مسألة وفصول : الكراء للحمل وما ينبغي للمكري والمكتري معرفته وكراء العقب وصنعة الطريق .
مسألة : قال : ومن اكترى إلى مكة فلم ير الجمال الراكبين والمحامل والأغطية والأوطئة لم يجز الكراء : .
أجمع أهل العلم على إجازة كراء الإبل إلى مكة وغيرها وقد قال الله تعالى { والخيل والبغال والحمير لتركبوها } ولم يفرق بين المملوكة والمكتراة وروي عن ابن عباس في قوله تعالى { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } أن تحج وتكري ونحوه عن ابن عمر ولأن بالناس حاجة إلى السفر وقد فرض الله تعالى عليهم الحج وأخبر أنهم يأتون رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق وليس لكل أحد بهيمة يملكها ولا يقدر على معاناتها والقيام بها والشد عليها فدعت الحاجة إلى استئجارها فجاز دفعا للحاجة إذا ثبت هذا فمن شرط صحة العقد معرفة المتعاقدين ما عقدا عليه لأنه عقد معاوضة محضة فكان من شرطه المعرفة للمعقود عليه كالبيع فأما الجمال فيحتاج إلى معرفة الراكبين والآلة التي يركبون فيها من محمل أو مجارة وغيرها ويحتاج إلى معرفة الوطاء الذي يوطأ به المحمل والمعاليق التي معه من قربة وسطيحة وسفرة ونحوها وذكر سائر ما يحمل معه وبهذا قال الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر إلا أن الشافعي قال : يجوز إطلاق غطاء المحمل لأنه لا يختلف اختلافا متباينا وحكي عنه في المعاليق قول أنه يجوز إطلاقها وتحمل على العرف وحكي عن مالك أنه يجوز إطلاق الراكبين لأن أجسام الناس متقاربة في الغالب وقال أبو حنيفة : إذا قال في المحمل رجلان وما يصلحهما من الوطاء والدثر جاز استحسانا لأن ذلك يتقارب في العادة فحمل على العادة كالمعاليق وقال القاضي في غطاء المحمل كقول الشافعي .
ولنا أن هذا يختلف ويتباين كثيرا فاشترطت معرفته كالطعام الذي يحمل معه وقولهم : إن أجسام الناس متقاربة لا يصح فإن منهم الكبير والصغير والطويل والقصير والسمين والهزيل والذكر والأنثى ويختلفون بذلك ويتباينون كثيرا ويتفاوتون أيضا في المعاليق فمنهم من يكثر الزاد والحوائج ومنهم من يقنع باليسير ولا عرف له يرجع إليه فاشترطت معرفته كالمحمل والأوطئة وكذلك غطاء المحمل من الناس من يختار الواسع الثقيل الذي يشتد على الحمل في الهواء ومنهم من يقنع بالضيق الخفيف فتجب معرفته كسائر ما ذكرنا .
وأما المستأجر فيحتاج إلى معرفة الدابة التي يركب عليها لأن الغرض يختلف بذلك وتحصل بأحد أمرين إما بالرؤية فيكتفي بها لأنها أعلى طرق العلم إلا أن يكون مما يحتاج إلى معرفة صفة المسمى فيه كالرهوال وغيره فإما أن يجربه فيعلم ذلك برؤيته وإما أن يصفه وإما بالصفة فإذا وجدت اكتفي بها لأنه يمكن ضبطه بالصفة فجاز العقد عليه كالبيع وإذا استأجر بالصفة للركوب احتاج إلى ذكر الجنس فيقول إبل أو خيل أو بغال أو حمير والنوع فيقول بختي أو عرابي وفي الخيل عربي أو برذون وفي الحمير مصري أو شامي وإن كان في النوع ما يختلف كالمهملج من الخيل والقطوف احتيج إلى ذكره وذكر القاضي أنه يحتاج إلى معرفة الذكورية والأنوثية وهو مذهب الشافعي لأن الغرض يختلف بذلك فإن الأنثى أسهل والذكر أقوى ويحتمل أنه لا يحتاج إلى معرفة ذلك لأن التفاوت فيه يسير ومتى كان الكراء إلى مكة فالصحيح أنه لا يحتاج إلى ذكر الجنس ولا النوع لأن العادة أن الذي يحمل عليه في طريق مكة إنما هو الجمال العراب دون البخاتي .
فصل : وإذا كان الكراء إلى مكة أو طريق لا يكون السير فيه إلى اختيار المتكاريين فلا وجه لذكر تقدير السير فيه لأن ذلك ليس إليهما ولا مقدور عليه لهما وإن كان في طريق السير فيه إليهما استحب ذكر قدر السير في كل يوم فإن أطلق وللطريق منازل معروفة جاز العقد عليه مطلقا لأنه معلوم بالعرف ومتى اختلفا في ذلك وفي ميقات السير ليلا أو نهارا أو في موضع المنزل إما في داخل البلد أو خارج منه حملا على العرف كما لو أطلقا الثمن في بلد فيه نقد معروف وإن لم يكن للطريق عرف وأطلقا العقد فقال القاضي : لا يصح كما لو أطلقا الثمن في بلد لا عرف فيه والأولى أن هذا ليس بشرط لأنه لو كان شرطا لما صح العقد بدونه في الطريق المخوف ولأنه لم تجز العادة بتقدير السير في طريق ومتى اختلفا رجع إلى العرف في غير تلك الطريق .
فصل : وإن اشترط حمل زاد مقدر كمائة رطل نظرنا فإن شرط أنه يبدل منها ما نقص بالأكل أو غيره فله ذلك وإن شرط أن ما نقص بالأكل لا يبدله لم يكن له إبداله فإن ذهب بغير الأكل كسرقة أو سقوط فله إبداله لأن ذلك لم يدخل في شرطه وإن أطلق العقد فله إبدال ما ذهب بسرقة أو سقوط أو أكل غير معتاد بغير خلاف وإن نقص بالأكل المعتاد فله إبداله أيضا لأنه استحق حمل مقدار معلوم فملك إبدال ما نقص منه كما لو نقص بسرقة ويحتمل أنه لا يملك إبداله لأن العرف جار بأن الزاد ينقص فلا يبدل فحمل العقد عند الإطلاق على العرف وصار كالمصرح به وقال الشافعي : القياس أن له إبداله ولو قيل : ليس له إبداله كان مذهبا لأن العادة أن الزاد لا يبقى جميع المسافة ولذلك يقل أجره عن أجر المتاع .
فصل : وإذا اكترى جملا ليحج عليه فله الركوب عليه إلى مكة ومن مكة إلى عرفة والخروج عليه إلى منى لأنه من تمام الحج وقيل ليس له الركوب إلى منى لأنه بعد التحلل من الحج والأولى أن له ذلك لأنه من تمام الحج وتوابعه ولذلك وجب على من وجب عليه دون غيره فدخل في قول الله تعالى { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } ومن اكترى إلى مكة فقط فليس له الركوب إلى الحج لأنها زيادة ويحتمل أن له ذلك لأن الكراء إلى مكة عبارة عن الكراء للحج لكونها لا يكترى إليها إلا للحج غالبا فكان بمنزلة المكتري للحج .
فصل : فيما يلزم المكري والمكتري للركوب يلزم المكري كل ما جرت العادة أن يوطأ به المركوب للراكب من الحداجة للجمل والقتب والزمام الذي يقاد به البعير والبرة التي في أنف البعير إن كانت العادة جارية بينهم بها وإن كان فرسا فاللجام والسرج وإن كان بغلا أو حمارا فالبرذعة والأكاف لأن هذا هو العرف فحمل الإطلاق عليه وعلى المكتري ما يزيد على ذلك كالمحمل والمحارة والحبل الذي يشد به بين المحملين أو المحارتين لأن ذلك من مصلحة المحمل والوطاء الذي يشد فوق الحداجة تحت الحمل وعلى المكري رفع المحمل على الجمل ورفع الأحمال وشدها وحطها لأن هذا هو العرف وبه يتمكن من الركوب ويلزمه القائد والسائق هذا إذا كان الكراء على أن يذهب مع المكتري وإن كان على أن يتسلم الراكب البهيمة يركبها لنفسه فكل ذلك عليه لأن الذي على المكري تسليم البهيمة وقد سلمها فأما الدليل فهو على المكتري لأن ذلك خارج عن البهيمة المكتراة وآلتها فلم يلزمه كالزاد وقيل : إن كان اكترى منه بهيمة بعينها فأجرة الدليل على المكتري لأن الذي عليه أن يسلم الظهر وقد سلمه وإن كانت على حمله إلى مكان معين في الذمة فهو على المكري لأنه من مؤنة إيصاله إليه وتحصيله فيه .
فصل : وإذا كان الراكب ممن لا يقدر على الركوب والبعير قائم كالمرأة والشيخ والضعيف والسمين وشبههم فعلى الجمال أن يبرك الجمل لركوبه ونزوله لأنه لا يتمكن من الركوب والنزول إلا به وإن كان ممن يمكنه الركوب والنزول والبعير قائم لم يلزم الجمال أن يبرك له الجمل لأنه يمكن استيفاء المعقود عليه بدون هذه الكلفة وإن كان قويا حال العقد فضعف في أثنائه أو ضعيفا فقوي فالاعتبار بحال الركوب لأن العقد اقتضى ركوبه بحسب العادة ويلزم الجمال أن يقف البعير لينزل لصلاة الفريضة وقضاء حاجة الإنسان وطهارته ويدع البعير واقفا حتى يفعل ذلك لأنه لا يمكنه فعل شيء من هذا على ظهر البعير وما أمكنه فعله عليه من الأكل والشرب وصلاة النافلة من السنن وغيرها لم يلزمه أن يبركه له ولا يقف عليه من أجله وإن أراد المكتري إتمام الصلاة وطالبه الجمال بقصرها لم يلزمه ذلك بل تكون خفيفة في تمام ومن اكترى بعيرا لإنسان يركبه لنفسه وسلمه إليه لم يلزمه سوى ذلك لأنه وفى له بما عقد عليه فلم يلزمه شيء سواه .
فصل : وإذا اكترى ظهرا في طريق العادة فيه النزول والمشي عند اقتراب المنزل والمكتري امرأة أو ضعيف لم يلزمه النزول لأنه اكتراه جميع الطريق ولم تجر له عادة بالمشي فلزم حمله في جميع الطريق كالمتاع وإن كان جلدا قويا ففيه وجهان أحدهما : لا يلزمه النزول أيضا لأنه عقد على جميع الطريق فلا يلزمه تركه في بعضها كالضعيف والثاني : يلزمه لأنه متعارف والمتعارف كالمشروط .
فصل : وإن هرب الجمال في بعض الطريق أو قبل الدخول فيها لم يخل من حالين أحدهما : أن يهرب بجماله فينظر فإن لم يجد المستأجر حاكما أو وجد حاكما لم يمكن إثبات الحال عنده أو أمكن الإثبات عنده ولا يحصل له ما يكتري به ما يستوفي حقه منه فللمستأجر فسخ الإجارة لأنه تعذر عليه قبض المعقود عليه فأشبه ما لو أفلس المشتري أو انقطع المسلم فيه عند محله فإن فسخ العقد وكان الجمال قد قبض الأجر كان دينا في ذمته وإن اختار المقام على العقد وكانت الإجارة على عمل في الذمة فله ذلك ومتى قدر على الجمال طالبه به وإن كان العقد على مدة انقضت في هربه انفسخ العقد بذلك وإن أمكنه إثبات الحال عند الحاكم وكان العقد على موصوف غير معين لم ينفسخ العقد ويرفع الأمر إلى الحاكم ويثبت عنده حاله فينظر الحاكم فإن وجد للجمال مالا اكترى به له وإن لم يجد له مالا وأمكنه أن يقترض على الجمال من بيت المال أو من غيره ما يكتري له به فعل فإن دفع الحاكم المال إلى المكتري ليكتري لنفسه به جاز في ظاهر كلام أحمد وإن اقترض عليه من المكتري ما يكري به جاز وصار دينا في ذمة الجمال وإن كان العقد على معين لم يجز إبداله ولا اكتراء غيره لأن العقد تعلق بعينه فيتخير المكتري بين الفسخ أو البقاء إلى أن يقدر عليه فيطالبه بالعمل .
الحال الثاني : إذا هرب الجمال فترك جماله فإن المكتري يرفع الأمر إلى الحاكم فإن وجد للجمال مالا استأجر به من يقوم مقام الجمال في الإنفاق على الجمال والشد عليها وحفظها وفعل ما يلزم الجمال فعله فإن لم يجد له غير الجمال وكان فيها فضلة عن الكراء باع بقدر ذلك وإن لم يكن فيها فضل أو لم يمكن بيعه اقترض عليه الحاكم كما قلنا وإن أدان من المكتري وأنفق جاز وإن أذن للمكتري في الإنفاق من ماله بالمعروف ليكون دينا على الجمال جاز لأنه موضع حاجة وإذا رجع الجمال واختلفا فيما أنفق نظرنا فإن كان الحاكم قدر له ما ينفق قبل قوله في قدر ذلك وما زاد لا يحتسب به وإن لم يقدر له قبل قوله في قدر النفقة بالمعروف لأنه أمين وما زاد لا يرجع به لأنه متطوع به وإذا وصل المكتري رفع الأمر إلى الحاكم ففعل ما يرى الحظ فيه من بيع الجمال فيوفى عن الجمال ما لزمه من الدين للمكتري أو لغيره ويحفظ باقي الثمن له وإن رأى بيع بعضها وحفظ باقيها والإنفاق على الباقي من ثمن ما باع جاز وإن لم يجد حاكما أو عجز عن استدانة فله أن ينفق عليها ويقيم مقام الجمال فيما يلزمه فإن فعل ذلك متبرعا لم يرجع بشيء وإن نوى الرجوع وأشهد على ذلك رجع به لأنه حال ضرورة وهذا أحد الوجهين للشافعي وإن لم يشهد ونوى الرجوع ففي الرجوع وجهان أحدهما : يرجع به لأن ترك الجمال مع العلم بأنها لا بد لها من نفقة إذن في الإنفاق والثاني : لا يرجع به لأنه يثبت لنفسه حقا على غيره وكذلك إن لم يجد من يشهده فأنفق محتسبا بالرجوع وقياس المذهب أن له الرجوع لقولنا يرجع بما أنفق على الآبق وعلى عيال الغائب وزوجاته والدابة المرهونة ولو قدر على استئذان الحاكم فأنفق من غير استئذانه وأشهد على ذلك ففي رجوعه وجهان أيضا وحكم موت الجمال حكم هربه وقال أبو بكر مذهب أحمد أن الموت لا يفسخ الإجارة وله أن يركبها ولا يسرف في علفها ولا يقصر ويرجع بذلك في مال المتوفى فإن لم يكن في يد المستأجر ما ينفقه لم يجز أن يبيع منها شيئا لأن البيع إنما يجوز من المالك أو من نائبه أو ممن له ولاية عليه .
فصل : قال أصحابنا : يصح كراء العقبة وهو مذهب الشافعي ومعناها الركوب في بعض الطريق يركب شيئا ويمشي شيئا لأنه إذا جاز اكتراؤها في الجميع جاز اكتراؤها في البعض ولا بد من كونها معلومة إما أن يقدرها بفراسخ معلومة وإما بالزمان مثل أن يركب ليلا ويمشي نهارا ويعتبر في هذا زمان السير دون زمان النزول وإن اتفقا على أن يركب يوما ويمشي يوما جاز فإن اكترى عقبة وأطلق احتمل أن يجوز ويحمل على العرف ويحتمل أن لا يصح لأن ذلك يختلف وليس له ضابط فيكون مجهولا وإن اتفقا على أن يركب ثلاثة أيام ويمشي ثلاثة أيام أو ما زاد ونقص جاز وإن اختلفا لم يجبر الممتنع منهما لأن فيه ضررا على كل واحد منهما : الماشي لدوام المشي عليه وعلى الجمل لدوام الركوب عليه ولأنه إذا ركب بعد شدة تعبه كان أثقل على البعير .
وإن اكترى اثنان جملا يركبانه عقبة وعقبة جاز ويكون كراؤهما طول الطريق والاستيفاء بينهما على ما يتفقان عليه وإن تشاحا قسم بينهما لكل واحد منهما فراسخ معلومة أو لأحدهما الليل وللآخر النهار وإن كان لذلك عرف رجع إليه وإن اختلفا في البادئ منهما أقرع بينهما ويحتمل أن لا يصح كراؤهما إلا أن يتفقا على ركوب معلوم لكل واحد منهما لأنه عقد على مجهول بالنسبة إلى كل واحد منهما فلم يصح كما لو اشتريا عبدين على أن لكل واحد منهما عبدا معينا منهما .
مسألة : قال : فإن رأى الراكبين أو وصفا له وذكر الباقي بأرطال معلومة فجائز : .
وجملته أن المعرفة بالوصف تقوم مقام الرؤية في الراكبين إذا وصفهما بما يختلفان به في الطول والقصر والهزال والسمن والصحة والمرض والصغر والكبر والذكورية والأنوثية والباقي يكفي فيه ذكر الوزن وقال الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب : لا بد من معرفة الراكبين بالرؤية لأنه يختلف بثقله وخفته وسكوته وحركته ولا ينضبط بالوصف فيجب تعيينه وهذا مذهب الشافعي ولهم في المحمل وجه أنه لا تكفي فيه الصفة ويجب تعيينه .
ولنا أنه عقد معاوضة مضاف إلى حيوان فاكتفي فيه بالصفة كالبيع وكالمركوب في الإجارة ولأنه لو لم يكتف فيه بالصفة لما جاز للراكب أن يقيم غيره مقامه لأنه إنما يعلم كونه مثله لتساويهما في الصفات فما لا تأتي عليه الصفات لا يعلم التساوي فيه ولأن الوصف يكتفي به في البيع فاكتفى به في الإجارة كالرؤية والتفاوت بعد ذكر الصفات الظاهرة يسير تجري المسامحة فيه كالمسلم فيه