مسألة وفصول : تحديد مدة الإجارة بأجرة معلومة وأحكامها الستة .
مسألة : قال : وإذا وقعت الإجارة على مدة معلومة بأجرة معلومة فقد ملك المستأجر المنافع وملكت عليه الأجرة كاملة في وقت العقد إلا أن يشترطا أجلا .
هذه المسألة تدل على أحكام ستة أحدها : أن المعقود عليه المنافع وهذا قول أكثر أهل العلم منهم : مالك و أبو حنيفة وأكثر أصحاب الشافعي وذكر بعضهم أن المعقود عليه العين لأنها الموجودة والعقد يضاف إليها فيقول أجرتك داري كما يقول : بعتكها .
ولنا أن المعقود عليه هو المستوفى بالعقد وذلك هو المنافع دون الأعيان ولأن الأجر في مقابلة المنفعة ولهذا تضمن دون العين وما كان العوض في مقابلته فهو المعقود عليه وإنما أضيف العقد إلى العين لأنها محل المنفعة ومنشؤها كما يضاف عقد المساقاة إلى البستان والمعقود عليه الثمرة ولو قال : أجرتك منفعة داري جاز الثاني : أن الإجارة إذا وقعت على مدة يجب أن تكون معلومة كشهر وسنة ولا خلاف في هذا نعلمه ولأن المدة هي الضابطة للمعقود عليه المعرفة له فوجب أن تكون معلومة كعدد المكيلات فيما بيع بالكيل فإن قدر المدة بسنة مطلقة حمل على سنة الأهلة لأنها المعهودة في الشرع قال الله تعالى : { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } فوجب أن يحمل العقد عليه فإن شرط هلالية كان تأكيدا وإن قال : عددية أو سنة بالأيام كان له ثلاثمائة وستون يوما لأن الشهر العددي يكون ثلاثين يوما وإن استأجر سنة هلالية أول الهلال عد اثني عشر شهرا بالأهلة سواء كان الشهر تاما أو ناقصا لأن الشهر الهلالي ما بين الهلالين ينقص مرة ويزيد أخرى وإن كان العقد في أثناء شهر عد ما بقي من الشهر وعد بعده أحد عشر شهرا بالهلال ثم كمل الشهر الأول بالعدد ثلاثين يوما لأنه تعذر إتمامه بالهلال فتممناه بالعدد وأمكن استيفاء ما عداه بالهلال فوجب ذلك لأنه الأصل وحكي عن أحمد C رواية أخرى أنه يستوفي الجميع بالعدد لأنها مدة يستوفى بعضها بالعدد فوجب استيفاء جميعها به كما لو كانت المدة شهرا واحدا ولأن الشهر الأول ينبغي أن يكمل من الشهر الذي يليه فيحصل ابتداء الشهر الثاني في أثنائه فكذلك كل شهر يأتي بعده ول أبي حنيفة و الشافعي كالروايتين وهكذا إن كان العقد على أشهر دون السنة وإن جعلا المدة سنة رومية أو شمسية أو فارسية أو قبطية وكان يعلمان ذلك جاز وكان له ثلاثمائة وخمسة وستون يوما فإن الشهور الرومية منها سبعة أحد وثلاثون يوما وأربعة ثلاثون يوما وشهر واحد ثمانية وعشرون يوما وشهور القبط كلها ثلاثون ثلاثون وزادوها خمسة أيام لتساوي سنتهم السنة الرومية وإن كان أحدهما يجهل ذلك لم يصح لأن المدة مجهولة في حقه وإن آجره إلى العيد انصرف إلى الذي يليه وتعلق بأول جزء منه لأنه جعله غاية فتنتهي مدة الإجارة بأوله وقال القاضي لا بد من تعيين العيد فطرا أو أضحى من هذه السنة أو سنة كذا وكذلك الحكم إن علقه بشهر يقع اسمه على شهرين كجمادى وربيع يجب على قوله أن يذكر الأول أو الثاني من سنة كذا وإن علقه بشهر مفرد كرجب وشعبان فلا بد أن يبينه من أي سنة وإن علقه بيوم فلا بد على قوله أن يبينه من أي أسبوع وإن علقه بعيد من أعياد الكفار صح إذا علماه وإلا لم يصح وقد مضى نحو من هذا .
فصل : ولا يشترط في مدة الإجارة أن تلي العقد بل لو أجره سنة خمس وهما في سنة ثلاث أو شهر رجب في المحرم صح وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي : لا يصح إلا أن يستأجرها من هي في إجارته ففيه قولان : لأنه عقد على ما لا يمكن تسليمه في الحال فأشبه إجارة العين المغصوبة قال : ولا يجوز أن يكتري بعيرا بعينه إلا عند خروجه لذلك .
ولنا أن هذه مدة يجوز العقد عليها مع غيرها فجاز العقد عليها مفردة مع عموم الناس كالتي تلي العقد وإنما تشترط القدرة على التسليم عند وجوب التسليم كالمسلم فيه ولا يشترط وجوده ولا القدرة عليه حال العقد ولا فرق بين كونها مشغولة أو غير مشغولة لما ذكرناه وما ذكروه يبطل بما إذا أجرها من المكتري فإنه يصح مع ما ذكروه إذا ثبت هذا فإن الإجارة إن كانت على مدة تلي العقد لم يحتج إلى ذكر ابتدائها من حين العقد وإن كانت لا تليه فلا بد من ذكر ابتدائها لأنه أحد طرفي العقد فاحتيج إلى معرفته كالانتهاء وإن أطلق فقال : أجرتك سنة أو شهرا صح وكان ابتداؤه من حين العقد وهذا قول مالك و أبي حنيفة وقال الشافعي وبعض أصحابنا : لا يصح حتى يسمي الشهر ويذكر أي سنة هي فإن أحمد قال في رواية إسماعيل بن سعيد : إذا استأجر أجيرا شهرا فلا يجوز حتى يسمي الشهر .
ولنا قول الله تعالى إخبارا عن شعيب عليه السلام : { على أن تأجرني ثماني حجج } ولم يذكر ابتداءها ولأنه تقدير بمدة ليس فيها قربة فإذا أطلقها وجب أن تلي السبب الموجب كمدة السلم والإيلاء وتفارق النذر فإنه قربة .
فصل : ولا تتقدر أكثر مدة الإجارة بل تجوز إجارة العين المدة التي تبقى فيها وإن كثرت وهذا قول كافة أهل العلم إلا أن أصحاب الشافعي اختلفوا في مذهبه فمنهم من قال له قولان أحدهما : كقول سائر أهل العلم وهو الصحيح الثاني : لا يجوز أكثر من سنة لأن الحاجة لا تدعو إلى أكثر منها ومنهم من قال له قول ثالث : أنها لا تجوز أكثر من ثلاثين سنة لأن الغالب أن الأعيان لا تبقى أكثر منها وتتغير الأسعار والأجر .
ولنا قول الله تعالى إخبارا عن شعيب عليه السلام أنه قال : { على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك } وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يقم على نسخه دليل ولأن ما جاز العقد عليه سنة جاز أكثر منها كالبيع والنكاح والمساقاة والتقدير بسنة وثلاثين تحكم لا دليل عليه وليس ذلك أولى من التقدير بزيادة عليه أو نقصان منه وإذا استأجره سنين لم يحتج إلى تقسيط الأجر على كل سنة في ظاهر كلام أحمد كما لو استأجر سنة لم يفتقر إلى تقسيط أجر كل شهر بالاتفاق ولو استأجر شهرا لم يفتقر إلى تقسيط أجر كل يوم ولأن المنفعة كالأعيان في البيع ولو اشتملت الصفقة على أعيان لم يلزمه تقدير ثمن كل عين كذلك ههنا وقال الشافعي في أحد قوليه : كقولنا وفي الآخر يفتقر إلى تقسيط أجر كل سنة لأن المنافع تختلف باختلاف السنين فلا يأمن أن ينفسخ العقد فلا يعلم بم يرجع وهذا يبطل بالشهور فإنه لا يفتقر إلى تقسيط الأجر عليها مع الاحتمال الذي ذكروه .
فصل : والإجارة على ضربين أحدهما : أن يعقدها على مدة الثاني : أن يعقدها على عمل معلوم كبناء حائط وخياطة قميص وحمل إلى موضع معين فإذا كان المستأجر مما له عمل كالحيوان جاز فيه الوجهان لأن له عملا تتقدر منافعه به وإن لم يكن له عمل كالدار والأرض لم يجز إلا على مدة ومتى تقدرت المدة لم يجز تقدير العمل وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي : لأن الجمع بينهما يزيدها غررا لأنه قد يفرغ من العمل قبل انقضاء المدة فإن استعمل في بقية المدة فقد زاد على ما وقع عليه العقد وإن لم يعمل كان تاركا للعمل في بعض المدة وقد لا يفرغ من العمل في المدة فإن أتمه عمل في غير المدة وإن لم يعمله لم يأت بما وقع عليه العقد وهذا غرر أمكن التحرز عنه ولم يوجد مثله في محل الوفاق فلم يجز العقد معه .
وروي عن أحمد فيمن اكترى دابة إلى موضع على أن يدخله في ثلاث فدخله في ست فقال : قد أضر به فقيل : يرجع عليه بالقيمة ؟ قال : لا يصالحه وهذا يدل على جواز تقديرهما جميعا وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن لأن الإجارة معقودة على العمل والمدة مذكورة للتعجيل فلا يمتنع ذلك فعلى هذا إذا فرغ العمل قبل انقضاء المدة لم يلزمه العمل في بقيتها لأنه وفى ما عليه قبل مدته فلم يلزمه شيء آخر كما لو قضى الدين قبل أجله وإن مضت المدة قبل العمل فللمستأجر فسخ الإجارة لأن الأجير لم يف له بشرطه وإن رضي بالبقاء عليه لم يملك الأجير الفسخ لأن الإخلال بالشرط منه فلا يكون ذلك وسيلة له إلى الفسخ كما لو تعذر أداء المسلم فيه في وقته لم يملك المسلم إليه الفسخ ويملكه المسلم فإن اختار إمضاء العقد طالبه بالعمل لا غير كالمسلم إذا صبر عند تعذر المسلم فيه إلى حين وجوده لم يكن له أكثر من المسلم فيه وإن فسخ العقد قبل عمل شيء من العمل سقط الأجر والعمل وإن كان بعد عمل شيء منه فله أجر مثله لأن العقد قد انفسخ فسقط المسمى ورجع إلى أجر المثل .
فصل : ومن اكترى دابة إلى العشاء فآخر المدة إلى غروب الشمس وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة و أبو ثور : آخرها زوال الشمس لأن العشاء آخر النهار وآخر النهار النصف الآخر من الزوال ولذلك جاء في حديث ذي اليدين عن أبي هريرة Bه قال : [ صلى النبي A إحدى صلاتي العشي ] يعني الظهر أو العصر هكذا تفسيره .
ولنا قول الله تعالى : { من بعد صلاة العشاء } يعني العتمة وقال النبي A [ لولا أن أشق على أمتي لأخرت صلاة العشاء إلى ثلث الليل ] وإنما تعلق الحكم بغروب الشمس لأن هذه الصلاة تسمى العشاء الآخرة فدل على أن الأولى المغرب وهو في العرف كذلك فوجب أن يتعلق الحكم به لأن المدة إذا جعلت إلى وقت تعلقت بأوله كما لو جعلها إلى الليل وما ذكروه لا يصح لأن لفظ العشي غير لفظ العشاء فلا يجوز الاحتجاج بأحدهما على الآخر حتى يقوم دليل على أن معنى اللفطين واحد ثم لو ثبت أن معناهما واحد غير أن أهل العرف لا يعرفونه فلا يتعلق به حكم وكذلك الحكم فيما إذا اكتراها إلى العشي لأن أهل العرف لا يعرفون غير ما ذكرناه وإن اكتراها إلى الليل فهو إلى أوله وكذلك إن اكتراها إلى النهار فهو إلى أوله ويتخرج أن يدخل الليل في المدة الأولى والنهار في الثانية لما ذكرناه في مدة الخيار والأول أصح وإن اكتراها نهارا فهو إلى غروب الشمس وإن اكتراها ليلة فهي إلى طلوع الفجر في قول الجميع لأن الله تعالى قال في ليلة القدر : { سلام هي حتى مطلع الفجر } وقال تعالى { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } - ثم قال - { فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل } .
فصل : وإن اكترى فسطاطا إلى مكة ولم يقل متى أخرج فالكراء فاسد وبه قال أبو ثور : وهو قياس قول الشافعي وقال أصحاب الرأي : يجوز استحسانا بخلاف القياس .
ولنا أنها مدة غير معلومة الابتداء فلم يجز كما لو قال أجرتك داري من حين يخرج الحاج إلى آخر السنة وقد اعترفوا بمخالفته للدليل وما ادعوه دليلا لا نسلم كونه دليلا .
فصل : ( الحكم الثالث ) أنه يشترط في عوض الإجارة كونه معلوما لا نعلم في ذلك خلافا وذلك لأنه عوض في عقد معاوضة فوجب أن يكون معلوما كالثمن في البيع وقد روي عن النبي A أنه قال : [ من استأجر أجيرا فليعلمه أجره ] ويعتبر العلم بالرؤية أو بالصفة كالبيع سواء فإن كان العوض معلوما بالمشاهدة دون القدر كالصبرة احتمل وجهين أشبههما الجواز لأنه عوض معلوم يجوز به البيع فجازت به الإجارة كما لو علم قدره والثاني : لا يجوز لأنه قد ينفسخ العقد بعد تلف الصبرة فلا يدري بكم يرجع فاشترط معرفة قدره كعوض المسلم فيه والأول أولى وظاهر كلام الخرقي أن العلم بالقدر في عوض السلم ليس بشرط ثم الفرق بينهما أن المنفعة ههنا أجريت مجرى الأعيان لأنها متعلقة بعين حاضرة والسلم يتعلق بمعدوم فافترقا و للشافعي نحو مما ذكرنا في هذا الفصل .
فصل : وكل ما جاز ثمنا في البيع جاز عوضا في الإجارة لأنه عقد معاوضة أشبه البيع فعلى هذا يجوز أن يكون العوض عينا ومنفعة أخرى سواء كان الجنس واحدا كمنفعة دار بمنفعة أخرى أو مختلفا كمنفعة دار بمنفعة عبد قال أحمد : لا بأس أن يكتري بطعام موصوف معلوم وبهذا كله قال الشافعي : قال الله تعالى : إخبارا عن شعيب أنه قال : { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج } فجعل النكاح عوض الإجارة وقال أبو حنيفة فيما حكى عنه : لا تجوز إجارة دار بسكنى أخرى ولا يجوز أن يختلف جنس المنفعة كسكنى دار بمنفعة بهيمة لأن الجنس الواحد عنده يحرم النساء وكره الثوري الإجارة بطعام موصوف والصحيح جوازه وهو قول إسحاق وأصحاب الرأي وقياس قول الشافعي لأنه عوض يجوز في البيع فجاز في الإجارة كالذهب والفضة وما قاله أبو حنيفة لا يصح لأن المنافع في الإجارة ليست في تقدير النسيئة ولو كانت نسيئة ما جاز في جنسين لأنه يكون بيع دين بدين .
فصل : ولو استأجر رجلا ليسلخ له بهيمة بجلدها لم يجز لأنه لا يعلم هل يخرج الجلد سليما أو لا وهل هو ثخين أو رقيق ولأنه لا يجوز أن يكون ثمنا في البيع فلا يجوز أن يكون عوضا في الإجارة كسائر المجهولات فإن سلخه بذلك فله أجر مثله وإن استأجره لطرح ميتة بجلدها فهو أبلغ في الفساد لأن جلد الميتة نجس لا يجوز بيعه وقد خرج بموته عن كونه ملكا وإن فعل فله أجر مثله أيضا .
فصل : ولو استأجر راعيا لغنم بثلث درها ونسلها وصوفها وشعرها أو نصفه أو جميعه لم يجز نص عليه أحمد في رواية جعفر بن محمد النسائي لأن الأجر غير معلوم ولا يصلح عوضا في البيع وقال إسماعيل بن سعيد : سألت أحمد عن الرجل يدفع البقرة إلى الرجل على أن يعلفها ويتحفظها وما ولدت من ولد بينهما فقال : أكره ذلك وبه قال أبو أيوب وأبو خيثمة : ولا أعلم فيه مخالفا وذلك لأن العوض مجهول معدوم ولا يدري أيوجد أم لا والأصل عدمه ولا يصلح أن يكون ثمنا فإن قيل : فقد جوزتم دفع الدابة إلى من يعمل عليها بنصف ربحها قلنا : إنما جاز ثم تشبيها بالمضاربة لأنها عين تنمى بالعمل فجاز اشتراط جزء من النماء والمساقاة كالمضاربة وفي مسألتنا لا يمكن ذلك لأن النماء الحاصل في الغنم لا يقف حصوله على عمله فيها فلم يمكن إلحاقه بذلك وإن استأجره على رعايتها مدة معلومة بنصفها أو جزء معلوم منها صح لأن العمل والأجر والمدة معلوم فصح كما لو جعل الأجر دراهم ويكون النماء الحاصل بينهما بحكم الملك لأنه ملك الجزء المجعول له منها في الحال فيكون له نماؤه كما لو اشتراه .
فصل : ( الحكم الرابع ) إن الإجارة إذا تمت وكانت على مدة ملك المستأجر المنافع المعقود عليها إلى المدة ويكون حدوثها على ملكه وبهذا قال الشافعي : وقال أبو حنيفة : تحدث على ملك المؤجر ولا يملكها المستأجر بالعقد لأنها معدومة فلا تكون مملوكة كالثمرة والولد .
ولنا أن الملك عبارة عن حكم يحصل به تصرف مخصوص وقد ثبت أن هذه المنفعة المستقبلة كان مالك العين يتصرف فيها كتصرفه في العين فلما أجرها صار المستأجر مالكا للتصرف فيها كما كان يملكه المؤجر فثبت أنها كانت مملوكة لمالك العين ثم انتقلت إلى المستأجر بخلاف الولد والثمرة فإن المستأجر لا يملك التصرف فيها وقولهم أن المنافع معدومة قلنا هي مقدرة الوجود لأنها جعلت موردا للعقد والعقد لا يرد إلا على موجود .
فصل : ( الحكم الخامس ) أن المؤجر يملك الأجرة بمجرد العقد إذا أطلق ولم يشترط المستأجر أجلا كما يملك البائع الثمن بالبيع وبهذا قال الشافعي وقال مالك و أبو حنيفة : لا يملكها بالعقد فلا يستحق المطالبة بها إلا يوما بيوم إلا أن يشترط تعجيلها قال أبو حنيفة : إلا أن تكون معينة كالثوب والعبد والدار لأن الله تعالى قال : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } فأمر بإيتائهن بعد الارتضاع وقال النبي A : [ ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره ] فتوعد على الامتناع من دفع الأجر بعد العمل فدل على أنها حالة الوجوب وروي عنه عليه السلام أنه قال : [ أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه ] رواه ابن ماجه ولأنه عوض لم يملك معوضه فلم يجب تسليمه كالعوض في العقد الفاسد فإن المنافع معدومة لم تملك ولو ملكت فلم يتسلمها لأنه يتسلمها شيئا فشيئا فلا يجب عليه العوض مع تعذر التسليم في العقد .
ولنا أنه عوض أطلق ذكره في عقد معاوضة فيستحق بمطلق العقد كالثمن والصداق أو نقول عوض في عقد يتعجل بالشرط فوجب أن يتعجل بمطلق العقد كالذي ذكرنا فأما الآية فيحتمل أنه أراد الإيتاء عند الشروع في الرضاع أو تسليم نفسها كما قال تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } أي إذا أردت القراءة ولأن هذا تمسك بدليل الخطاب ولا يقولون به وكذلك الحديث يحققه أن الأمر بالإيتاء في وقت لا يمنع وجوبه قبله كقوله { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن } والصداق يجب قبل الاستمتاع وهذا هو الجواب عن الحديث ويدل عليه أنه إنما توعد على ترك الإيفاء بعد الفراغ من العمل وقد قلتم يجب الأجر شيئا فشيئا ويحتمل أنه توعده على ترك الإيفاء في الوقت الذي تتوجه المطالبة فيه عادة .
جواب آخر أن الآية والإخبار إنما وردت فيمن استؤجر على عمل فأما ما وقعت الإجارة فيه على مدة فلا تعرض لها به وأما إذا كانت الإجارة على عمل فإن الأجر يملك بالعقد أيضا لكن لا يستحق تسليمه إلا عند تسليم العمل قال ابن أبي موسى : من استؤجر لعمل معلوم استحق الأجر عند إيفاء العمل وإن استؤجر في كل يوم بأجر معلوم فله أجر كل يوم عند تمامه وقال أبو الخطاب : الأجر يملك بالعقد ويستحق بالتسليم ويستقر بمضي المدة وإنما توقف استحقاق تسليمه على العمل لأنه عوض فلا يستحق تسليمه إلا مع تسليم المعوض كالصداق والثمن في المبيع وفارق الإجارة على الأعيان لأن تسليمها جرى مجرى تسليم نفعها ومتى كان على منفعة في الذمة لم يحصل تسليم المنفعة ولا ما يقوم مقامها فتوقف استحقاق تسليم الأجر على تسليم العمل وقولهم لم يملك المنافع قد سبق الجواب عنه فإن قيل فإن المؤجر إذا قبض الأجر انتفع به كله بخلاف المستأجر فإنه لا يحصل له استيفاء المنفعة كلها قلنا لا يمتنع هذا كما لو شرطا التعجيل أو كان الثمن عينا .
فصل : ( الحكم السادس ) أنه إذا شرط تأجيل الأجر فهو إلى أجله وإن شرطه منجما يوما يوما أو شهرا شهرا أو أقل من ذلك أو أكثر فهو على ما اتفقا عليه لأن إجارة العين كبيعها وبيعها يصح بثمن حال أو مؤجل فكذلك إجارتها .
فصل : وإذا استوفى المستأجر المنافع استقر الأجر لأنه قبض المعقود عليه فاستقر عليه البدل كما لو قبض المبيع وإن سلمت إليه العين التي وقعت الإجارة عليها ومضت المدة ولا حاجز له عن الانتفاع استقر الأجر وإن لم ينتفع لأن المعقود عليه تلف تحت يده وهي حقه فاستقر عليه بدلها كثمن المبيع إذا تلف في يد المشتري وإن كانت الإجارة على عمل فتسلم المعقود عليه ومضت مدة يمكن استيفاء المنفعة فيها مثل أن يكتري دابة ليركبها إلى حمص فقبضها ومضت مدة يمكن ركوبها فيها فقال أصحابنا : يستقر عليه الأجر وهو مذهب الشافعي لأن المنافع تلفت تحت يده باختياره فاستقر الضمان عليه كما لو تلفت العين في يد المشتري وكما لو كانت الإجارة على مدة فمضت وقال أبو حنيفة : لا يستقر الأجر عليه حتى يستوفي المنفعة لأنه عقد على منفعة غير مؤقتة بزمن فلم يستقر بدلها قبل استيفائها كالأجر للأجير المشترك فإن بذل تسليم العين فلم يأخذها المستأجر حتى انقضت المدة استقر الأجر عليه لأن المنافع تلفت باختياره في مدة الإجارة فاستقر عليه الأجر كما لو كانت في يده وإن بذل تسليم العين وكانت الإجارة على عمل فقال أصحابنا : إذا مضت مدة يمكن الاستيفاء فيها استقر عليه الأجر وبهذا قال الشافعي لأن المنافع تلفت باختياره .
وقال أبو حنيفة : لا أجر عليه وهو أصح عندي لأنه عقد على ما في الذمة فلم يستقر عوضه ببذل التسليم كالمسلم فيه ولأنه عقد على منفعة غير مؤقتة بزمن فلم يستقر عوضها بالبذل كالصداق إذا بذلت تسليم نفسها وامتنع الزوج من أخذها وإن كان هذا في إجارة فاسدة ففيما إذا عرضها على المستأجر فلم يأخذها لا أجر عليه لأنها لم تتلف تحت يده ولا في ملكه وإن قبضها ومضت المدة أو مدة يمكن استيفاء المنفعة فيها أو لا يمكن فعن أحمد روايتان إحداهما : عليه أجر المثل لمدة بقائها في يده وهو قول الشافعي لأن المنافع تلفت تحت يده بعوض لم يسلم له فرجع إلى قيمتها كما لو استوفاها والثانية : لا شيء له وهو قول أبي حنيفة لأنه عقد فاسد على منافع لم يستوفها فلم يلزمه عوضها كالنكاح الفاسد وإن استوفى المنفعة في العقد الفاسد فعليه أجر المثل وبه قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة : يجب أقل الأمرين من المسمى أو أجر المثل بناء منه على أن المنافع لا تضمن إلا بالعقد .
ولنا أن ما ضمن بالمسمى في العقد الصحيح وجب ضمانه بجميع القيمة في الفاسد كالأعيان وما ذكره لا نسلمه والله أعلم