شروط بيع العرايا وحكمها .
مسألة : قال : والعرايا التي أرخص فيها الرسول الله A هو أن يوهب للإنسان من النخل ما ليس فيه خمسة أو سق فيبيعها بخرصها من التمر لمن يأكلها رطبا .
فصل : أولها : في إباحة بيع العرايا في الجملة وهو قول أكثر أهل العلم منهم مالك وأهل المدينة و الأوزاعي وأهل الشام و الشافعي و إسحاق و ابن المنذر وقال أبو حنيفة : لا يحل بيعها لأن النبي A نهى عن بيع المزابنة و المزابنة بيع الثمر بالثمر متفق عليه ولأنه يبيع الرطب بالتمر من غير كيل أحدهما فلم يجز كما لو كان على وجه الأرض أو فيما زاد على خمسة أوسق ولنا ما روى أبو هريرة [ أن النبي A رخص في العرايا في خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق ] متفق عليه ورواه زيد بن ثابت وسهل بن أبي حثمة وغيرهما وخرجه أئمة الحديث في كتبهم وحديثهم في سياقة إلا العرايا كذلك في المتفق عليه وهذه زيادة تجب الأخذ بها ولو قدر تعارض الحديثين وجب تقديم حديثنا لخصوصه جمعا بين الحديثين وعملا بكلا النصين وقال ابن المنذر : الذي نهى عن المزابنة هو الذي أرخص في العرايا وطاعة رسول الله A أولى والقياس لا يصار إليه مع النص مع أن في الحديث أنه أرخص في العرايا والرخصة المحظور مع وجود السبب الحاظر فلو منع وجود السبب من الاستباحة لم يبق لنا رخصة بحال .
الفصل الثاني : إنها لا تجوز في زيادة على خمسة أوسق بغير خلاف نعلمه وتجوز فيما دون خمسة أوسق بغير خلاف بين القائلين بجوازها فأما في خمسة أوسق فلا يجوز عند أمامنا C وبه قال ابن المنذر و الشافعي في أحد قوليه وقال مالك و الشافعي في قول يجوز ورواه إسماعيل بن سعيد عن أحمد لأن في حديث زيد وسهل أنه رخص في العرية مطلقا ثم استثنى ما زاد على الخمسة في حديث أبي هريرة وشك في الخمسة فاستثنى اليقين وبقي المشكوك فيه على مقتضى الإباحة .
ولنا [ أن النبي A نهى عن المزابنة والمزابنة بيع الرطب بالتمر ] ثم أرخص في العرية فيما دون خمسة أوسق وشك في الخمسة فيبقى على العموم في التحريم ولأن العرية رخصة بنيت على خلاف النص والقياس يقينا فيما دون الخمسة والخمسة مشكوك فيها فلا تثبت إباحتها مع الشك وروى ابن المنذر بإسناده أن النبي A رخص في بيع العرية في الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة والتخصيص بهذا يدل على أنه لا يجوز الزيادة في العدد عليه كما اتفقنا على أنه لا تجوز الزيادة على الخمسة لتخصيصه إياها بالذكر وروى مسلم عن سهل [ أن رسول الله A رخص في بيع العرية النخلة والنخلتين ] ولأن خمسة الأوسق في حكم ما زاد عليها بدليل وجوب الزكاة فيها دون ما نقص عنها ولأنها قدر تجب الزكاة فيه فلم يجز بيعه عرية كالزائد عليها فأما قولهم : أرخص في العرية مطلقا فلم يثبت أن الرخصة المطلقة سابقة على الرخصة المقيدة ولا متأخرة عنها بل الرخصة واحدة رواها بعضهم مطلقة وبعضهم مقيدة فيجب حمل المطلق على المقيد ويصير القيد المذكور في أحد الحديثين كأن مذكور في الآخر ولذلك يقيد فيما زاد على الخمسة اتفاقا .
فصل : ولا يجوز أن يشتري أكثر من خمسة أوسق فيما زاد على صفقة سواء اشتراها من واحد أو من جماعة وقال الشافعي : يجوز للإنسان بيع جميع ثمر حائطه عرايا م نرجل واحد ومن رجال في عقود متكررة لعموم حديث زيد وسهل ولأن كل عقد جاز مرة جاز أن يتكرر كسائر البيوع ولنا عموم النهي عن المزابنة استثنى منه العرية فيما دون خمسة أوسق فما زاد يبقى على العموم في التحريم ولأن ما لا يجوز عليه العقد مرة إذا كان نوعا واحدا لا يجوز في عقدين كالذي على وجه الأرض وكالجمع بين الأختين فأما حديث سهل فإنه مقيد بالنخلة والنخلتين بدليل ما روينا فيدل على تحريم الزيادة عليهما ثم إن المطلق يحمل على المقيد كما في العقد الواحد فأما إن باع رجل عريتين من رجلين فيهما أكثر من خمسة أوسق جاز وقال أبو بكر و القاضي : لا يجوز لما ذكرنا في المشتري .
ولنا أن المغلب في التجويز حاجة المشتري بدليل ما روى محمود بن لبيد قال قلت لزيد بن ثابت : ما عراياكم هذه ؟ فسمى رجالا محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله A أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يبياعون به رطبا يأكلونه وعندهم فضول من التمر فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي في أيديهم يأكلونه رطبا وإذا كان سبب الرخصة حاجة المشتري لم تعتبر حاجة البائع إلى البيع أفضى إلى أن لا يحصل الارفاق إذ لا يكاد يتفق وجود الحاجتين فتسقط الرخصة فإن قلنا لا يجوز ذلك بطل العقد الثاني وإن اشترى عريتين أو باعهما وفيهما أقل من خمسة أوسق جاز وجها واحدا .
الفصل الثالث : أنه لا يشترط في بيع العرية أن تكون موهوبة لبائعها هذا ظاهر كلام أصحابنا وبه قال الشافعي وظاهر قول الخرقي أنه شرط وقد روى الأثرم قال : سمعت أحمد سئل عن تفسير العرايا فقال العرايا أن يعري الرجل لجار أو القرابة للحاجة أو المسكنة فللمعري أن يبيعها ممن شاء وقال مالك : بيع العرايا الجائز هو أن يعري الرجل لرجل نخلات من حائطه ثم يكره صاحب الحائط دخول الرجل المعري لأنه ربما كان مع أهله في الحائط فيؤذيه دخول صاحبه عليه فيجوز أن يشتريها منه واحتجوا بأن العرية في اللغة هبة ثمرة النخيل عاما قال أبو عبيد : الاعراء أن يجعل الرجل لرجل ثمرة نخله عامها ذلك قال الشاعر الأنصاري يصف النخل : .
( ليست بسنهاء ولا رجبية ... ولكن عرايا في السنين الجوائح ) .
يقول إنا نعريها الناس فتعين صرف اللفظ إلى موضوعه لغة ومقتضاه في العربية ما لم يوجد ما يصرفه عن ذلك ولنا حديث زيد بن ثابت وهو حجة على مالك في تصريحه بجواز بيعها من غير الواهب ولأنه لو كان لحاجة الواهب لما اختص بخمسه أو سق لعدم اختصاص الحاجة بها ولم يجز بيعها بالتمر لأن الظاهر من حال صاحب الحائط الذي له النخيل الكثير يعريه الناس إنه لا يعجز عن أداء ثمن العرية وفيه حجة على من اشترط كونها موهوبة لبائعها لأن علة الرخصة حاجة المشتري إلى أكل الرطب ولا ثمن معه سوى التمر فمتى وجد ذلك جاز البيع ولأن اشتراط كونها موهوبة مع اشتراط حاجة المشتري إلى أكلها رطبا ولا ثمن معه يفصي إلى سقوط الرخصة إذ لا يكاد يتفق ذلك ولأن ما جاز بيعه إذا كان موهوبا جاز وإن لم يكن موهوبا كسائر الأموال وما جاز بيعه لواهبه جاز لغيره كسائر الأموال وإنما سمي عرية لتعريه عن غيره وافراده بالبيع .
الفصل الرابع : إنه إنما يجوز بيعها بخرصها من التمر لا أقل منه ولا أكثر ويجب أن يكون التمر الذي يشترى به معلوما بالكيل ولا يجوز جزافا لا نعلم في هذا عند من أباح بيع العرايا اختلافا لما روى زيد بن ثابت [ أن رسول الله A أرخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلا ] متفق عليه ولمسلم أن تؤخذ بمثل خرصها تمرا يأكلها أهلها رطبا ولأن الأصل اعتبار الكيل من الطرفين سقط في أحدهما للتعذر فيجب في الآخر بقضية الأصل ولأن ترك الكيل من الطرفين يكثر الغرر وفي تركه من أحدهما يقلل الغرر ولا يلزم من صحته مع قلة الغرر صحته مع كثرته ومعنى خرصها بمثلها من التمر أن يطيف الخارص بالعرية فينظركم يجيء منها تمرا وبهذا قال الشافعي ونقل حنبل عن أحمد أنه قال : يخرصها رطبا ويعطي تمرا رخصه وهذا يحتمل الأول ويحتمل أنه يشتريها بتمر مثل الرطب الذي عليها لأنه بيع اشترطت المماثلة فيه فاعتبرت حال البيع كسائر البيوع ولأن الأصل اعتبار المماثلة في الحال وأن لا يباع الرطب بالتمر خولف الأصل في بيع الرطب بالتمر فيبقى فيما عداه على قضية الدليل وقال القاضي : الأول أصح لأنه يبنى على خرص الثمار في العشر والصحيح ثم خرصه تمرا ولأن المماثلة في بيع التمر بالتمر معتبرة حالة الادخار وبيع الرطب بمثله تمرا يفضي إلى فوات ذلك فأما إن اشتراها بخرصها رطبا لم يجز وهذا أحد الوجوه لأصحاب الشافعي والثاني : يجوز والثالث : لا يجوز مع اتفاق النوع ويجوز مع اختلافه ووجه جوازه ما روى الجوزجاني عن أبي صالح بن الليث عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر عن زيد بن ثابت عن رسول الله A أنه أرخص بعد ذلك في بيع العرية بالطرب أو التمر ولم يرخص في غير ذلك ولأنه إذا جاز بيع الرطب بالتمر مع اختصاص أحدهما بالنقص في ثاني الحال فلأن يجوز مع عدم ذلك أولى .
ولنا ما روى مسلم بإسناده عن زيد بن ثابت [ أن رسول الله A أرخص في العرايا أن تؤخذ بمثل خرصها تمرا ] وعن سهل بن أبي حثمة [ أن رسول الله A نهى عن بيع التمر بالتمر وقال : ذلك الربا تلك المزابنة ] إلا أنه رخص في العرية النخلة والنخلتين يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا يأكلونها رطبا ولأنه مبيع يجب فيه مثله تمرا فلم يجز بيعه بمثله رطبا كالتمر الجاف ولأن من ما رطب فهو مستغن عن شراء الرطب بأكل ما عنده وبيع العرايا يشترط فيه حاجة المشتري على ما أسلفناه وحديث ابن عمر شك في الرطب والتمر فلا يجوز العمل به مع الشك سيما وهذه الأحاديث تنبيه وتزيل الشك .
فصل : ويشترك في بيع العرايا التقابض في المجلس وهذا قول الشافعي ولا نعلم فيه مخالفا لأنه بيع تمر بتمر فاعتبر فيه شروطه إلا ما استثناه الشرع مما لا يمكن اعتباره في بيع العرايا والقبض في كل واحد منهما على حسبه ففي التمر اكتياله أو نقله وفي الثمرة التخلية وليس من شروطه حضور التمر عند النخيل بل لو تبايعا بعد معرفة التمر بالثمرة ثم مضيا جميعا إلى النخلة فسلمها إلى مشتريها ثم مشيا إلى التمر فتسلمه من مشتريها أو تسلم التمر ثم مضيا إلى النخلة جميعا فسلمها إلى مشتريها أو سلم النخلة ثم مضيا إلى التمر فتسلمه جاز لأن التفرق لا يحصل قبل القبض إذا ثبت هذا فإن بيع العرية يقع على وجهين أحدهما : أن يقول بعتك ثمرة هذه النخلة بكذا وكذا من التمر ويصفه والثاني : أن يكيل من التمر بقدر خرصها ثم يقول بعتك هذا بهذا أو يقول بعتك ثمرة هذه النخلة بهذا التمر ونحو هذا وإن باعه بمعين فقبضه بنقله وأخذه وإن باعه بموصوف فقبضه باكتياله .
الفصل الخامس : أنه لا يجوز بيعها إلا المحتاج إلى أكلها رطبا ولا يجوز بيعها لغني وهذا أحد قول الشافعي وأباحها في القول الآخر مطلقا لكل واحد لأن كل بيع جاز للمحتاج جاز للغني كسائر البياعات ولأن حديث أبي هريرة وسهل مطلقان ولنا حديث زيد بن ثابت حين سأله محمود بن لبيد : ما عراياكم هذه ؟ فسمى رجالا محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله A أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطبا يأكلونه وعندهم فضول من التمر فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر يأكلونه رطبا ومتى خولف الأصل بشرط لم تجز مخالفته بدون ذلك الشرط ولأن ما أبيح للحاجة لم يبح مع عدمها كالزكاة للمساكين والترخص في السفر فعلى هذا متى كان صاحبها غير محتاج إلى أكل الرطب أو كان محتاجا ومعه من الثمن ما يشتري به العرية لم يجز له شراؤها بالتمر وسواء باعها لواهبها تحرزا من دخول صاحب العرية حائطه كمذهب مالك أو لغيره فإنه لا يجوز وقال ابن عقيل يباح ويحتمله كلام أحمد لأن الحاجة وجدت من الجانبين فجاز كما لو كان المشتري محتاجا إلى أكلها ولنا حديث زيد الذي ذكرناه والرخصة لمعنى خاص لا تثبت مع عدمه ولأن في حديث زيد وسهل [ يأكلها أهلها رطبا ] ولو جاز لتخليص المعري لما شرط ذلك فيشترط إذا في بيع العرية شروط خمسة : أن يكون فيما دون خمسة أو سق وبيعها بخرصها من التمر وقبض ثمنها قبل التفرق وحاجة المشتري إلى أكل الرطب وأن لا يكون معه ما يشتري به سوى التمر واشترط القاضي وأبو بكر شرطا سادسا وهو حاجة البائع إلى البيع واشترط الخرقي كونها موهوبة لبائعها واشترط أصحابنا بناء العقد أن يأكلها أهلها رطبا فإن تركها حتى تصير تمرا بطل العقد وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى