ثبوت الخيار في المصراة ورد بدل لبنها .
التصرية جمع اللبن في الضرع قال صرى الشاة وصرى اللبن في ضرع الشاة بالتشديد والتخفيف ويقال : صرى الماء في الحوض وصرى الطعام في فيه وصرى الماء في ظهره إذا ترك الجماع وأنشد أبوعبيده : .
( رأيت غلاما قد صرى في فقرته ... ماء الشباب عنفوان شرته ) .
وماء صري وصر إذا طال استنفاعه وقال البخاري : أصل التصرية حبس الماء يقال صريت الماء ويقال للمصراة المحفلة وهو من الجمع أيضا ومنه سميت مجامع الناس محافل والتصرية حرام إذا أراد بذلك التدليس على المشتري لقول النبي A : [ لا تصروا ] وقوله [ من غشنا فليس منا ] وروى ابن ماجة في سننه [ عن النبي A أنه قال : بيع المحفلات خلابة ولا تحل الخلابة لمسلم ] رواه ابن عبد البر ولا يحل خلابة لمسلم .
مسألة : قال : وإذا اشترى مصراة وهو لا يعلم فهو بالخيار بين أن يقبلها أو يردها وصاعا من تمر .
الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة : .
الفصل الأول : أن من اشترى مصراة من بهيمة الأنعام لم يعلم تصريتها ثم علم فله الخيار في الرد والإمساك وروي ذلك عن ابن مسعود و ابن عمر وأبي هريرة وأنس وإليه ذهب مالك و ابن أبي ليلى و الشافعي و إسحاق و أبو يوسف وعامة أهل العلم وذهب أبو حنيفة و محمد إلى أنه لا خيار له لأن ذلك ليس بعيب بدليل أنه لو لم تكن مصراة فوجدها أقل لبنا من أمثالها لم يملك ردها والتدليس بما ليس بعيب لا يثبت الخيار كما لو عقلها فانتفخ بطنها فظن المشتري أنها حامل ولنا ما روى أبو هريرة [ عن النبي A أنه قال : لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعا من تمر ] متفق عليه وروى ابن عمر [ عن النبي A أنه قال من ابتاع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام إن ردها رد معها مثل أو مثلي لبنها قمحا ] رواه أبو داود ولأن هذا تدليس بما يختلف الثمن باختلافه فوجب به الرد كما لو كانت شمطاء فسود شعرها وقياسهم يبطل بتسويد الشعر فإن بياضه ليس بعيب كالكبر وإذا دلسه ثبت له الخيار وأما انتفاخ البطن فقد يكون من الأكل والشرب فلا معنى لحمله على الحمل وعلى أن هذا القياس يخالف النص وابتاع قول رسول الله A أولى إذا تقرر هذا فإنما يثبت الخيار بشرط أن لا يكون المشتري عالما بالتصرية فإن كان عالما لم يثبت له الخيار وقال أصحاب الشافعي : يثبت له الخيار في وجه للخبر ولأن انقطاع اللبن لم يوجد وقد يبقى على حاله فلم يجعل ذلك رضا كما لو تزوجت عنينا ثم طلبت الفسخ ولنا أنه اشتراها عالما بالتدليس فلم يكن له خيار كما لو اشترى من سود شعرها عالما بذلك ولأنه دخل على بصيرة فلم يثبت له الرد كما لو اشترى معيبا يعلم عيبه وبقاء اللبن على حاله نادر بعيد لا يعلق عليه حكم والأصل الذي قاسوا عليه ممنوع ولو اشترى مصراة فصار لبنها عادة واستمر على كثرته لم يكن له الرد وقال أصحاب الشافعي : له الرد في أحد الوجهين للخبر ولأن التدليس كان موجودا حال العقد فأثبت الرد كما لو نقص اللبن ولنا أن الرد جعل لدفع الضرر بنقص اللبن ولم يوجد فامتنع الرد ولأن العيب لم يوجد ولم تختلف صفة المبيع عن حالة العقد فلم يثبت التدليس ولأن الخيار ثبت لدفع الضرر ولم يوجد ضرر .
الفصل الثاني : أنه إذا رد لزمه رد بدل اللبن وهذا قول كل من جوز ردها وهو مقدر في الشرع بصاع من تمر كما في الحديث الصحيح الذي أوردناه وهذا قول الليث و إسحاق و الشافعي و أبي عبيد و أبي ثور وذهب مالك وبعض الشافعية إلى أن الواجب من غالب قوت البلد لأن في بعض الحديث [ ورد معها صاعا من طعام ] وفي بعضها [ ورد معها مثل أو مثلي لبنها قمحا ] فجمع بين الأحاديث وجعل تنصيصه على التمر لأنه غالب قوت البلد في المدينة ونص على القمح لأنه غالب قوت بلد آخر وقال يوسف : يرد قيمة اللبن لأنه ضمان متلف فكان مقدرا بقيمته كسائر المتلفات وحكي ذلك عن ابن أبي ليلى وحكي عن زفر أنه يرد صاعا من تمر أو نصف صاع من بر بناء على قولهم في الفطرة والكفارة .
ولنا الحديث الصحيح الذي أوردناه وهو المعتمد عليه في هذه المسألة وقد نص فيه على التمر فقال : [ إن شاء ردها وصاعا من تمر ] وفي لفظ للبخاري [ من اشترى غنما مصراة فاحتلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر ] وفي لفظ مسلم رواه ابن سيرين عن أبي هريرة [ عن النبي A ورد صاعا من تمر لا سمراء ] وفي لفظ له [ طعاما لا سمراء ] يعين لا يرد قمحا والمراد بالطعام ههنا التمر لأنه مطلق في أحد الحديثين مقيد في الآخر في قضية واحدة والمطلق فيما هذه سبيله يحمل على المقيد وحديث ابن عمر مطرح الظاهر بالاتفاق إذ لا قائل بإيجاب مثل لبنها أو مثلي لبنها قمحا ثم قد شك فيه الراوي وخالفته الأحاديث الصحاح فلا يعول عليه وقياس أبي يوسف مخالف للنص فلا يلتفت إليه ولا يبعد أن يقدر الشرع بدل هذا المتلف قطعا للخصومة ودفعا للتنازع كما قدر بدل الآدمي ودية أطرافه ولا يمكن حمل الحديث على أن الصاع كان قيمة اللبن فلذلك أوجبه لوجوه ثلاثة أحدها : أن القيمة هي الأثمان لا التمر الثاني : أنه أوجب في المصراة من الإبل والغنم جميعا صاعا من تمر مع اختلاف لبنها الثالث : أن لفظه للعموم فيتناول كل مصراة ولا يتفق أن تكون قيمة لبن كل مصراة صاعا وإن أمكن أن يكون كذلك فيتعين إيجاب الصاع لأنه القيمة التي عين الشارع إيجابها فلا يجوز أن يعدل عنها وإن قدمت هذا فإنه يجب أن يكون الصاع من التمر جيدا غير معيب لأنه واجب بإطلاق الشارع فينصرف إلى ما ذكرناه كالصاع الواجب في الفطرة ولا يجب أن يكون من الأجود بل يجوز أن يكون من أدنى ما يقع عليه اسم الجيد ولا فرق بين أن تكون قيمة التمر مثل قيمة الشاة أو أقل أو أكثر نص عليه أحمد وليس هذا جميعا بين البدل والمبدل لأن التمر بدل اللبن قدره الشرع به كما قدر في يدي العبد قيمته وفي يديه ورجليه قيمته مرتين مع بقاء العبد على ملك سيده وإن عدم التمر في موضعه فعليه قيمته في الموضع الذي وقع عليه العقد لأنه بمثابة عين أتلفها فيجب عليه قيمتها .
فصل : وإن علم بالتصرية قبل حلهبا مثل أن أقربه البائع أو شهد به من تقبل شهادته فله ردها ولا شيء معها لأن التمر إنما وجب بدلا للبن المحتلب ولذلك [ قال رسول الله A : من اشترى غنما مصراة فاحتلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر ] ولم يأخذ لها لبنا ههنا فلم يلزمه رد شيء معها وهذا قول مالك قال ابن عبد البر : هذا ما لا خلاف فيه وأما لو احتلبها وترك اللبن بحاله ثم ردها رد لبنها ولا يلزمه أيضا شيء لأن المبيع إذا كان موجودا فرده لم يلزمه بدله فإن أبى البائع قبوله وطلب التمر لم يكن له ذلك إذا كان بحاله لم يتغير وقيل لا يلزمه لظاهر الخبر ولأنه قد نقص بالحلب وكونه في الضرع أحفظ له ولنا أنه قدر على رد المبدل فلم يلزمه البدل كسائر المبدلات مع ابدالها والحديث المراد به رد التمر عدم اللبن لقوله : [ ففي حلبتها صاع من تمر ] ولما ذكرنا من المعنى وقولهم أن الضرع أحفظ له لا يصح لأنه لا يمكن ابقاؤه في الضرع على الدوام وبقاؤه يضر بالحيوان وإن كان اللبن قد تغير ففيه وجهان أحدهما : لا يلزمه قبوله وهذا قول مالك للخبر ولأنه قد نقص بالحموضة أشبه ما لو أتلفه والثاني : يلزمه قبوله لأن النقص حصل باستعلام المبيع وبتغرير البائع وتسليطه على حلبة فلم يمنع الرد كلبن غير المصراة .
فصل : وإذا رضي بالتصرية فأمسكها ثم وجد بها عيبا آخر ردها به لأن رضاه بعيب لا يمنع الرد بعيب آخر كما لو اشترى أعرج فرضي بعيبه ثم أصاب به برصا وإذا رد لزمه صاع من تمر عوض اللبن لأنه قد جعل عوضا له فيما إذا ردها بالتصرية فيكون عوضا له مطلقا .
فصل : ولو اشترى شاة غير مصراة فاحتلبها ثم وجد بها عيبا فله الرد ثم إن لم يكن في ضرعها لبن حال العقد فلا شيء عليه لأن ما حدث من اللبن بعد العقد يحدث على ملك المشتري وإن كان فيه لبن حال العقد إلا أنه شيء لا يخلو الضرع من مثله في العادة فلا شيء فيه لأن مثل هذا لا عبرة به ولا قيمة له في العادة فهو تابع لما حدث وإن كان كثيرا وكان قائما بحاله فهل له رده ؟ يبنى على رد لبن التصرية وقد سبق فإن قلنا ليس له رده كان بقاؤه كتلفه وهل له أن يرد المبيع ؟ يخرج على الروايتين فيما إذا اشترى شيئا فتلف منه جزء أو تعيب والأشهر في المذهب أنه يرده فعلى هذا يلزمه رد مثل اللبن لأنه من ذوات الأمثال والأصل ضمن ما كان من المثليات بمثله إلا أنه خولف في لبن التصرية بالنص ففيما عداه يبقى على الأصل ولأصحاب الشافعي في هذا الفصل نحو مما ذكرنا