم يعطه ولأنها منفعة مباحة لا يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة فجاز الاستئجار عليها كالبناء والخياطة ولأن بالناس حاجة إليها ولا نجد كل أحد متبرعا بها فجاز الاستئجار عليها كالرضاع وقول النبي A في كسب الحجام : [ أطعمه رقيقك ] دليل على إباحة كسبه إذ غير جائز أن يطعم رقيقه ما يحرم أكله فإن الرقيق آدميون يحرم عليهم ما حرمه الله تعالى كما يحرم على الأحرار وتخصيص ذلك بما أعطيه من غير استئجار بحكم لا دليل عليه وتسميته كسبا خبيثا لا يلزم منه التحريم فقد سمى النبي A الثوم والبصل خبيثين مع إباحتهما .
وإنما كره النبي A ذلك للحر تنزيها لدناءة هذه الصناعة وليس عن أحمد نص في تحريم كسب الحجام ولا الاستئجار عليها وإنما قال نحن نعطيه كما أعطى النبي A ونقول : له كما [ قال النبي A لما سئل عن أكله نهاه وقال : أعلفه الناضح والرقيق ] وهذا معنى كلامه في جميع الروايات وليس هذا صريحا في تحريمه بل فيه دليل على إباحته كما في قول النبي A وفعله على ما بينا وإن إعطاءه للحجام دليل على إباحته إذ لا يعطيه ما يحرم عليه وهو عليه السلام يعلم الناس وينهاهم عن المحرمات فكيف يعطيهم إياها ويمكنهم منها وأمره بإطعام الرقيق منها دليل على الإباحة فيتعين حمل نهيه عن أكلها على الكراهة دون التحريم وكذلك قول الإمام أحمد : فإنه لم يخرج عن قول النبي A وفعله وإنما قصد اتباعه A وكذلك سائر من كرهه من الأئمة يتعين حمل كلامهم على هذا ولا يكون في المسألة قائل بالتحريم وإذا ثبت هذا فإنه يكره للحر أكل كسب الحجام ويكره تعلم صناعة الحجامة وإجارة نفسه لها لما فيها من الإخبار ولأن فيها دناءة فكره الدخول فيها كالكسح وعلى هذا يحمل قول الأئمة الذين ذكرنا عنهم كراهتها جمعا بين الأخبار الواردة فيها وتوفيقا بين الأدلة الدالة عليها والله أعلم .
فصل : فأما استئجار الحجام لغير الحجامة كالفصد وحلق الشعر وتقصيره والختان وقطع شيء من الجسد للحاجة إليه فجائز لأن قول النبي A : [ كسب الحجام خبيث ] يعني بالحجامة كما نهى عن مهر البغي أي في البغاء وكذلك لو كسب بصناعة أخرى لم يكن خبيثا بغير خلاف وهذا النهي مخالف للقياس مختص بالمحل الذي ورد فيه ولأن هذه الأمور تدعو الحاجة إليها ولا تحريم فيها فجازت الإجارة فيها وأخذ الأجر عليها كسائر المنافع المباحة .
فصل : ويجوز أن يستأجر كحالا ليكحل عينه لأنه عمل جائز ويمكن تسليمه ويحتاج أن يقدر ذلك بالمدة لأن العمل غير مضبوط فيقدر به ويحتاج إلى بيان قدر ما يكحله مرة في كل يوم أو مرتين فأما إن قدرها بالبرء فقال القاضي لا يجوز لأنه غير معلوم .
وقال ابن أبي موسى لا بأس بمشارطة الطبيب على البرء لأن أبا سعيد حين رقى الرجل شارطه على البرء والصحيح إن شاء الله أن هذا يجوز لكن يكون جعالة لا إجارة : فإن الإجارة لا بد فيها من مدة أو عمل معلوم فأما الجعالة فتجوز على عمل مجهول كرد اللقطة والآبق وحديث أبي سعيد في الرقية إنما كان جعالة فيجوز ههنا مثله إذا ثبت هذا فإن الكحل إن كان من العليل جاز لأن آلات العمل تكون من المستأجر كاللبن في البناء والطين والآجر ونحوها وإن شارطه على الكحل جاز وقال القاضي : يحتمل أن لا يجوز لأن الأعيان لا تملك بعقد الإجارة فلا يصح اشتراطه على العامل كلبن الحائط .
ولنا أن العادة جارية ويشق على العليل تحصيله وقد يعجز عنه بالكلية فجاز ذلك كالصبغ من الصباغ واللبن في الرضاع والحبر والأقلام من الوراق وما ذكروه ينتقض بهذه الأصول وفارق لبن الحائط لأن العادة تحصيل المستأجر له ولا يشق ذلك بخلاف مسألتنا وقال أصحاب مالك : يجوز أن يستأجره ليبني له حائطا والآجر من عنده لأنه اشترط ما تتم به الصنعة التي عقد عليها فإذا كان مباحا معروفا جاز كما لو استأجره ليصنع ثوبا والصبغ من عنده .
ولنا أن عقد الإجارة عقد على المنفعة فإذا شرط فيه بيع العين صار كبيعتين في بيعة ويفارق الصبغ وما ذكرنا من الصورة التي جاز فيها ذلك من حيث إن الحاجة داعية إليه لأن تحصيل الصبغ يشق على صاحب الثوب وقد يكون الصبغ لا يحصل إلا في حيث يحتاج إلى مؤنة كثيرة لا يحتاج إليها في صبغ هذا الثوب فجاز لمسيس الحاجة إليه بخلاف مسألتنا .
فصل : وإذا استأجره مدة فكحله فيها فلم تبرأ عينه استحق الأجر وبه قال الجماعة وحكي عن مالك : أنه لا يستحق أجرا حتى تبرأ عينه ولم يحك ذلك أصحابه وهو فاسد لأن المستأجر قد وفى العمل الذي وقع العقد عليه فوجب له الأجر وإن لم يحصل الغرض كما لو استأجره لبناء حائط يوما أو لخياطة قميص فلم يتمه فيه وإن برئت عينه في أثناء المدة انفسخت الإجارة فيما بقي من المدة لأنه قد تعذر العمل فأشبه ما لو حج عنه أمر غالب وكذلك لو مات فإن امتنع من الاكتحال مع بقاء المرض استحق الكحال الأجر بمضي المدة كما لو استأجره يوما للبناء فلم يستعمله فيه فأما إن شارطه على البرء فإنه يكون جعالة فلا يستحق شيئا حتى يوجد البرء سواء وجد قريبا أو بعيدا فإن برئ بغير كحله أو تعذر الكحل لموته أو غير ذلك من الموانع التي من جهة المستأجر فله أجر مثله كما لو عمل العامل في الجعالة ثم فسخ العقد وإن امتنع لأمر من جهة الكحال أو غير الجاعل فلا شيء له وإن فسخ الجاعل الجعالة بعد عمل الكحال فعليه أجر عمله فإن فسخ الكحال فلا شيء له لأنها جعالة فثبت فيها ما ذكرناه .
فصل : ويجوز أن يستأجر طبيبا ليداويه والكلام فيه كالكلام في الكحال سواء إلا أنه لا يجوز اشتراط الدواء على الطبيب لأن ذلك إنما جاز في الكحال على خلاف الأصل للحاجة إليه وجري العادة به فلم يوجد ذلك المعنى ههنا فثبت الحكم فيه على وفق الأصل والله أعلم .
فصل : ويجوز أن يستأجر من يقلع ضرسه لأنها منفعة مباحة مقصودة فجاز الاستئجار على فعلها كالختان فإن أخطأ فقلع غير ما أمر بقلعه ضمنه لأنه من جنايته وإن برأ الضرس قبل قلعه انفسخت الإجارة لأن قلعه لا يجوز وإن لم يبرأ لكن امتنع المستأجر من قلعه لم يجبر عليه لأن إتلاف جزء من الآدمي محرم في الأصل وإنما أبيح إذا صار بقاؤه ضررا وذلك مفوض إلى كل إنسان في نفسه إذا كان أهلا لذلك وصاحب الضرس أعلم بمضرته ومنفعته وقدر المدة .
فصل : ومن استؤجر على عمل موصوف في الذمة كخياطة أو بناء أو قلع ضرس فبذل الأجير نفسه للعمل فلم يمكنه المستأجر لم تستقر الأجرة بذلك لأنه عقد على المنفعة من غير تقدير فلم يستقر بدلها بالبذل كالصداق لا يستقر ببذل المرأة نفسها ويفارق حبس الدابة مدة الإجارة لأن المنافع تلفت تحت يده بخلاف مسألتنا