تلف المبيع وانتقاله ونماؤه وضمانه والتصرف به في مدة الاختيار .
فصل : ومتى تصرف المشتري في المبيع في مدة الخيار تصرفا يختص الملك بطل خياره كإعتاق العبد وكتابته وبيعه وهبته ووطء الجارية أو مباشرتها أو لمسها لشهوة ووقف المبيع وركوب الدابة لحاجته أو سفر أو حمله عليها أو سكنى الدار ورمها وحصاد الزرع وقصل منه فما وجد من هذا فهو رضاء بالمبيع ويبطل به خياره لأن الخيار يبطل بالتصريح بالرضاء وبدلالته ولذلك يبطل خيار المعتقة بتمكينها الزوج من وطئها وقال لها رسول الله A : [ إن وطئك فلا خيار لك ] وهذا مذهب أبي حنيفة و الشافعي فأما ركوب الدابة لينظر سيرها والطحن على الرحى ليعلم قدر طحنها وحلب الشاة ليعلم قدر لبنها ونحو ذلك فليس برضا بالمبيع ولا يبطل خياره لأن ذلك هو المقصود بالخيار وهو اختيار المبيع وذكر أبو الخطاب وجها في أن تصرف المشتري لا يبطل خياره ولا يبطل إلا بالتصريح بالرضا ولا يصح لأن هذا يتضمن إجازة البيع ويدل على الرضا به فبطل به الخيار كصريح القول ولأن التصريح إنما أبطل الخيار لدلالته على الرضا به فما دل على الرضا به يقوم مقامه ككنايات الطلاق تقوم مقام صريحه وإن عرضه على البيع أو باعه بيعا فاسدا أو عرضه على الرهن أو غيره من التصرفات أو وهبة فلم يقبل الموهوب له بطل خياره لأن ذلك يدل على الرضا به قال أحمد : إذا اشترط الخيار فباعه قبل ذلك بربح فالربح للمبتاع لأنه وجب عليه حين عرضه وإن استخدم المشتري المبيع ففيه روايتان إحداهما : لا يبطل خياره وقال أبو الصقر : قلت لأحمد : رجل اشترى جارية وله الخيار فيها يومين فانطلق بها فغسلت رأسه أو غمزت رجله أو طحنت له أو خبزت هل يستوجبها بذلك ؟ قال : لا حتى يبلغ منها مالا يحل لغيره قلت : فإن مشطها أو خضبها أو حفها هل يستوجبها بذلك ؟ قال : قد بطل خياره لأنه وضع يده عليها وذلك لان الاستخدام لا يختص الملك ويراد لتجربة المبيع فأشبه ركوب الدابة ليعلم سيرها ونقل حرب عن أحمد أنه يبطل خياره لأنه انتفاع بالمبيع أشبه لمسها لشهوة ويمكن أن يقال ما قصد به من الاستخدام تجربة المبيع لا يبطل الخيار كركوب الدابة ليعلم سيرها وما لا يقصد به ذلك يبطل الخيار كركوب الدابة لحاجته وإن قبلت الجارية المشتري لم يبطل خياره وهذا مذهب الشافعي وقال أبو الخطاب : يحتمل أن يبطل خياره إذا لم يمنعها لأن إقراره لها على ذلك يجري مجرى استمتاعه بها وقال أبو حنيفة : إن قبلته لشهوة بطل خياره لأنه استمتاع يختص الملك فأبطل خياره كقبلته لها ولنا أنها قبلة لأحد المتعاقدين فلم يبطل خياره كما لو قبلت البائع ولأن الخيار له لا لها فلو ألزمناه بفعلها لألزمناه بغير رضاه ولا دلالة عليه وفارق ما إذا قبلها فإنه وجد منه ما يدل على الرضا بها و متى بطل خيار المشتري بتصرفه فخيار البائع باق بحاله لأن خياره لا يبطل برضا غيره إلا أن يكون تصرف المشتري بإذن البائع فإنه يبطل خيارهما معا لوجود الرضا منهما بإبطاله وإن تصرف البائع في المبيع بما يفتقر إلى الملك كان فسخا للبيع وهذا مذهب أبي حنيفة و الشافعي لما ذكرناه في المشتري ولأنه أحد المتعاقدين فتصرفه في المبيع اختيار له كالمشتري وعن أحمد رواية أخرى أنه لا ينفسخ البيع بذلك لأن الملك انتقل عنه فلم يكن تصرفه فيه استرجاعا له كمن وجد ماله عند مفلس فتصرف فيه .
فصل : وينتقل الملك إلى المشتري في بيع الخيار بنفس العقد في ظاهر المذهب ولا فرق بين كون الخيار لهما أو لأحدهما أيهما كان وهذا أحد أقوال الشافعي وعن أحمد أن الملك لا ينتقل حتى ينقضي الخيار وهو قول مالك والقول الثاني للشافعي وبه قال أبو حنيفة : إذا كان الخيار لهما أو للبائع وإن كان للمشتري خرج عن ملك البائع فلم يدخل في ملك المشتري لأن البيع الذي فيه الخيار عقد قاصر فلم ينقل الملك كالهبة قبل القبض والقول الثالث : للشافعي أن الملك موقوف مراعى فإن امضينا البيع تبينا أن الملك للمشتري وإلا تبينا أنه لم ينتقل عن البائع .
ولنا قول النبي A : [ من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع ] رواه مسلم وقوله : [ من باع نخلا بعد أن تؤبر فثمرته للبائع إلا أن يشترطه المبتاع ] متفق عليه فجعله للمبتاع بمجرد اشتراطه وهو عام في كل بيع ولأنه بيع صحيح فنقل عقيبه كالذي لا خيار له ولأن البيع تمليك بدليل قوله ملكتك فيثبت به الملك كسائر البيع ويحققه أن التمليك يدل على نقل الملك إلى المشتري ويقتضيه لفظه والشرع قد اعتبره وقضى بصحته فيجب أن يعتبره فيما يقتضيه ويدل عليه لفظه وثبوت الخيار فيه لا ينافيه كما لو باع عرضا بعرض فوجد كل واحد منهما بما اشتراه عيبا وقولهم : إنه قاصر غير صحيح وجواز فسخه لا يوجب قصوره ولا يمنع نقل الملك كبيع المعيب وامتناع التصرف إنما كان لأجل حق الغير فلا يمنع ثبوت الملك كالمرهون والمبيع قبل القبض وقولهم : إنه يخرج من ملك البائع ولا يدخل في ملك المشتري لا يصح لأنه يفضي إلى موجود ملك لا مالك له وهو محال ويفضي أيضا إلى ثبوت الملك للبائع في الثمن من غير حصول عوضه للمشتري إلى نقل ملكه عن المبيع من غيره ثبوته في عوضه وكون العقد معاوضة يأبى ذلك وقول أصحاب الشافعي إن الملك موقوف إن أمضيا البيع تبينا أنه انتقل وإلا فلا غير صحيح أيضا فإن انتقال الملك إنما ينبني على سببه الناقل له وهو البيع وذلك لا يختلف بإمضائه وفسخه فإن إمضاءه ليس من المقتضي ولا شرطا فيه إذ لو كان كذلك لما ثبت قبله والفسخ ليس بمانع فإن المنع لا يتقدم المانع كما أن الحكم لا يسبق سببه ولا شرطه ولأن البيع مع الخيار سبب يثبت عقيبه فيما إذا لم يفسخ فوجب أن يثبته وإن فسخ كبيع المعيب وهذا ظاهر إن شاء الله .
فصل : وما يحصل من غلات المبيع ونمائه المنفصل في مدة الخيار فهو للمشتري أمضيا العقد أو فسخاه قال أحمد فيمن اشترى عبدا فوهب له مال قبل التفرق ثم اختار البائع العبد للمشتري وقال الشافعي : إن امضيا العقد وقلنا : الملك للمشتري أو موقوف فالنماء المنفصل له وإن قلنا : الملك للبائع فالنماء له وإن فسخا العقد وقلنا : الملك للبائع أو موقوف فالنماء له وإلا فهو للمشتري ولنا قول النبي A : [ الخراج بالضمان ] قال الترمذي : هذا حديث صحيح وهذا من ضمان المشتري فيجب أن يكون خراجه له ولأن الملك ينتقل بالبيع على ما ذكرنا فيجب أن يكون نماؤه له كما بعد انقضاء الخيار ويتخرج أن يكون النماء المنفصل للبائع إذا فسخا العقد بناء على الرواية التي قلنا أن الملك لا ينتقل فأما النماء المتصل فهو تابع للمبيع امضيا العقد أو فسخاه كما يتبعه في الرد بالعيب والمقايلة .
فصل : وضمان المبيع على المشتري إذا قبضه ولم يكن مكيلا ولا موزونا فإن تلف أو نقص أو حدث به عيب في مدة الخيار فهو من ضمانه لأنه ملكه وغلته له فكان من ضمانه كما بعد انقضاء الخيار ومؤنته عليه وإن كان عبدا فهل هلال شوال ففطرته عليه لذلك فإن اشترى حاملا فولدت عنده في مدة الخيار ثم ردها على البائع لزمه رد ولدها لأنه مبيع حدثت فيه زيادة متصلة فلزمه رده بزيادته كما لو اشترى عبدين فسمن أحدهما عنده وقال الشافعي في أحد قوليه : لا يرد الولد لأن الحمل لا حكم له لأنه جزء متصل بالأم فلم يأخذ قسطا من الثمن كأطرافها ولنا أن كل ما يسقط عليه الثمن كأطرافها ولنا أن كل ما يقسط عليه الثمن إذا كان منفصلا يقسط عليه إذا كان متصلا كاللبن وما قالوه يبطل بالجزء المشاع كالثلث والربع والحكم في الأصل ممنوع ثم يفارق الحمل الأطراف لأنه يؤول إلى الانفصال وينتفع به منفصلا ويصح إفراده بالعتق والوصية به وله ويرث إن كان من أهل الميراث ويفرد بالدية ويرثها ورثته ولا يصح قولهم إنه لا حكم للحمل لهذه الأحكام وغيرها مما ذكرناه في غير هذا الموضع .
فصل : وإن تصرف أحد المتبايعين في مدة الخيار في المبيع تصرفا ينقل المبيع كالبيع والهبة والوقف أو يشغله كالإجارة والتزوج والرهن والكتابة ونحوها لم يصح تصرفه إلا العتق سواء وجد من البائع أو المشتري لأن البائع تصرف في غير ملكه والمشتري يسقط حق البائع من الخيار واسترجاع المبيع فلم يصح تصرفه فيه كالتصرف في الرهن إلا أن يكون الخيار للمشتري وحده فينفذ تصرفه ويبطل خياره لأنه لا حق لغيره فيه وثبوت الخيار له لا منع تصرفه فيه كالمعيب قال أحمد : إذا اشترط الخيار فباعه قبل ذلك بربح فالربح للمبتاع لأنه قد وجب عليه حين عرضه يعني بطل خياره ولزمه وهذا والله أعلم فيما إذل اشترط الخيار له وحده وكذلك إذا قلنا : إن البيع لا ينقل الملك وكان الخيار لهما أو للبائع وحده فتصرف فيه البائع نفذ تصرفه وصح لأنه ملكه وله إبطال خيار غيره وقال ابن أبي موسى في تصرف المشتري في المبيع قبل التفرق ببيع أو هبة روايتان إحداهما : لا يصح لأن في صحته إسقاط حق البائع من الخيار والثانية : هو موقوف فإن تفرقا قبل الفسخ صح وإن اختار البائع الفسخ بطل بيع المشتري قال أحمد في رواية أبي طالب إذا اشترى ثوبا بشرط فباعه بربح قبل انقضاء الشرط يرده إلى صاحبه إن طلبه فإن لم يقدر على رده فللبائع قيمة الثوب لأنه استهلك ثوبه أو يصالحه فقوله يرده إن طلبه يدل على أن وجوب رده مشروط بطلبه وقد روى البخاري [ عن ابن عمر أنه كان مع رسول الله A في سفر فكان على بكر صعب وكان يتقدم النبي A فيقول له أبوه لا يتقدم النبي A أحد فقال له النبي A بعنيه فقال عمر هو لك يا رسول الله فقال النبي A هو لك يا عبد الله بن عمر فاصنع به ما شئت ] وهذا يدل على أن التصرف قبل التفرق جائز وذكر أصحابنا في صحة تصرف المشتري بالوقف وجها آخر لأنه تصرف يبطل الشفعة فأشبه العتق والصحيح أنه لا يصح شيء من هذه التصرفات لأن المبيع يتعلق به حق البائع تعلقا يمنع جواز التصرف فمنع صحته كالرهن ويفارق الوقف العتق لأن العتق مبني على التغليب والسراية بخلاف الوقف وأما حديث ابن عمر فليس فيه تصريح بالبيع فإن قول عمر هو لك يحتمل أنه أراد هبة وهو الظاهر فإنه لم يذكر ثمنا والهبة لا يثبت فيها الخيار وقال الشافعي : تصرف البائع في المبيع بالبيع والهبة ونحوهما صحيح لأنه إما أن يكون على ملكه فيملك بالعقد عليه وإما أن يكون للمشتري والبائع يملك فسخه فجعل البيع والهبة فسخا وأما تصرف المشتري فلا يصح إذا قلنا الملك لغيره فإذا قلنا الملك له ففي صحة تصرفه وجهان .
ولنا على إبطال تصرف البائع أنه تصرف في ملك غيره بغير ولاية شرعية ولا نيابة عرفيه فلم يصح كما بعد الخيار وقولهم يملك الفسخ قلنا إلا أن ابتداء التصرف لم يصادف ملكه فلم يصح كتصرف الأب فيما وهب لولده قبل استرجاعه وتصرف الشفيع في الشقص المشفوع قبل أخذه .
فصل : وإن تصرف المشتري بإذن البائع أو البائع بوكالة المشتري صح التصرف وانقطع خيارهما لأن ذلك يدل على تراضيهما بإمضاء البيع فيقطع به خيارهما كما لو تخايرا ويصح تصرفهما لأن قطع الخيار حصل بالإذن في البيع فيقع البيع بعد انقطاع الخيار وإن تصرف البائع بإذن المشتري احتمل أن يقع صحيحا لأن ذلك دليل على فسخ البيع أو استرجاع المبيع فيقع تصرفه بعد استرجاعه ويحتمل أن لا يصح لأن البائع لا يحتاج إلى إذن المشتري في استرجاع المبيع فيصير كتصرفه بغير إذن المشتري وقد ذكرنا أنه لا يصح كذا ههنا وكل موضع قلنا إن تصرف البائع لا ينفذ ولكن ينفسخ به البيع فإنه متى أعاد ذلك التصرف أو تصرف تصرفا سواه صح لأنه بفسخ البيع عاد إليه الملك فصح تصرفه فيه كما لو فسخ البيع بصريح قوله ثم تصرف فيه وكذلك إن تقدم تصرفه ما ينفسخ به البيع صح تصرفه لما ذكرنا .
فصل : وإن تصرف أحدهما بالعتق نفذ عتق من حكمنا بالملك له وظاهر المذهب أن الملك للمشتري فينفذ عتقه سواء كان الخيار لهما أو لأحدهما لأنه عتق من مالك جائز التصرف فنفذ كما بعد المدة وقول النبي A [ لا عتق فيما لا يملك ابن آدم ] يدل بمفهومة على أنه ينفذ في الملك وملك البائع للفسخ لا يمنع نفوذ العتق كما لو باع عبدا بجارية معينه فإن مشتري العبد ينفذ عتقه مع أن للبائع الفسخ ولو وهب رجل ابنه عبدا فأعقته نفذ عتقه مع ملك الأب لاسترجاعه ولا ينفذ عتق البائع في ظاهر المذهب وقال أبو حنيفة و الشافعي و مالك : ينفذ عتقه لأنه ملكه وإن كان الملك انتقل فإنه يسترجعه بالعتق ولنا أنه اعتاق من غير مالك فلم ينفذ كعتق الأب عبد ابنه الذي وهبه إياه وقد دللنا على أن الملك انتقل إلى المشتري وإن قلنا بالرواية الأخرى وإن الملك لم ينتقل إلى المشتري نفذ عتق البائع دون المشتري وإن أعتق البائع جميعا فإن تقدم عتق المشتري فالحكم على ما ذكرنا وإن تقدم عتق البائع فينبغي أن لا ينفذ عتق واحد منهما لأن البائع لم ينفذ عتقه لكونه أعتق غير مملوكه ولكن حصل بإعتاقه فسخ البيع واسترجاع العبد فلم ينفذ عتق المشتري ومتى أعاد البائع الإعتاق مرة ثانية نفذ إعتاقه لأنه عاد العبد إليه فأشبه ما لو استرجعه بصريح قوله ولو اشترى من يعتق عليه جرى مجرى إعتاقه بصريح قوله وقد ذكرنا حكمه وإن باع عبدا بجارية بشرط الخيار فأعتقهما نفذ عتق الأمة دون العبد وإن أعتق أحدهما ثم أعتق الآخر نظرت فإن أعتق الأمة أولا نفذ عتقها وبطل خياره ولم ينفذ عتق العبد وإن أعتق العبد أولا انفسخ البيع ورجع إليه العبد ولم ينفذ إعتاقه ولا ينفذ عتق الأمة لأنها خرجت بالفسخ عن ملكه وعادت إلى سيدها البائع لها